السجال بين قصر الصافرية وجامع الدراز

2016-09-16 - 3:05 م

مرآة البحرين (خاص): لماذا استغل الملك كل نازلة لفتح سجال سياسي مع الشيخ عيسى قاسم؟ لماذا أراده سجالا لا حوارا؟ ولماذا لم يرض على الأقل، بسجال، يكون على نحو سجال الحرب عند العرب: لا غالب ولا مغلوب!

يقال عند العرب، الحرب سجال، أي أنها مستمرة بين الطرفين دون انتصار طرف أو هزيمة آخر.  أراد الملك الحرب، وفي كل مرة كان يتوهم أنه قاب قوسين من الانتصار وإنهاء الحالة التي شكلها الشيخ عيسى قاسم بهدوئه القاتل لإرادة الغلبة القبلية، ظل خطاب الشيخ يزن الموقف العام ويسعى لفهم المتناقضات السياسية بعقلانية مسؤولة، في حين كانت رعونة صاحب السلطة تبحث عن العداوة القاتلة، تقلص مساحات الحوار، وتوسع مساحات الفرض والهيمنة المطلقة على كل شيء، وصولاً  إلى الإعدام المعنوي (إسقاط الجنسية) وإدخال البلاد والعباد في المجهول .

سيشهد العام 2004 سجالا، بلا لقاء. سيبدأ السجال ما دون الملك والشيخ عيسى، وسيكون خطابا حجاجيا، واستراتيجية بلاغية للهجوم، والقضاء على الخصم، جذوته مستمدة من الصراع والرفض وطلب الغلبة. ثم سيستحيل صاعدا، ليديره الشيخ قاسم في فلك السياسة، و«فن الحرب»، ويحاول أن يحيله إلى «حوار».  

سجال العام 2004، سجال يختلف عما رأينا في الأحوال الشخصية، لكنّه يبقى سجالا. سيضطر الملك الشيخ قاسم إلى الدخول في السجال، الذي دار أولا بين عبد الهادي الخواجه، وخليفة بن سلمان.

أراد الخواجه حوارا (مع الملك) ليعزل عمّه خليفة بن سلمان، من رئاسة الحكومة. تعذّر الحوار، فكان سجالا، استغلّه الملك، ليجعله بين القصر وجامع الدراز.

سنرى في هذه الحلقة كيف أزعجت الملك تصريحات الخواجه ضد خليفة بن سلمان في ندوة «الفقر» وكيف أزعجته خطبة الشيخ عيسى قاسم حولها. ثم سنرى كيف ظهر لقب «سيستاني البحرين»، وكيف جنح الشيخ قاسم إلى مذهب الواقعية في إدارته السجال، مرسّخا قاعدة «طاقة الاحتمال» التي يرفض أن يفهمها الملك حتّى اليوم.   

وسنرى ضمن هذا السجال السياسي، كيف برأ (وقتها) الشيخ عيسى قاسم، الملك، من أن يكون وراء تلك التراجعات، لدفعه إلى القبول بمنطق (لا غالب ولا مغلوب)، ولإقناعه بإدارة البلاد من منطلق بناء الثقة، وتأمين موقف شعبي مساند ومناصر.

سنرى كيف سيثبت الشيخ قاسم مرارا بأنه لا يريد مواجهة، ولا يريد اضطرابا أمنيا، وسنرى كيف سيبعد ظاهر القضية من أن يكون صراعا بين شعب وحكومة. سنرى كيف كان الشيخ قاسم لا يؤمن على الدوام بالصراع والتحشيد والتعبئة.

سيعرّض الملك زعامة الشيخ قاسم لامتحان، كما سيمتحن خططه ونواياه. وحتى حين يثبت الشيخ مرة بعد مرة نقاء سريرته، سنرى كيف أن الملك لن يجازي الإحسان بالإحسان.

وسنرى في هذه الحلقة (كما في الحلقات القادمة) كيف بدت العلاقة بين الشيخ والملك، وكأنّها «مصانة لا تمس»، من كلا طرفيها، حتى أحكم فيها الملك «معول الهدم»، واضعا حدا أخيرا لكل هذا السجال، دون أن يعرف «ماذا بعد»!

الندوات الثلاث

عبد الهادي الخواجة والسيد كامل الهاشمي في ندوة الفقر
عبد الهادي الخواجة والسيد كامل الهاشمي في ندوة الفقر

ستمرّ سنتان، والجماهير الوطنية التي ضحّت من أجل مطلب البرلمان خارج هيكل السلطات وخارج مؤسسات الحكم. لم يتّضح بعد ماذا ستفعل المعارضة السياسية الرسمية، التي حكم عليها أن تكون خارج الملعب منذ الولادة.

ما هو برنامج المقاطعة حينئذ؟ لا شيء! لم يتمركز النشاط السياسي والحقوقي على مدار عامين - من فبراير/شباط 2002 حتى فبراير/شباط 2004 - حول الدستور غير الشرعي. بدلا من ذلك، عقدت ندوات جماهيرية كبرى عن ملفات سياسية أخرى: ندوة التجنيس (يوليو/تموز 2003)، ندوة التمييز والامتيازات (أكتوبر/تشرين الأول 2003)، وندوة الفقر والحقوق الاقتصادية (سبتمبر/أيلول 2004).

بحكم التاريخ، فإن هذه الندوات، صارت مفاصل الحراك السياسي وقتئذ، وتمهيدا طبيعيا لحراك سياسي أكثر مباشرة، وقد فاق الحضور في بعضها 70 ألفا، وكانت ربّما أشد المحطّات استفزازا للحكومة (ما بين 2002 و2005)، أي قبل أن تقرر الجمعيات السياسية، ولو نظريا، الدخول في البرلمان.

وفضلا عن الإثارة والجلبة التي أحدثتها هذه الفعاليات، فإن سجالا ما كان يجب أن يدور حولها على مستوى القصر الملكي من جهة، وجامع الدراز من جهة أخرى.

وإن يكن التعاطي الرسمي مع ندوة التجنيس أشبه بالتهرّب، عزف فيه القصر الملكي عن الدخول في السجال، وآلى الصمت، إلا أن ندوة «التمييز و الامتيازات في البحرين: القانون غير المكتوب»، التي انعقدت في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2003، بتنظيم من مركز البحرين لحقوق الإنسان، كانت لها تداعيات أكبر.

السجال بين الملك وعبد الهادي الخواجه

فقبل 3 أيام من الندوة بعث الملك رسالة طويلة إلى رئيس الوزراء حول ما سماه الانتقالة التي تعيشها البحرين، ودعاه إلى أن تولي الحكومة أهمية لمتابعة عدد من القضايا بما فيها عدم «التمييز»، كما وجّه الملك عمّه إلى تسهيل عمل المنظمات غير الحكومية، والتعاون معها، منوّها بنفسه بجهودها.

عبد الهادي الخواجه، الذي كان مديرا تنفيذيا لمركز البحرين لحقوق الإنسان، التقط هذه الكلمات وتعاطى معها بإيجابية نادرة (بالنظر إلى مستوى تشدّده من الخطابات الملكية والحكومية لاحقا)، معتبرا ندوات مركزه جزءا من حوار «الصدقية والثقة المتبادلة»، الذي دعا له الملك في رسالته.

لكن السجال (وهو هنا بين الخواجه والملك)، لم ينته عند هذا الحد. فبعد انعقاد الندوة وسط حضور جماهيري قوي، ووسط البلبلة التي أثارتها من خلال بعض الأرقام وصيغة الخطاب الذي لم يتّهم النظام فقط بتمييز السنة عن الشيعة، بل جرأ أيضا على اتّهام أسرة آل خليفة بمنح انفسها امتيازات على حساب كافة فئات الشعب، رد الملك بشكل مباشر (وهو أيضا واحد من الردود النادرة جدا).

معول الهدم: لا تسبّوا عائلتي

رفض الملك ما سمّاه الإساءة لأسرته، واعتبرها إساءة له. وقال إن ما حدث في تلك الندوة كان ممارسة خاطئة لحرية الحوار. لكن ذلك لم يمنعه من منطلق «الروح الإيجابية» على فتح الباب للمزيد من السجال «للجميع حرية مناقشة التمييز دستورا وقانونا».

وفي واحدة من أغرب التوصيفات، اعتبر الملك الإساءة لأسرته «معول هدم» يذكّر بتجارب الماضي الذي قال إننا لن نعود إليه (ربما في إشارة منه إلى شعار الموت لآل خليفة الذي رفع في التسعينات). وفي الواقع حاول الملك أن يظهر أيضا في مظهر الأب الراعي، حين قال إنه يمد يديه (لعبد الهادي الخواجه) للأخذ بيديه إلى ملتقى الخير.

لكن يد الخواجه، ستكون مأخوذة إلى السجن، في نهاية المطاف! فالحراك الذي قاده لم يكن ليتوقّف، إلا أن تكتمل «صناعة الأزمة» كما يسمّيها. وهكذا، وفي المكان نفسه «نادي العروبة»، سيسمّي الخواجه بعد حوالي عام، علنا ولأول مرة، رئيس الوزراء خليفة بن سلمان آل خليفة، مسئولا أول عن «الفقر» و«التمييز» و«التجنيس» وجميع مشاكل البحرين، كاسرا بذلك « تابو» التزمت به كافة أطياف المعارضة منذ بداية ما يسمى بعهد المشروع الإصلاحي.

السجال بين عبد الهادي الخواجه وخليفة بن سلمان

يد الخواجة مأخذوة إلى السجن
يد الخواجة مأخذوة إلى السجن

كان ذلك في آخر الندوات الثلاث الكبرى في «زمن المقاطعة»، أي ندوة «الفقر والحقوق الاقتصادية»، التي أطلقت هي الأخرى تقريرا موثقا بالأرقام وفيلما وثائقيا أثار بكاء الحاضرين. قال الخواجه (الذي كان آخر المتحدثين): «كل مرة نتحدث عن مشكلة رئيسية في هذا البلد نجد أن نهاية الخيط تصل إلى رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة. فإلى متى سيبقى على رقاب أبناء هذا الشعب، إلى متى؟»  

وبحسب ما صرّح، فقد كان الخواجه ينوي الذهاب إلى الملك، ومخاطبته لعزل عمّه. الملك نفسه الذي كان قبل عام يريد أن يمد يديه للخواجة. بعد 24 ساعة من خطابه، اعتقل عبد الهادي الخواجه. أما الملك، فهرول مسرعا بمعية ولي العهد إلى قصر رئيس الوزراء، مندّدا بما قاله الخواجه بشكل مباشر، ومؤكّدا «عدم رضاه»، وواصفا ما قيل بالانحراف عن الأهداف الوطنية، وشق الصف، ومعتبرا الخواجه من الآن فصاعدا ممن «ليس معنا في المشروع الإصلاحي ومسيرة التنمية الوطنية».

عقابا على استهداف خليفة بن سلمان، أغلق نادي العروبة العتيد مؤقّتا، وحلّت الحكومة مركز البحرين لحقوق الإنسان، ولا يزال المركز، الذي انتقل للعمل في الخارج ورأسه نبيل رجب، محظورا في البلاد منذ ذلك الوقت.

خطبة الشيخ عيسى قاسم: وطن بلا فقر

تقرير الفقر الذي أصدره المركز، كان قد وصل الشيخ عيسى قاسم قبل موعد الندوة. وهكذا فقد كانت خطبته ليوم الجمعة 24 سبتمبر/أيلول 2004 (قبيل ساعات من عقد الندوة) تحت عنوان «وطن بلا فقر»،  استعرض فيها حتى الأرقام التي وردت في تقرير المركز.

قاسم وصف الفقر في البحرين بالقضية المخزية، التي «تواجه بدرجة من التقصير والإهمال على أقل تقدير» وأشاد ضمنيا بجهود مركز البحرين لحقوق الإنسان في «استنهاض الحكومة لأن تقوم بواجبها» وقال إننا «نحتاج إلى وعي شامل لمشاكلنا.. وجهر بالكلمة التي يفرضها»، معتبرا في سياق التوضيح اللازم دوما، أن هدف ذلك هو «حل مشكلاتنا الوطنية لا تأزيمها»، ومختتما بالتأكيد على أن أحدا لا يريد مواجهة «ليست المسألة مسألة صراع بين شعب وحكومة، وتحشيد على هذا الطرف لصالح ذلك الطرف».

وسائل الإعلام فهمت من تصريح الملك عقب الندوة، أنّه أبدى انزعاجا حتى من خطبة الشيخ عيسى قاسم عن الفقر، إذ رأت صحيفة «الحياة» أن دعوة الملك إلى الالتزام بالحرية المسؤولة في «بعض المنابر الدينية»، ربما كانت إشارة إلى خطبة الجمعة الأخيرة للشيخ عيسى قاسم.

سيستاني البحرين

الشيخ عيسى قاسم / 2004
الشيخ عيسى قاسم / 2004

ستكون ندوة الفقر، سببا في ظهور لقب «سيستاني البحرين» وخلعه على الشيخ عيسى قاسم، لاستنهاضه ضد ما قاله الخواجه. الأحد 26 سبتمبر/أيلول 2004، يكتب منصور الجمري، رئيس تحرير صحيفة الوسط مقالا تحت عنوان «أيها السادة: لسنا وقوداً للحرق أو الاحتراق»، وهو المقال الذي أثار ضجة كبيرة بين الناس وقتها.

سيدعو الجمري الشيخ عيسى قاسم وبصراحة، إلى التدخّل (أي الدخول في السجال)، منعا من انجراف الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، بعد تجاوز الخواجه للخطوط الحمراء «لقد آن الأوان أن تتوضح المسافات وأن يعرف الجميع من يتحدث نيابة عن من؟ ومن يمثل من؟.. آن الأوان لكي يتحرك «سيستاني البحرين» ويحفظ المسيرة، ويوجه التيار إلى ما ينفع الجميع، ويتحاور مع أعلى قمة الهرم السياسي».

رغم تغطية صحيفة الوسط المفصّلة لندوة الفقر وخطبة الشيخ عيسى قاسم، نُظر إلى مقال الجمري (المعروف بقربه من ولي العهد) وتحديدا في كلمته الأخيرة، على أنّها رسالة. وربّما كانت الرسالة قد نقلت إلى الشيخ عيسى قاسم بطريقة مباشرة أيضا. سيرى البعض أن مقال الجمري، هو جانب من سجال غير معلن، أياد له أن يصعد ليكون بين القصر والشيخ عيسى قاسم.

الشيخ عيسى قاسم: الدخول في السّجال

وفي موازاة هذا الضغط العلني على الشيخ قاسم، تعلن جهات أهلية عن تنظيم تظاهرة حاشدة عصر الجمعة تضامنا مع عبد الهادي الخواجه، الذي يعتبر أول سجين سياسي في «العهد الإصلاحي». يكتمل شحن الموقف بالحملات الإعلامية، والدعوة إلى تظاهرات مضادة، أو بتهديدات أمنية بقمع هذه التظاهرة، التي كان من المتوقّع أن ترفع شعارات مناوئة لخليفة بن سلمان.

«أريد أن أقول أن عندي خوفاً؛ خوفاً من تحريك مظاهرات على المستوى الرسمي، تقابلها مظاهرات ومسيرات على المستوى الشعبي، خاصة إذا تلوّن نوع من المظاهرات بلون طائفي... وأما قضية عبدالهادي الخواجه فتكون المطالبة بفك اعتقاله بكل الأساليب الأخرى الأكثر هدوءاً».

هكذا، انتهت خطبة الشيخ عيسى قاسم في الجمعة (1 أكتوبر/تشرين الأول 2004)، بدعوته الحرفية المباشرة لمركز البحرين لحقوق الإنسان ولجنة التضامن مع عبد الهادي الخواجه إلى «أن تتخلى عن مسيرة اليوم لتبرهن على حرصها الشديد على استقرار الوضع الأمني، ونحن معها في المطالبة بفك اعتقال عبدالهادي الخواجه».

وفضلا عن ذلك انتقد قاسم صراحة كلمة الخواجه وهجومه على خليفة بن سلمان «لسنا مع الكلمة حين تتجاهل وزن الوضع السياسي، وطاقته على الاحتمال... والقفز على المستوى مضرّ جداً»، وفي المقابل، عبّر الشيخ في خطبته عن تأييده الضمني (شبه الواضح) لخطوات ولي العهد في إصلاح سوق العمل.

تخريجات الشيخ لكرهه التظاهرة (التي تعتبر أول تظاهرة مناوئة للحكومة في العهد الإصلاحي) تعددت بين احتمال أن تثير نزاعا وفتنة طائفية، أو أن تتسبب باضطراب أمني، أو انتهاكات، أو فوضى. كانت هناك ساعات فقط تفصل بين موعد التظاهرة والخطبة، التي أحدثت ضجّة كبيرة وقسمت الشارع بين مؤيّد ومعارض، وتسببت بلغط كبير وتردد، وغموض يلف مصير التظاهرة، بين ما يراه كثيرون واجبا أخلاقيا عليهم في الانتصار لشخص شجاع عبّر عن رأيهم، وبين الواجب الشرعي في إطاعة الزعيم الديني الأعلى، ولو كانت توجيهاته من باب النصيحة.

سيعرض هذا الحدث دعوات الشيخ عيسى قاسم لأن تكون موضع اختلاف بين الناس، ربّما لأوّل مرة.

«تنحّ يا خليفة»: بين جامع الدراز والقصر

قريبا من شارع الحكومة، المؤدي لمبنى مجلس الوزراء، ستخرج تظاهرة الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2004 رغم كل ما دار من جدل ولغط، وستكون أجواؤها مشحونة أكثرة بمحاولات اللحظة الأخيرة لإلغائها. وأكثر من ذلك، سيشارك فيها الآلاف، بخلاف رغبة الشيخ عيسى قاسم، وسيعلو فيها لأول مرة صوت شعار «تنحّ يا خليفة»، مجتازة إلى الأبد هذا الخط الأحمر.

«حان وقت رحيل رئيس الوزراء» قالت لافتة. المظالم امتزجت بمطلب الدفاع عن الخواجه. ورغم أن التظاهرة انتهت بهدوء، كان صوتها مجلجلا، وكانت لوحدها أشبه بانتصار في زمن السلم.  

المسيرة التي دعا الشيخ عيسى قاسم إلى إلغائها منعا لتدهور الأوضاع
المسيرة التي دعا الشيخ عيسى قاسم إلى إلغائها منعا لتدهور الأوضاع

لكن الدوائر السياسية فضّلت تجاهلها تماما، في حين قزّمها الإعلام ولم تحصل سوى على مساحة هامشية صغيرة من صحيفة الوسط، التي جعلت خطبة الشيخ عيسى قاسم هي الحدث الرئيس، لتحتل مانشيت الصفحة الأولى، مع إشارة إلى أنّ الصحيفة «علمت» أن أوساطاً رسمية استقبلت دعوات قاسم إلى إلغاء التظاهرة بارتياح بالغ وعبّرت عن دعمها للتوجهات الداعية إلى تعزيز اللحمة الوطنية (رغم أن التظاهرة قد خرجت!).

وبعد يومين، يخرج خليفة بن سلمان نفسه «مستذكراً بالتقدير والعرفان والإعجاب جهود أصحاب الفضيلة العلماء وخطباء المنابر الذين سعوا بجهودهم الوطنية الخيرة إلى التهدئة والحفاظ على وحدة الصف ولمَّ الشمل»، فيما اعتبر إشارة إلى خطبة قاسم أيضا.  

ثم بعد يوم واحد، تسري شائعات في الصحف عن نيّة الحكومة الإفراج عن الخواجه، لاحتواء الموقف وحلِّ المسائل «بروح الأسرة الواحدة»، وأن هذه الأجواء «الأبوية» تسود أيضا في ديوان الملك.  

واستمرارا في ذات السجال غير المباشر، بين القصر وجامع الدراز، سيشير المصدر المجهول مباشرة إلى كلام الشيخ عيسى قاسم «الروح الإيجابية التي عبّرت عنها مختلف الأطراف الوطنية ومن بينها دعوة الشيخ عيسى قاسم في خطبة صلاة الجمعة الأخيرة إلى الابتعاد عن التجييش، تعزز التوجهات الساعية إلى التهدئة».

لكن قضية الخواجه ستذهب إلى المحكمة، ربّما أيضا تماهيا مع خطبة الشيخ عيسى قاسم التي لمّحت إلى قبول حكم القانون إن كان «عادلا منصفا غير متزيّدٍ ولا متأوّل»، ودعت إلى تطبيقه بدلا من الصراخ وافتعال الأزمات. وهكذا ستخرج تظاهرات سلمية حاشدة أخرى تطالب باستقالة رئيس الوزراء والإفراج عن الخواجه، كما ستندلع وسط هذه التوترات أعمال عنف، واعتقالات!

مسيرة أخرى تضامنا مع الخواجه
مسيرة أخرى تضامنا مع الخواجه

في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2004، سيعود الشيخ عيسى قاسم للحديث عن الخواجه وحركة الشارع، وسينتقد الانجرار وراء دعوات للتحرك من أي كان، وراءها إفساد وعبث (وقد أوقفت لجنة التضامن مع الخواجه كل أنشطتها إثر هذا التحوّل). سيندّد قاسم في هذه الخطبة باستمرار اعتقال الخواجه وسيعتبره «مدعاة لخلاف ما نحب من هدوء الوضع الأمني واستقراره وتمتين الجسور بين الحكومة والشعب».

العلاقة بالملك... مصانة لا تمس

بدا واضحا جدا أن الشيخ عيسى قاسم كان وقتها يتوخّى بشدّة الاصطدام بالملك، في أي قضية كانت، من منطلقات سياسية واقعية، ويبني خطابه التصالحي على حفظ العلاقة بين الطائفة الشيعية والنظام، والمضي بها قدما إلى شكل من أشكال الاستقرار، تنظيرا وعملا، على مستوى رأس الهرم، في أقل تقدير. وبحكم ما يمثل الملك من رمزية (سواء في الدستور، أو في ظروف تلك الفترة التاريخية)، نظر الشيخ وبقية علماء الدين الشيعة إلى أن انهيار علاقتهم بالملك، نذير عهد قد يكون أقسى من التسعينات، وعليه أرادوا أن تكون هذه العلاقة سياسيا «مصانة لا تمس».

وربّما رأى الشيخ قاسم وقتها في مهاجمة الرجل الأول فعليا في النظام، خليفة بن سلمان، مقدّمة لمهاجمة الملك، فرفض ذلك.

في تنظيره لهذا الرفض، وجنوحه إلى الواقعية السياسية، سيعتبر الشيخ قاسم أن «الوضع السياسي يختلف من بلد إلى بلد، وكل وضع سياسي له طاقة احتمال.. بعض المناخات السياسية، وبعض الساحات السياسية المتقدمة تحتمل الكثير من الحرية، والبعض الآخر لا يحتمل الكثير من الحرية».  

الشيخ عيسى قاسم

هكذا سنرى قاسم حين ينتقد اعتقال الخواجه، وأسلوب إحضاره للمحكمة، والأحداث الموازية لهذه الأزمة من «تعقيد للحوار أو إلغائه»، ومشروع قانون للجمعيات والتجمعات، ويعتبرها دليلا على التوجه السياسي إلى الخلف، وعامل إثارة وتوتر، سيلزم أن يوضّح أن من يقف خلف ذلك مستويات (أو أشخاص) «من غير الموقع الأول في المملكة»، مبرّئا الملك من كل ما يجري من تراجع.

سيبقى الخواجه سجينا 9 أيام بعد خطاب الشيخ قاسم الذي أراد للملك أن يتبرّأ من كل ما يجري. وفي 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2004، سيصدر حكم ضد الخواجه بالسجن عاما، ليصدر الملك مرسوما بالعفو عنه في اليوم ذاته.

اعتقال الخواجه، كان مدخلا للشيخ عيسى قاسم للحديث عن فقدان الثقة، وما يؤدي إليه من هواجس أمنية، وشكوك، وتوجسات، وتآمر، وكيد. سيذكّر الشيخ قاسم بفشل الخيار الأمني الذي أدار البلاد لمدة طويلة، داعيا، عوضا عن ذلك، لإدارة البلاد «من منطلق روح الثقة والإصلاح». سيقول الشيخ (للملك) إن «الإصلاح يولّد الشعور بالثقة المتبادلة، ويؤمّن موقفاً شعبياً عاماً متعاطفاً بل مسانداً ومناصراً».

نهاية السجال: ماذا بعد؟

تعامل الشيخ قاسم مع هذه النازلة السياسية، تعاملا «واقعيا»، حتى لو اختلفت المذاهب السياسية في الموقف الأمثل منها. انطلق قاسم من نهج سقفه أن لا تدخل الأوضاع «حالة طوارئ» حسب وصفه، وأن لا توقف مشاريع «الحوار» و«بناء الثقة»، التي كان الأمل لا يزال معقودا عليها.

من جهته أراد الملك إكمال عملية ضبطه للمجتمع، حسبما يصف الباحث عباس المرشد، الذي صوّر الملك كمن يمسك بتلابيب مشروعه من «الارتداد» قدر ما أمكنه، حتى وإن لجأ (بغير حسن نية) لطلب المعونة من الشيخ عيسى قاسم، تحت عنوان رأب الصدع والإصلاح.

كان الملك يدير أزمة، ربما أتقن الخواجه صناعتها، لكنه (أي الملك) أتقن الاستفادة منها في مشروعه السياسي (ولو مؤقتا)، عبر كسب موقف من الشيخ عيسى قاسم، ربّما طغى بأهمّيته على جلجلة التظاهرات، وعبر محاولات موازية لتوهين مرجعيته، وشق الصف عنه.

سيعرّض الملك زعامة الشيخ قاسم لامتحان، كما سيمتحن خططه ونواياه، خصوصا بعد بروز الملف الدستوري على السطح مجددا. لم يجاز الملك الإحسان بالإحسان، وعوّل طويلا على حلم

الملك

 الشيخ، وصدق نواياه، ونقاء سريرته. راح يربك خيارات الشيخ قاسم، ويرتقب انقسام جمهوره من حوله.

 

بعد الإفراج عن الخواجه، قدّمت الوفاق شكرها للملك، على لسان الناطق الإعلامي باسمها عبد الجليل السنكيس، الذي رأى أنه جنّب البلاد الدخول في نفق مظلم لا يمكن التنبؤ بنهايته.

لم تدخل البلاد هذا النفق، لكنها بدت وقتها على شفير انتفاضة جديدة، وبلغ الأمر بأن تعنون مجلة المشاهد السياسي تقريرا مطولا عن البحرين بـ «10سنوات من المواجهة المؤجلة... البحرين: ثورة الفقر المطالبة بتنحي رئيس الوزراء».

لكن الثورة تأجّلت 6 سنوات، بحكمة رجل ما فتئ يجنّب البلاد والعباد مآزق نزاعات طاحنة، رجل أراد بحكم التجربة أن يدع السياسة تجري سجالا. بعد 6 سنوات أخرى، أحكم الملك في علاقته بالشيخ عيسى قاسم «معول الهدم» الذي سبق وأن وعد بأن لا يعود إليه، جاء بنفسه ليضع حدا أخيرا لهذا السجال، ليس بالتعرّض إلى عائلة الشيخ، بل بإسقاط اسمها من كل التاريخ، ولكن «ماذا بعد؟»**

 

 

 

هامش

* تأريخ وتوثيق الحياة السياسية في مرحلة ما عرف بالعهد الإصلاحي (والتي يمكن القول إنها بدأت مع الإفراج عن الشيخ الجمري في يوليو/تموز 1999، وانتهت تماما في 14 فبراير/شباط 2011)، هي مهمّة غير منجزة، ولا تزال هذه الأحداث مبعثرة وغير مدوّنة، رغم كثرة حافظاتها من صحف ووسائط مرئية ومواقع إنترنت بل وأراشيف. وفي حين يحتل التأريخ جزءا من مهمّة هذا الملف، إلا أنّه لا يمثّل جوهره، ولا يعنيه بأكثر من زاوية القراءة والبحث. ويجد القائمون على الملف، بحكم الصعوبة التي لاقوها في جمع هذه الأحداث وترتيبها، بأنه من الواجب عليهم لفت نظر الباحثين إلى هذه المهمّة غير المنجزة، نظرا لما لها من تأثير كبير جدا على قراءة الحاضر البحريني الذي يبلغ في هذه اللحظة ذروة اختناقاته التاريخية.   

** «ماذا بعد؟»، هو عنوان لإحدى الندوات التي تحدّث فيها عبد الهادي الخواجة بعد خروجه من السجن في 2004، واستكمل فيها مشروعه الذي سيعرّضه للاعتقال مجدّدا مرّات عديدة، وصولا إلى اعتقاله الأخير عقب انتفاضة 14 فبراير/شباط 2011، ويقضي الخواجة حاليا حكما بالسجن المؤبّد، كما أن الناطق الإعلامي السابق للوفاق (عبد الجليل السنكيس)، الذي قدّم شكر الوفاق للملك على إنهائه أزمة 2004، يقضي هو الآخر حكما بالسجن المؤبد.     

 


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus