مُشاهَدات من البحرين(2): رهن الاعتقال

إيمان شمس الدين - 2013-05-09 - 6:14 ص

إيمان شمس الدين*

فجأة وبدون سابق إنذار، محاصرة شاملة بقوات عددها كبير، عتاد عسكري في أيديهم، ثم اقتحام وعبث وتكسير، من يشاهد الحدث من بعيد يعتقد أن المطلوب متهم خطير جدًا، لكن الواقع أن المتهم امرأة، وجرمها الخروج للدوار؛ حيث عبّروا عن حقوقهم ومطالبهم بسلمية وأساليب حضارية، أو تكفُّل أبناء الشهداء؛ لإكمال دراستهم في مدرسة، أو موقف وبيان ورفض، وبالأخير تجمَعُهُم، رغم تنوّع مواقفهم، كلمة  "لا"، تهمة يستحق صاحبها كل أنواع التعذيب وأبشعها، لكن الجامع لكل هذه الصور القمعية والوحشية هو عنوان واحد: الاذلال وامتهان الكرامات، كون الجلاد لا يفقه معنى الكرامة، بل لا أعتقده عاش يومًا بها.

مجموعة من النساء المعتقلات، لا تملك أمام هاماتهن المرفوعة رغم كل جراحهم إلا أن تنحني إجلالًا، حيث البسمة ارتسمت على وجوههن المشرقة بالأمل وبغدٍ جديد. 

تسمع قصة كل واحدة لتقف أمام مدرسة خاصة، حينما تتحول بعض المواقف لتندرات يضحكن عليها، بل حينما تحول بعضهن سجنهن إلى ضحكة والسجانات إلى حليفات وديعات. كيوسف النبي الذي صنع من سجنه منارةً للحرية، أو مسجدًا للتقرب في عهد الفراعنة الذين اتخذوا من الشعب عبيدًا.

نساء لكن لسن كأي نساء، فرغم كل محاولات التعذيب لتغيير وجهتهن وإرادتهن التي سجن لأجلها، إلا أن ذلك زاد إرادة بعضهن على إكمال المسير، وبعزيمةٍ أكبر، أو جعل أخريات ملتفتات إلى أولوية تحقيق المطالب، رغم أنهن ليس لهن أصلًا اهتمام في عالم السياسة. 

المربية الفاضلة نعيمة الحاي، مديرة مدرسة، ابتدأت الحديث عن معاناة اعتقالها في لقاء ضمّنا وبعض المعتقلات، حسب روايتها أنها في الدوار قفزت فجأة فكرة في ذهنها حينما سمعت عن طبيب تبرع لمعالجة أبناء الشهداء على كفالته الخاصة، فطلبت أن يعلنوا في الدوار أن مدرستها ستفتح أبوابها لأبناء الشهداء، ليتلقوا التعليم فيها، وسترعاهم بنفسها، وفاءً منها لدماء سالت على تراب وطن كي يحيا أبناؤه بعزٍ وكرامة. 

هذه التهمة كانت كفيلةً باعتقالها من المطار، والتعامل معها بطريقة مهينة هناك، ثم نقلها إلى السجن حيث كان رهان الجلاد أن ينتزع منها تنازلًا تحت التعذيب عن كفالة أبناء الشهداء، إلا أنها ثبتت على موقفها، رغم كل ما تعرضت له من تعذيبٍ وامتهان، وما تلقته من عقوبات خارج أسوار السجن، من قبل وزارة التربية، التي أمعنت بالعقاب من خلال سلسلة إجراءات أهمها إغلاق المرحلة الثانوية واتصال إحدى المسؤولات في التربية تقايضها بين ترك أبناء الشهداء وتقدّم لها مقابل ذلك مغريات كثيرة، ولم يكن ذلك أبدًا مغريًا للحاي، بل شعرت بأنه إهانة وخيانة عظمى اتجاه أطفال وأبناء ليس ذنبهم سوى أن آباءهم رفضوا الذل وقرروا البدء بعملية التغيير والتحرر الثوري.
 
نعيمة المربية الفاضلة اليوم خارج المعتقل وصامدة أمام كل التحديات والمعوقات والتهديدات، ومازالت تضم تحت أجنحة مدرستها فلذات كبد الشهداء. لكنها تتكلم أحيانًا بمرارة عن ظلم ذوي القربى وتلحظ في عينها بريق. . لا يمكنني إلا أن أسميه بريق أمل بفجر جديد.

"ليش ما يروح للدوار في أكل واجد؟"، جملة ابتدأت بها فضيلة مبارك سرد حكايتها مع الاعتقال، سردًا لا يخلو من ضحك أبدًا، كونها صاحبة نكته، لا تعرف إلا أن تبتسم، ليس تعمّدًا؛ وإنما بساطة النظرة لهذه الحياة وقدرتها على تحويل الألم لنكتة أخضعت الجلاد رغم قساوته للاستسلام أمامها.

الباكستاني الذي يعمل معها في العمل كان دومًا يسألها لماذا لا تذهبين للدوار، فهناك أكل "واجد"، وكانت فضيلة أصلًا بعيدة عن هذه الأجواء لانشغالها الشديد بولدها، ومع إصراره استجابت وذهبت فضيلة للدوار وهنا بدأت حكايتها:

شعرتُ بطعم الحرية في الدوار ولمستُ أملًا يلوح في أفقه هناك نحو غدٍ أكثر إشراقًا، قررتُ أخذ إجازة للتفرغ للدوار وفي اليوم التالي لإجازتي تم اعتقالي.

عرضت فضيلة كمَّ التعذيب والإهانة الذي تعرضت له، ولكن عرضها لا يخلو من ضحكةٍ هنا ونكتةٍ هناك، ورغم ما كنت أشعره من ألم عميق عند كل مفصل تذكره في ضربها، وكأن الكف الذي يقع على وجهها يقع على وجهي، إلا أنها لم تكن تترك مجالًا لذلك الألم بالصمود أمام تحويلها لعذاباتها إلى ندرة مضحكة تهزأ بها بالجلاد، من خلال اعتبارها أن ما حدث لها أصبح بالنسبة لها اليوم نكتة تضحك هي والجميع عليها. وإن فضيلة، التي لم تكن تتابع السياسة، أصبحت بعد الاعتقال مهتمة، بل ومصرة على تحقيق المطالب، ولم تعد تأبه بالتهديد بالاعتقال، لأن جسمها اعتاد فلا ضير.

بنات ما عرف بالستي سنتر تواجدن في المكان وبدأن رغم صغر أعمارهن برواية ما حدث لهن. كان الدافع هو إثبات دورٍ لهن في الثورة لدعمها وتحقيق المطالب مهما كلفهن ذلك من عناء. إحداهن حقوقية، فاطمة الجشي، والتي حينما سألها الجلاد ماذا ستفعلين ردت: أنا حقوقية وسأقاضيكم. 

أما المربية الفاضلة نادية عضو جمعية المعلمين، التي علمت بنبأ الاعتقال قبل وصول القوات لها، حيث علمت باعتقالهم للأستاذة جليلة السلمان، على إثر موقف الجمعية الشهير في الثورة وخاصةً البيان الشهير، فتجهزت لحضورهم؛ فارتدت ملابسها وانتظرتهم إلى أن داهموا منزلها واقتادوها هي وأدويتها، إذ إنها كانت مصابة بجلطة وتتعالج منها.

تم إيقافنا جميعًا على أقدامنا من الفجر إلى ما قبل المغرب، دون طعام ولا شراب، كما ذكرت، وكان مصيرنا حبس انفرادي لمدة طويلة، بجوار مكتب الضابط الذي كنا نشتم منه رائحة الخمر ونسمع كل صراخه وتمتماته ضدنا، كنوعٍ من الحرب النفسية، كي نبقى في حالة قلق نفسي. 

تذكرت نادية: إنني رغم كل التوتر والخوف الذي عشته تلك الفترة خوفًا من التحرش أو الاعتداء الجسدي والجنسي،  والذي بحمد الله لم يحدث ،إلا أن جمال الانفرادي كان في التفرغ لله وتعميق العلاقة معه، حيث لا منغص ولا مشوش بيننا، في الانفرادي تكونين أنت والله فقط بصفاء تام. هكذا ختمت حديثها الذي لم نكمله لضيق الوقت. 

وذكرن أمامي كلمة  الأستاذة جليلة السلمان لجلادها في السجن: "أنتم تصنعون منا رموزاً" وهكذا فعلًا حدث.

الاعتقالات غالبًا أسبابها مخالفة لأغلب المعاهدات الدولية، فبعضها الخروج للدوار، وبعضها إصدار بيانات مناهضة لنظام الحكم لتحقيق مطالب الديموقراطية، وبعضها لأسباب تافهة جدًا لا ترقى أصلًا حتى لمستوى تهمة، وكل المسيرات السلمية حفظتها المعاهدات الدولية كحق للإنسان كحرية التعبير عن الرأي والمطالبة بالتعديلات السياسية التي ترفع مستوى الحريات وتحقق العدالة.

النظام البحريني يعتقد أنه بذلك سيقمع الثورة، وسيضغط باتجاه التراجع في شعبيتها ومن ثم تآكلها، إلا أنه يجهل تمامًا أن القمع، عبر التاريخ، وتراكمه من أنظمة الحكم المستبدة لم تكن ثمرته إلا التحرر.

بل كثير من الناس العاديين الذين سجنوا بالخطأ وظلمًا تحولوا لعظماء غيروا مسيرة كثير من الشعوب، والشعب البحريني شعب ذو أصالة وحضارة وثقافة عريقة، وما فعله النظام بممارساته القمعية لم يستطع به قتل الثورة بالمهد كما كان يتوقع، بل فجرتها وفجرت كل إبداعات الثائرين وحولت الأطفال إلى قادة مستقبليين، وزادت من إصرار الشعب ليكون من فئة صناع التاريخ والحدث وليس ممن يعيشون على هامش التاريخ ويقرؤون الحدث.

فكل امرأة سجنت، وكل فتاة خرجت بقضية جديدة، لأنها بالتعذيب الذي مارسته السلطة على جسدها لتتراجع، كتبت بذلك السلطة على جسد كل معتقلة بداية نهايتها، فتحولت كل معتقلة لقضية تحرر وإصرار نحو تحقيق الهدف. فكل دم يسقط على هذا الطريق، وكل جسد يعذب لأجله، هو مسمار جديد في نعش السلطة يقرب من تحقيق المطالب ورحيل من يجب أن يرحل.

المعتقلات تتمايز مستوياتهن الثقافية قبل الاعتقال، لكن بعد الاعتقال نضجت تلك المستويات وجمعتها ثقافة الثورة وموقف واحد وموحد بينهن هو: "وكيف أكون مظلومًا فأنتصر". فالشعور بالظلم يخلق دافعًا قويًا داخل المظلوم، ورغبةً عارمة بالتحرك وإعادة حقه ممن ظلمه، وتلعب الظروف المحيطة برفع هذا الإحساس إلى مستوى الثورة العارمة.


* كاتبة كويتية.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus