مُخرِج الفيلم التوثيقي لمرآة البحرين: كل قطرة من «سحب الموت» في الفيلم تدعمها وثيقة تؤكدها

2013-03-19 - 9:12 ص


"أعيش وسط حيٍّ تحاصرني فيه الغازات الخانقة كلَّ يوم، أفتح نافذتي لأرى سُحُب الموت تعبر حيّنا وبيوتنا وقصباتنا الهوائية، أرى أطفالي أمام عينيّ وهم يحمرّون من فعل دخانها القاتل. أردتُ أن أقدّم عملًا من أجلهم، من أجل التاريخ، لكلِّ أطفال الغد الذين يكبرون وسط سحابات الموت في بلدٍ يقتل شعبه".

 أحمد فرحان البحراني (اسم رمزي)، مُخرِج فيلم "سُحُب الموت"

مرآة البحرين (خاص): سُحُب الموت هو فيلم توثيقي من إنتاج شباب المركز الإعلامي بجمعية الوفاق، يأتي ليُسجِّل حضورًا مُلفِتًا بعد عمل "موطني" الشهير، الذي جاب أرجاء العالم العربي، والذي أُطلِق قبل قرابة شهرٍ من الآن. الفيلم سجّل عددًا كبيرًا من المُشاهدات على موقع الـ(يوتيوب) العالمي، وهو العمل الأول الذي يفضح بالصورة الحيّة المُوثّقة، حجم الاستخدام المُمَنهَج، والمفرط، وغير الضروري، للغازات الخانقة من قبل النظام البحريني ضدَّ الشعب، كما يفضح الاستهداف المُتعمَّد للبيوت الآمنة دون مُبرّر، وفي غفلة من أهلها، وفي أوضاع تخلو مناطقها من أي مظهر من مظاهر الاحتجاج، بالإضافة إلى استهداف الناشطين وبيوتهم بالعبوّات الخانقة، وأخيرًا، يًظهِر الآثار الخطِرة، المُباشرة وطويلة المدى، على المواطنين، بشهادات من خبراء ومختصين.

لم يكن من السهل إنتاج عملٍ بهذه الكيفية وسط الظروف الأمنية المُشدَّدة التي تحكم البلاد، لهذا استغرق العمل أكثر من سنة ونصف، المُغامرة التي خاضها فريق العمل أظهرت نتائج خطيرة لما يُمكن أن تتسبَّب به الغازات السامّة العابرة لمنازل الآمنين دون مُبرّر.

يبدأ الفيلم بمشاهد للربيع العربي، الذي انطلق من تونس، حمل معه أحلام العرب، إصرارهم، صراخهم، ودمهم. وحدها سُحُب الموت وصلت البحرين وأقامت فيها، وكما عَبَرت شحنات عبوّات الغاز الخانق القارّات قادمةً لقرى البحرينيين المسالمين، كذلك عبرت عيّنات الغاز مُدُن العالم، وصولًا للمختبرات. في لقاء مرآة البحرين مع مخرج فيلم " سُحُب الموت"، تنشر تفاصيل كلِّ ذلك وأكثر.

مرآة البحرين: متى بدأتم الإعداد للفيلم؟

عملنا منذ نوفمبر 2011 لإخراج هذا العمل. لم يكن حينها في صورته التي ظهر بها، كانت الفكرة الأولية هي تسليط الضوء على جميع الأسلحة المُستخدَمة لقمع المتظاهرين، بدأنا بالغاز، لكننا اكتشفنا كم أنّه مُتشعّبٌ وعميق، وارتأينا أنّنا لو بدأنا به فسيطول الأمر قبل أن نصل لبقيّة الأسلحة، فاخترنا التوقّف عنده والخوض في تفاصيله أكثر، وهذا ما كان.

المرآة: عمل توثيقي بهذه الضخامة، كيف كانت البداية؟

الفيلم، كما ذكرت، توثيقي، لهذا فنحن لم نذكر معلومةً إلا إذا كانت لدينا وثيقةٌ تؤكّدها. المعلومات التي كنّا متأكدين منها لكن لم نتمكّن من العثور على وثيقة تُثبِتُها تجاهلنا نشرها. العمل ضخم، وتطلب كادر عمل كبيرٍ جدًا، من داخل وخارج البحرين، والتصوير تمَّ في أربع بُلدان مُختلِفة، ضمّت بريطانيا وروسيا وبيروت بالاضافة إلى البحرين، كما أنّ الخبراء الذين أُجرِيتْ معهم اللقاءات كان الهدف من ذلك إلقاء الضوء على جوانب مُختلِفة من استخدام الغاز؛ الحقوقي، والأمني، والصحي، والقانوني.

لقد بدأنا العمل بجمع الوثائق والتقارير المُتعلِّقة بموضوع الفيلم، واستطعنا بطريقةٍ ما الحصول على عبوّات غاز لم تنفجر، وأفرغنا مُحتواها، وأرسلنا عيّنات منها لمختبرات بالخارج لفحصها، لكنّهم للأسف تراجعوا عن تزويدنا بالتقارير، خاصّةً بعدما علموا أنّ العيِّنة من مملكة البحرين، لهذا لم نستطع ذكر ما تمَّ اكتشافه في بعضها من مواد خطرة، رغم اطلاعنا عليه، لعدم امتلاكنا وثيقة تُثبِت ذلك.

إنّ عمليّة جمع وإرسال العيّنات بحدِّ ذاتها تستحق أن تُوثَّق بفيلمٍ آخر. كانت عملية مُرهِقة ومُنهِكة وشاقّة، ومُغامرة خطرة جدًا في الوضع الذي نعيشه، لقد انتقلتْ العيّنات من بلدٍ لآخر، وتنقّلت بين أشخاص عدّة، حتى وصلتْ للمُختبر المعني الذي رفض تزويدنا بالتقارير، رُبّما خوفًا على المصالح أوالعلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

المرآة: لماذا سُحُب الموت؟ كيف اخترتم هذه الجملة عنوانًا للفيلم؟

أعيش وسط حيٍّ تُحاصرني فيه الغازات الخانقة كلَّ يوم، أفتح نافذتي لأرى سُحُب الموت تعبر حيّنا وبيوتنا وقصباتنا الهوائيّة، أرى أطفالي أمام عينيّ وهم يَحْمَرُّون من فِعْل دُخانها القاتل، أردتُ أن أقدّم عملًا من أجلهم، من أجل التاريخ، لكلِّ أطفال الغد الذين يكبرون وسط سحابات الموت، في بلدٍ يقتل شعبه، فأردتُ بهذا العمل أن أُجسِّدها فقط، لا كمشاهد تمثيلية، بل نقلًا لواقعٍ مُوجِع، ما خلفناه من واقعنا أكبر بكثير ممّا وثّقناه بالفيلم.

المرآة: هل هناك معايير مُعيّنة اتبعتموها أثناء اختيار الخبراء الذين شاركوا في الفيلم؟

عدا الشخصيات البحرينية التي شاركتْ في الحدَث وحضرت وكانت شهاداتهم كخبراء وشهود بنفس الوقت، فإنّ الشخصيات الأخرى فضّلنا أن تكون جميعها من الخبراء المُتقاعدين أو المؤسّسات المُستقلّة، لأنّهم في هذه الحالة سيكونون مُتحرّرين أكثر من أيِّ قيود تجاه أيِّ مؤسّسة، وأكثر ميلًا للحقيقة وقُربًا من الواقع، وأستطيع القول أنّنا لم نجد صعوبة في إقناع أيٍّ من الضيوف المشاركين في الإدلاء برأيه، خاصّةً بعد إطلاعه على التسجيلات التي توثِّق بالصورة الاستخدام المفرط للغازات في البحرين. وهنا أود أن أحيي الشباب البحريني، خاصّةً المُوثِّقين بالصورة والفيديو لتسهيلهم مهمّتنا وتقديمهم دلائل صدقنا فيما نقول أمام الجرائم التي يُمارِسُها النظام ضدَّ الشعب.

المرآة: بدأ الفيلم بمشهد لطفلة رضيعة تعرّضت للغاز، لماذا تحديدًا؟

الرضيعة التي تظهر بالمشهد الأول هي الطفلة زينب حرم، التي تعرّضتْ للاختناق في يوم السادس عشر من مارس 2011، وازرقَّ لونها وفقدت بصرها نتيجةً لذلك. هناك الكثير مثل زينب، مع أضرار مختلفة، ولكون الأطفال هم الشريحة الأكبر في المُجتمع فهم الأكثر ضررًا من هذه الغازات، لنعومتهم، ولكون هذه الغازات غير مُصمَّمة لاستنشاق الأطفال، بل مُخصّصة في الأصل لحالات الحروب واستخدام الجنود.

زينب اختنقت كما ذكرت بتاريخ 16 مارس 2011، وهو اليوم الذي بدأ فيه النظام فعليًا بإغراق القرى والمناطق بالغازات. كان الغاز هو أسلوب الجيش في عقاب الجماعات المعارضة للنظام. لقد عبّرت السلطة عن يوم 16 مارس بيوم إجهاض الحراك، لكنّنا لا نرى فيه أكثر من ولادةٍ لصمودٍ آخر، الصمود ضدَّ الموت الجماعي، صمودٌ في قُبالة سُحُب الموت العابرة للقرى والمناطق الآهلة بالسكّان.

المرآة: ما الجوانب الأساسية التي ارتكز عليها الإعداد لسُحُب الموت؟

منذ بداية العمل على الفيلم، حاولنا تناول أربعة أصناف من الضحايا: ضحايا الاستهداف المباشر، ومنهم الشهيد الطفل علي الشيخ، والشهيد الطفل سيد هاشم، ضحايا استهداف المنازل ومنهم الشهيدة زينب آل جمعة، والنوع الثالث مُبهَم نوعًا ما وهم ضحايا الخوف من العلاج، الذين اختنقوا بالغاز وانتظروا لعدّة أيّام على أمل التحسّن بينما كان الموت أقرب إليهم من ذلك، ومن هؤلاء الشهيد السيّد جواد، أما النوع الرابع الذي بحثنا عنه ولكنّنا لم نستطع إدراجه بالفيلم هي حالات الإجهاض، لعدم استطاعتنا إثباته أو الحصول على إحصائية من وزارة الصحة، سواءً بالبحث في الملفات أو عبر موقع الوزارة الإلكتروني، حيث نشرت وزارة الصحة آخر إحصائية لعدد حالات الإجهاض بالبحرين في العام 2011، ورغم تأكيد الأهالي حدوث حالات إجهاض بسبب استنشاق الغاز الخانق، إلا أنّنا تجنّبنا إدراجه لأنّنا لم نمتلك وثيقةً رسميّة تُثبت ذلك، وكما ذكرت تحاشينا كلَّ ما ليس لدينا وثيقة تؤكّده.

المرآة: عملٌ يستعرض أمرًا بهذه الخطورة، فيما يحاول النظام نفيه تمامًا، لا بُدَّ أنّكم تعرّضتم لصعوبات أثناء الإعداد، هلّا حدّثتنا عن ذلك؟

العمل على الأرض في البحرين عملٌ مُضنٍ جدًا، ناهيكَ عن المُضايقات الأمنية التي قد يتعرّض لها أيُّ شخصٍ يُقبِل على هذا الأمر، كمسؤول عن إعداد الفيلم، واجهتُ ثلاثة أمور رئيسية، فأنا مُطالَبٌ بإنجاز العمل، والحفاظ على الكادر العامل، وإظهار ظلامة الناس، كلُّ ذلك وسط مخاوف وقلق من المُلاحقة أو الاستهداف.

العمل الذي تمَّ عرضه هو أقصى ما استطعنا تحقيقه، وفي اعتقادي أنّنا لو امتلكنا الأمان للعمل بحرية لاختلف الأمر كثيرًا، لقد كشف هذا الفيلم تفاصيل يمكن للسلطة، لو أرادت حقًّا الإصلاح، أن تبدأ بالتحقيق فيما أظهره من تجاوزات مارستها قوّات الأمن بين منازل الآمنين ومناطقهم.

المرآة: لماذا عرض الفيلم في شهر مارس تحديدًا؟

في نوفمبر 2011، لم نتوقّع أنّنا سنجد كلَّ تلكَ التفاصيل لنعرضها كفيلم بعد عامٍ ونصف، لكنّ الغوص في الأمر كان أمرًا آخر، انتهينا من إنجاز العمل في فبراير 2013، وجاء اختيار عرضه في مارس تزامُنًا مع بدء استخدام الغاز ضدَّ القُرى والمناطق السكنيّة الذي انتهجته السُلطة منذ عامين، أردنا أن نُقدِّمه كذاكِرة لما حدث، ونتمنّى أن نختتم كلَّ ذلك قريبًا.

المرآة: يُلاحظ على المُقابلات التي أُجريتْ مع بحرينيين توحيد الخلفية السوداء والنبتة الخضراء، هل هُناك معنىً مُعيّن؟

اخترنا الخلفية السوداء تعبيرًا عن واقعنا المُظلِم، والنبتة الخضراء لنبيّن أنّ الأمل دائمًا حي، هو الرغبة بالغد الأفضل. ظننتُ لوهلة أنّنا لم نوفَّق في اختيارنا، وأن لا أحدَ سيلتقط تلك الرسالة الرمزية أمام كلِّ تلك الشهادات الحية.

المرآة: أحمد فرحان البحراني، الاسم الرمزي لمخرج الفيلم، لماذا هذا الاسم بالذات؟

الشهيد أحمد فرحان وحده دون باقي الشهداء مَن جاب الوطن العربي، وجدنا صورته في إعلانات دعم الثورة السورية، وكانت هناك في مصر، وقيل إنه شهيدٌ فلسطيني، حسب رواية تلفزيون البحرين. لقد كانت بشاعة قتله تتحدّث بكلِّ لهجات العالم العربي، ولقساوة مشهد استشهاده عجِز أغلب الإعلام عن نشر صوره، إلا عبر مواقع الإنترنت، ولهذا أردنا أن نُقدِّمه هذه المرّة كما هو، بحريني الأصل والهوى، وظُلامة لم تُنشَر، لتضارب الفطرة الإنسانية مع أسلوب قتله البشع، لهذا كان أحمد فرحان البحراني.

المرآة: هل من تحية توجهونها لأحد؟

أحب أن أوجّه تحية للطاقم الطبي في مستشفى عالي لشجاعتهم في استخدام مادّة الأتروبين، كما شهدت بذلك الدكتورة رولا الصفار، وحسب ما ذكر الخبراء، لو لم يتم استخدام هذه المادّة لتضاعف عدد ضحايا الغاز في ذلك اليوم، لقد رأينا في مسيرة الديوان كيف كان الناس يُصابون بأعراض مُشابهة للصرع جرّاء استنشاق الغاز.

كما أقدّم تحيّة للحقوقيّ نبيل رجب، الذي ساهم معنا مُساهمةً كبيرة في العمل، وللأسف نعرضه اليوم وهو في السجن، تمامًا كما هو الحال مع الحاج مجيد بطل أنشودة موطني.

ولي أمنية أخيرة، أقولها كما قالها نديم حوري، أتمنّى أن تتوقّف العادة اليوميّة في إغراق المناطق بالغازات، أمنيتي أن يتوقّف هذا الموتُ الجماعيّ الليليّ.


هوامش



التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus