بهية العرادي: رصاصة لم تكن طائشة!

2013-02-13 - 12:35 م


مرآة البحرين (خاص): لا أدري ما سر ارتباطي ببهية العرادي دون غيرها من نساء البحرين اللاتي ضحين بأرواحهن. لم أكن أعرفها  مسبقا ولا يربطني بأحد من أقاربها أو معارفها أي سابق. ولم أكن أتوقع يوما أن ينالني من أي امرأة ما نالني منها مما لم أستطع وصفه أو الوقوف عليه. أهو إبهار أو تعاطف أو تعجب أم هو خليط من هذا وذاك! شعور جعلني أبكيها بألم. دافع جعلني أحرص على حضور تشييعها رغم صومي في ظهيرة ذلك اليوم. إلحاح امتلكني لمعرفة من هي بهية.

جلست مع العائلة في آخر أيام التعزية طويلا. كنت من الحاضرات في  تأبينها، وكتبت في ذكرى رحيلها مرتين ومازالت تأسرني. عند رحيلها كتبت «نعم رحلت يا أطيب النساء، رحلت يا أعز النساء، رحلت يا أشجع النساء». وفي الذكرى الأولى كتبت «أبى يوم 21 مارس/ آذار على الإشراق، إلا أن يذكرنا هنا في البحرين بيوم بهية العرادي. بهية  التي أبكتنا جميعا، وهزتنا من الأعماق. بهية العصية على النسيان. كم هو قاسٍ ومؤلم علينا جميعا أن يغلق ملف بهية العرادي بما انتهت إليه لجنة تقصي الحقائق  «لا تكفي الأدلة المتاحة للانتهاء إلى أن الوفاة نتجت عن الاستخدام المفرط للقوة. ولم تجد اللجنة أي دليل يؤيد ما ذهبت إليه الأسرة من إطلاق النار على المتوفاة على يد قناص» (ص 306). ليبقى السؤال المحير قائما من أودى بحياة بهية؟

كانت بهية عبد الرسول العرادي أول ضحايا الأحداث في البحرين من النساء. فقد فارقت روحها الطاهرة الحياة يوم الاثنين (21 مارس/ آذار 2011)،  إثر إصابتها بطلق ناري اخترق رأسها من الأمام (الثلاثاء 15 مارس/ آذار 2011). بهية التي خرجت من منزلها بالمنامة مسالمة تبحث عن محطة بنزين لتزويد سيارة صديقتها بالوقود لم تكن تدرك أن المطاف سينتهي بها إلى دوار القدم على شارع البديع بسبب إغلاق بعض الشوارع. فوجئت على حين غرة برصاص قاتل يردي بحياتها سريعا. الطلق الناري اخترق زجاج سيارتها الأمامي. استقرت ثلاث رصاصات في رأسها ورقبتها. سقطت مضرجة بدمائها في السيارة.

كنت حاضرة في التشييع. لا يمكنك أن تتغافل عن حجم الصراخ الذي وصل إلى الهستيريا، يصدر من البيت وحوله. كان صراخاً مدويا مزلزلا. من كثرة السواد وهوله لا تدري من أين تأتي هذه الأصوات المفجعة. لا ترى وجوها ولكن ترى أجسادا تميل وتسقط على وقع الفاجعة المؤلمة. عندما خرجنا من البيت استعدادا للتشييع رأينا صورها محمولة في الأيدى. لأول مرة أراها ولكن بعد الموت.  رأيتها امرأة منامية يحمل وجهها الكثير من سمات الطيبة والحنان الذي يكسو جبينها الساطع.

بهية التي لم تعرف في حياتها السكون والركون والدعة، امتلأت حياتها بالنشاط والحيوية. التضحية للآخر كان عنوانا ونهجا لحياتها الخمسينية. لم تقف لحظة لتفكر لنفسها في مال أو مركز أو ولد. كانت للغريب والقريب عونا. عطاء ليس له حدود ولا يعرف التواني أو التوقف. جلست مع عائلتها، أخواتها الأربع وصديقتها سلوى الشهابي وبناتها. كان حديثا مشوبا بألم الفقد ومرارة الحسرة. لم تتوفر لهم الفرصة ليسددوا لبهية جزءاً من إحسانها. لم يمهلهم القدر أن يقولوا لها شكرا. تقول إحدى أخواتها «هي من تربي صغارنا. هي من ترقد مع مرضانا في المستشفى لمراعاتهم. هي من كانت ترافق شيوخنا في مواعيدهم للطبيب بانتظام». تقول أختها الأخرى «أتذكر مواقفها جيدا لأنها تحب بعمق . فهي تضحي بعمق. بعد الثانوية العامة لم أود أن ألتحق بالجامعة لكنها أصرت أن التحق بسوق العمل. ذهبت معي بكل همة للبحث عن عمل.

لم تستقر حتى وجدت لي العمل المناسب. كانت تقول لي دائما هو ذخر لك. أختها أيضاً، لكن الصغرى تقول «أجريت لي عملية في القلب. مكثت شهرين في المستشفى. كانت بهية مرافقتي التي أنام وهي على رأسي. حين أصحو أجدها إلى جانبي». إحدى أخواتها أيضاً، وهي الرابعة التي تأتي بعد بهية مباشرة وتعيش معها في البيت «أحس بضياع بعدها . كنت أعتمد عليها في كل شيء. إنها الحائط الذي أستند عليه. كانت تحفظ مواعيد والدتي في المستشفى. لا تنساها، تذكرنا بها  دائماً. وكانت تشرف على أدويتها وتحاليلها باستمرار». يقطع حديثها بكاء متواصل. أطرقنا كلنا برؤوسنا. لا تلبث وتلتقط خيط الحديث ثانية «كانت تحبني كثيرا وهي رفيقة طفولتي. أتذكر ونحن أطفال نسير في أزقة المنامة. جاء رجل آسيوي على دراجته ومسكني بقوة. أراد أن يركبني دراجته. فما كان من بهية إلا أن أسقطت حبات  الحمص المجفف الذي كان بيدها أرضا وطلبت منه أن يتركني لحظة لأساعدها في إعادته. تركني وبدأت في جمع حبات الحمص معها. فما كان منها إلا أن أشارت لي بالهروب. هربت مسرعة ولحقت بي. كان بالإمكان أن تنجو بنفسها».

صديقتها الأعز سلوى تقول «كل ما تملك للآخرين. لم أرها يوما في حياتها تحفظ لنفسها شيئا. وقتها ومالها وجهدها للجميع. كلنا نلجأ لها عند الحاجة. كنا نعرف أنها لا ترد أحدا. ربت معي أبنائي». أما ابنتها زهراء فلم تقو على الحديث. كان بكاؤها لاينقطع. لن نلوم بنتاً فقدت أمها.
 
المؤلم في قضية بهية العرادي أن يغلق ملفها بما انتهت إليه لجنة تقصي الحقائق في تقريها «ترى اللجنة أن نسبة وفاة السيدة بهية العرادي إلى قوة دفاع البحرين لا يؤدي بالضرورة إلى أن تكون ناتجة عن الاستخدام المفرط للقوة غير الضرورية. وأفادت النيابة العسكرية أنه قد تم إجراء تحقيق فعال، انتهى إلى أن الوفاة كانت نتيجة غير مقصودة لاستخدام مشروع للقوة» (ص 290). يبدو أن اللجنة ركنت إلى التحقيق الذي أجرته وزارة الدفاع والذي انتهي إلى أنه «لا يوجد أي مؤشر على وجود  جريمة جنائية» (تقرير اللجنة ص 306). قضية بهية لن تموت وفقا للحالة رقم 12 كما سمتها اللجنة. إنها قضية نساء الوطن التي سنعيدها كلما مر 21 مارس/ آذار. إنها حكاية، والحكايات لا تموت!


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus