» تقارير
حصاد الغيبوبة: خطاباتُ ملك فاقد الصّلاحيّة
2013-01-08 - 2:21 م
مرآة البحرين (خاص): في الثاني عشر من شهر فبراير، 2012م، وصف الملك البحريني حمد بن عيسى آل خليفة؛ المعارضة البحرينيّة بأنها "ليست كتلة واحدة"، وقال بأنّ "التّهديد الإيراني اضطرّه إلى استدعاء قوّات أجنبيّة" بغرض إخماد الانتفاضة الشّعبيّة التي اجتاحت البلاد في فبراير 2011م. نقلت ذلك وكالة الأنباء العالمية (رويترز) ضمن اقتباس لها عن لقاء أجرته صحيفة "شبيغل" الألمانيّة مع الملك، وذلك بعد ثلاثة أشهر من تسلّمه تقرير اللّجنة الملكيّة لتقصّي الحقائق (تقرير بسيوني).
ومن المفيد المرور على مقتطفات من أقوال الملك في اللّقاء المذكور، وذلك لكونه يُقدِّم فهماً عاماً لطبيعة تفكير الملك في ذلك الوقت، وأنّ تقرير بسيوني لم يغيّر الكثير من الكليشيهات والمغالطات السّائدة في منظومة التفكير لدى النّظام. فالملك يقول بأن "هتافات المحتجين بسقوطه" ليست سبباً داعياً لاعتقالهم، وأن المشكل في الأمر هو أنهم يصيحون بشعار "يسقط حمد ويعيش خامنئي"! لا ينطوي هذا الكلام على التّزييف فحسب، بل يُشير إلى حجم الغفلة الذّهنيّة والتّاريخيّة التي يعانيها العاهل البحريني، خصوصاً حينما يُسجّل الأخيرُ بأنّ "النساء في البحرين شعرن (بالذعر)، ومن الواجب على أيّ رجلٍ محترم أن يحمي النّساء، ولهذا كان لابدّ عليّ أن أحميهن". ومن جهةٍ أخرى، يضع الملك دخول القوّة العسكري الخليجيّة (درع الجزيرة) في سياق حماية المنشآت الإستراتيجيّة، وفي ظلّ تلبّس إيران بعدائيّة زائدة، أو كما قال.
يبدو من الواضح أنّ الملك لم يكن ناجحاً في تقمّص دور المثقف، المنفتح على الرأي الآخر، وأنّ مسألة المطالبة بإسقاطه ليست محلّ اعتراض من جانبه، ولا سبباً للاعتقال. هذا التحايل الذي أراده - وهو في محضر صحيفة أوروبيّة يعرف قرّاؤها أنّ المطالبة برحيل الحاكم حقّ طبيعي لأيّ مواطن؛ بدا متهافتاً لجهة الوقائع التي تشهد بها جلسات المحاكم، حيث الإدانات توجّه إلى النشطاء والمواطنين بسبب مطالبتهم بإسقاط الحكم الخليفي سلميّاً. وقد كان لافتاً حجم الأكذوبة التي ساقها الملك فيما يخصّ اتهامه المحتجّين برفعهم شعار "يعيش خامنئي"، وهو أمرٌ لا دليل عليه، ولم يثبت لدى الجهات الإعلاميّة والحقوقيّة المحايدة أو شبه المحايدة، بما فيها لجنة بسيوني التي عيّنها الملك نفسه، وهو ما يؤشّر إلى اشتراك الملك نفسه في حملات التّشويه المنظّمة ضدّ المعارضة، وأنّه ليس بعيداً عنها، أو ضحيّة لها.
هذه الغيبوبة تظهر أكثر مع التّظاهر المكشوف الذي يُبديه الملكُ بشأن الغيرة على المرأة في البحرين! فتقرير بسيوني – الذي استلمه واعتبره وثيقة رسميّة – وثّق العديد من حالات التعرّض للنّساء، وانتهاك شرفهم وعفّتهم بأبشع الممارسات، سواء أثناء المداهمات أو في جحيم المعتقلات.
هلوسات الولاء
في فترة لاحقة، وتحديداً في 28 فبراير 2012م، أطلق الملك جانباً آخر من التّصريحات الدّالة على الهلوسات الذّهنيّة التي سيطرت على تفكيره، خصوصاً في ذكرى السّنويّة الأولى من الثّورة. ففي خطابٍ ألقاه أثناء افتتاح الدّورة الرّابعة لملتقى الإعلاميين الشّباب العرب، قال الملك: "تعرّضنا للصّعاب. فعندما طالب شاه إيران بالبحرين، وقف شعب البحرين بأكلمه، حتى منْ هم من أصول إيرانيّة، مع عروبة البحرين أمام هيئة الأمم المتحدة. فلا توجد أي مشكلة بين مكوّنات شعب البحرين".
في هذه الكلمات، يحاول الملك أن يُقلّد حاكماً عادلاً، يسعى لتهدئة خواطر أبناء شعبه الذين يمزّقهم الشّتات، وتعدّد الانتماءات. يسعى جاهداً لأنْ يقول للضّيوف من الإعلاميين والصّحافيين بأنّ الجميع تحت كنفه، لا تمييز ولا تفريق، وكلّهم موصول بحبل مودّته! لاشكّ أنّ ابتسامات السّخرية اعتلت الكثيرين، بما فيهم شهود الزّور الذين اصطفّوا أمام الملك وهم يصفّقون للتّباهي الوهمي الذي يعتلي عليه. يتحدّث الملك وكأنّ خيوط الوعي انقطعت عنه فجأة! فلا أحد ينسى أنّ الحكم الخليفي اعتاد على تسويق الأزمة الحاصلة باعتبارها "أزمة طائفيّة"، وبرّر هذا الحكم استخدام العسكر في مواجهة الاحتجاجات، تحت حجّة الحفاظ على التوازن الطائفي. الأمر الآخر، وخلافاً للوطنيّة التي يريدُ الملكُ التجلّي بها؛ هو أن نظام البحرين تجرّأ على تدمير المعنى الوطني للولاء، وضخّ مفاهيم الكراهية والبغضاء بين المواطنين، سعياً للحفاظ على قوّته المتهالكة بفعل الاحتجاجات الثّوريّة. لقد فرّغَ الخليفيّون المواطنة من معناها الأصيل، وباتت رديفة للعبوديّة والانحناء المُذل أمام الملك، وللأخير صولاتٌ وجولاتٌ في تعميم هذه الصّورة المنحطّة للولاء. وقد وصلَ الأمر منتهاه مع لجوء النّظام إلى الجاليات الأجنبيّة (الآسيويّة خاصة) وإشراكها في الشؤون المصيريّة للبلاد، وكأنّ الوطن خلا من مواطنيه، أو أن الملكَ انجز وعده بإخلاء البلاد من أهلها القدماء، الأصليين!
الشّيعة "الشّرذمة"
في اللّقاء نفسه، يتقدّم الملك إلى الحضور بمفاجأة أخرى تعبّر عن مبلغ "التّسرب" الذهني الذي يحيط به. يقول: "الإعلام الغربي ظلم الشيعة في البحرين، كأنهم جميعاً ضدّ وطنهم، والحقيقة إن قلة "شرذمة" بسيطة من الشيعة تأثروا بدعوات ولاية الفقيه، ونحن لا نرضى ولا نقبل أن يُعمّم على كل شيعة البحرين بذلك".
مرةً أخرى، يتأكّد أن الملك ليس ضحيّةً للمغالطات، بل هو مسوّقٌ لها، وشريكٌ في صناعتها. هذه العبارة "الملكيّة" تختصرُ أمراً مهمّاً على صعيد فهْم سيكولوجيّة الملك، وهو "القدرة" غير الاعتياديّة على الانفصال عن الوقائع (مستوى متقدّم من الشّرود الذّهني المرضي). فبالنسبة له، يكفي مرور بضعة أشهر على تقرير بسيوني – الذي ارتضاه – لكي يضعه خلف ظهره، أو تحت قدميه. التقرير المذكور أوضح بعبارةٍ فصيحة تُليت على مسامع الملك وصحبه، بأنّ ما جرى في البحرين هو حراك مطلبي، ووراؤه سخط شعبي كبير. كما بيّنت كلّ الوثائقيّات أنّ الحركة الشّعبيّة تدعو إلى تطبيق العدالة الاجتماعيّة والحقوق الأساسيّة للإنسان، وتحقيق انتقالي ديمقراطي حقيقي، بعيداً عن البؤر القبليّة أو المذهبيّة. لم يسمع الملك كلمة "المملكة الدّستوريّة"، ولكنه سمع "يسقط حمد ويعيش خامنئي"! لم ينفتح وعيه على المطالبة المرفوعة بتقرير المصير، ولكن هذا الوعي عينه كوّن صورةً ميلودراميّة مفادها أنّ "شرذمة" ضآلة مدعومة من إيران تريد تطبيق نظام الولي الفقيه في البحرين!
كان من الطّبيعي أن ينفجر البحرينيون، يومها، بالسّخرية من ملكهم. لقد تذكّروا في ذلك المساء "الزّعيم" معمر القذافي الذي عُرف بالخطب "التحشيش" والهلوسة. وكان من الطّبيعي، من جهةٍ أخرى، أن يُثبت البحرينيون لملكهم أنّ وعيه ليس على ما يرام، حيث بادرَ الشّيخ عيسى قاسم – أحد أبرز القيادات الرّوحيّة في البلاد – إلى دعوة الناس إلى تظاهرة جماهيريّة يوم 9 مارس 2012م، على أن تكون مفتوحة لكلّ الاتجاهات الشّعبيّة، وغير مخصوصة بالجمعيّات السياسيّة. وقد كان يوماً مشهوداً في تاريخ البحرين، حيث احتضن شارع 9 مارس (البديع) مسيرة حاشدة قُدّرت بنصف مليون مشارك.
كان الردّ واضحاً، بل صفعة "علاجيّة" ناجحة أعادت للملك بعض وعيه المسلوب، فأوعز للدّيوان الملكي بإرسال برقية شكر أشادت بالتنظيم "المنضبط" للمسيرة، في موقفٍ فسّره بعض المراقبين والسياسيين بأنها محاولة لحفظ "ماء الوجه"، بعدما بدّد المتظاهرون محاولته المرضيّة في تقليل أعداد المعارضين وحقيقة مطالبهم.
في الزّبارة.. سنّة وشيعة
ثمّة وقفات أخرى في لقاء الإعلاميين تستحقّ التوثيق أيضاً، لكي تكتمل الصّورة البانوراميّة للهذيان الملكي في العام المنصرم. هذه المرّة، ظهر الملك بوصفه مؤرّخاً غير عادي! قال: "وإننا في البحرين نعيش شعب واحد منذ القدم، وكنا معاً منذ تواجدنا في (الزبارة) سنة وشيعة، وأتينا البحرين معاً، فكيف يمكن اليوم في ظل حقوق الإنسان والانفتاح أن ننقسم، ولا نرضى لأحد أن يسئ لشعبنا بكل مكوناته".
لم تصمد هذه "المقولة/ الفانتازيا" أمام الكم الهائل من النكت الساخرة، وعلامات الدّهشة التي عصفت بالأبواق الإعلامية التي يستخدمها تلفزيون البحرين نفسه. حاول إعلام السّلطة أن يقفز على هذه "الأطروحة التّاريخيّة"، ولم يتطرق أحد لهذه لحكاية المجيئ سنةً وشيعةً من "الزبارة". وحده وزير خارجية البحرين حاول تدارك الأمر. ولكنه، كالعادة، تسبّب في إيقاع نفسه في حرج مضاعف، ليس بحاجةٍ إليه. وذلك حين نسب إحدى عوائل المحرق الشيعية المعروفة إلى الزبارة، في الوقت الذي تؤكّد فيه كلّ الشواهد والأثار التاريخية أصول الشيعة في البحرين، وقبل مجيء عائلة آل خليفة غزاةً إلى البحرين.
درع الجزيرة.. الملكُ وبسيوني
الاختيار الأخير من خطاب الملك للإعلاميين، هو الخاص بدرع الجزيرة. أمام فظاعة الجُرم المقترف بقمع المحتجين في ميدان اللؤلؤة، لم يجد الملكُ غير اجترار الأحجية التي تتهم المحتجّين بقلب نظام الحكم، وبدعم النّظام الإيراني. قال: "عندما مرّت البحرين بالأحداث الأخيرة، اتضح أن بعض المجموعات كانت على اتصال مع إيران وتأتمر بولاية الفقيه، لذلك دعونا قوات درع الجزيرة لصدّ أيّ عدوان إيراني، وذلك انطلاقاً من اتفاقية التعاون المشترك بين دول مجلس التعاون".
لا يعبّر ذلك عن رغبةٍ في التّسويق الإعلامي، أو محاولة لاستثمار الحدث لصالح النّظام. ما يفعله الملكُ هنا هو اختلال ذهني محض! فقد كان إبطال تهمة التدخّل الإيراني وارداً - بما لا لُبس فيه – في تقرير بسيوني الذي استلمه في مهرجان رسميّ معلن. التقرير أكّد بلغةٍ فصيحة عدم وجود أدّلة تُثبت تدخّل إيران في ثورة البحرين، وقال ما نصّه: "لا يقيم الدليل الذي قدمته حكومة البحرين حول تدخل جمهورية إيران الإسلامية في الشئون الداخلية لمملكة البحرين أي ربط مدرك أو ملحوظ بين أحداث بعينها حدثت بالبحرين خلال شهري فبراير ومارس 2011".
بعد هذا كلّه، ما التّفسير المنطقي الذي يمكن الاستناد عليه لفهم إصرار الملك على مخالفة ما جاء به التقرير، وللوقائع المسنودة بالوثائق واليوميّات الجارية حتّى السّاعة؟! من الأفضل، اختصاراً للوقت وللفهم، البحث عن تفسيرات غير منطقيّة.
التعديلات الدّستوريّة.. الملكُ يعبث
تصرّف الملك بالدّستور تصرّفاتٍ عابثة، وأكثر من مرّة. في الثالث من مايو 2012، رُفعت إليه التعديلات الدّستوريّة التي أقرّها ما يُعرف بحوار التّوافق الوطني، والذي تجاهلته الثّورة، وكأنه لم يكن. في ذلك اليوم، قدّم الملكُ خطاباً آخر من المكابرة، والتّزييف، وفقدان الحضور العقلي. قال: "تلتقي اليوم إرادتنا الموحدة في مفصل تاريخي هام من حياة بلدنا، ألا وهو إجراء تعديلات أساسية على دستور مملكة البحرين، تفعيلاً للمرئيات التي تم التوافق عليها في الحوار الوطني، وذلك بعد أن قامت السلطـة التشريعية بجناحيها (الشورى والنواب) بتحمل عبء المرحلة، فقامت بدراستها ووضعها بصيغتها النهائية وإقرارها، ليتم رفعها إلينا اليوم للتصديق عليها بما وفقنا الله للقيام به، كنقلة نوعية حضارية، نفخر ونعتز بها، تعكس ممارسة أبناء شعبنا لأروع صور الحـوار وتبـادل الرأي بنوايا وطنية مخلصة, ومـن خلال المؤسسات الدستورية".
من المفيد ملاحظة العبارات المُضخّمة التي وردت هنا. "إردتنا الموحّدة"، "مفصل تاريخي"، "نقلة نوعيّة حضاريّة"، "أروع صور الحوار وتبادل الرأي"، "نوايا وطنية مخلصة". كلّ ذلك من أجل تعديلات دستوريّة، فارغة، رُفعت إلى جلالته من أجل التّصديق عليها. يبدو المشهد أكثر إضحاكاً، حين يُرفقُ هذا الكلام "الفارغ" بسيل من أفظع العذابات والآهات الموحّدة، المفصليّة، والنّوعية التي تعرّض لها شعب البحرين خلال العامين الماضيين، وكيف أنّ ملكهم أرادَ أن يُنهي الموضوع برمّته من خلال حوار مرسوم سلفاً سقفه وحدوده ومخرجاته، وبما لا يُزعج حساسيّة الملك المفرطة تجاه "أشياء مزعجة" من قبيل تداول السّلطة، واستقلال القضاء، ومحاسبة الفاسدين والمجرمين، بلا تمييز ولا محسوبيّات.
ولكي تكتمل صورة الهلوسة هذه، فلا بأس من اقتباس جانب آخر من كلام الملك. يقول: "إن الأوائل الكرام أصلحوا الكثير عبر كلّ الأزمنة، وكل جيلٍ له طريقته في الإصلاح، ونحـن في هذا الجيـل اعتبرنا التوافق هو طريق الإصلاح، وعليه عشنـا عقداً زاخـراً بالإصلاح في مملكتنـا الغالية، ووضعنا جميعاً وبالتوافق معكم قواعد وأسس تحولنا الديمقراطي في ميثاق عملنا الوطنـي، الذي حظي بموافقة شعبية واسعة قاربت الإجماع، وحافظنا طوال تلك الفترة على نهج التعددية والعيش المشترك بالتوجه نحو المصالح الوطنية الجامعة بما يضمن تطور بلدنا ويحفظ استقلاله وأمنه واستقراره".
عرف المواطنون، بملء جراحاتهم، طريقة الملك في الإصلاح. لمسوا في المعتقلات، وفي ساحات النضال، وفي أوقات المداهمات؛ العيش المشترك الذي يبختر به ملكُ البلاد! والتّفاصيل مفتوحة بين يدي مئة ونيّف من الشهداء.
الملك.. العسكري المكسور
في الحادي عشر من يونيو 2012م، ظهر أمين عام جمعيّة الوفاق، الشّيخ علي سلمان، بخطابٍ اعتبره بعض المراقبين مفاجئاً، وخارجَ سياق الخطاب العام الذي اعتاد عليه الرّجل المعروف بإمساك العصا من النّصف، وفي أصعب الظّروف. ففي تجمّع أقامته المعارضة في منطقة "سار"، وجّه سلمان صفعة "مباغتة" للمشير خليفة بن أحمد آل خليفة، الذي يُعدّ الحاكم العسكري للبلاد خلال فترة السّلامة الوطنيّة. حيث قال: "قال المشير إن عدتم عدنا، ونحن عدنا 200 بالمئة قوة. لتعلم يا أيها المشير أن في هذا الشعب قوة ومصادر قوة لم نستخدم خمسين بالمئة منها، تعلم أنت ويعلم غيرك أننا أبناء رسول الله وأهل البيت وهذه الذرية وأبناء خيار الصحابة والتابعين، وتعلم أن تربيتنا مركزها الآخرة، وتعلم أن بمجرد كلمتين بفتوى شرعية يُقدم هذا الشعب عشرات الآلاف على كفوفهم لاتبقى ولا تذر".
كان خطاب سلمان تهديداً واضحاً إلى الذراع القويّة التي يضرب بها الملك. وبعد يومين من هذا الخطاب، توجّه الملك إلى مقرّ القيادة العسكريّة والتقى بالمشير، محاولاً ترميم صورته المكسورة. حاول الملك أن يفعل ما يمكن أن يُهدّئ من "زعل" المشير، فألقى خطاباً غلب عليه طابع "الفزعة" والتهديد، قائلاً: "ورد إلى مسامعنا هذه الأيام عن منابر وأصوات محرّضة تبث الكراهية، وتسيء لحرية التعبير، حتى وصل الأمر إلى التطاول على قوة دفاع البحرين، ومن دون شك فهو أمر من واجبنا عدم السماح به أن يتكرر، فقواتنا المسلحة هي الحامية لمكتسبات الوطن، وعلى الكل أن يعلم أن من يتطاول بالإساءة إليها أو لقيادتها فقد أساء لنا، ولا يرضينا أبداً باسم حرية التعبير الإساءة إلى عقيدتنا أو قيم مجتمعنا أو قواتنا المسلحة، وعلى الأجهزة التنفيذية المختصة اتخاذ ما يلزم لردع هذه التجاوزات بحسب القانون".
برغم ما يظهر في هذا الخطاب من علوّ واستكبار، إلا أنّ الانكسار كان الوجه الآخر للصّورة. ومن المرجّح أنّ اليد الطّولى للمشير لم تكن مبسوطة كلّ البسط. ولأجل الترضية، فقد أصدر وزير الداخلية أوامره بمنع المسيرات والتجمعات وعدم الموافقة على الإخطارات المُقدّمة لذلك. هذا المنع واجهته الجمعيّات السّياسية – المعنيّة أساساً بالموضوع – برفض قاطع، وبادرت هذه الجمعيات إلى الدّعوة لمسيرة تنطق من منطقة البلاد القديم يوم 22 يونيو. في ذلك اليوم، عمدت القوّات الأمنيّة إلى محاصرة المنطقة، ومنعت النّاس من التوافد إليها، إلا أنّ قيادات الجمعيّات أصرّت إلى تسيير المظاهرة، وكان من بينهم الشّيخ علي سلمان نفسه، الذي وُجّهت إليه طلقات مباشرة أثناء تفريق التظاهرة، إلا أن الطلقات تلقّاها أحد المرافقين، وهو الشّاب علي الموالي، والذي أصيب إصابة بليغة نُقل على إثرها إلى العناية القصوى لإجراء عملية جراحيّة. كما أًصيب نائب الأمين العام للمنبر الوحدوي، حسن المرزوق بطلقات سلاح الشوزن ورقد هو الآخر في المستشفى. كما تعرّض حقوقيون ومواطنون مشاركون في التظاهرة إلى الاعتداء بالضّرب من قبل القوّات المنتشرة في كلّ مكان. على هذا النّحو أرادَ الملكُ أن يُعيد للمشير معنوياته المكسورة!
خطاب العشر الأواخر: حسام الحدّاد شاهداً وشهيداً
اعتاد الملك على الظّهور بخطاب خاص بمناسبة العشر الأواخر من شهر رمضان، ومنذ أغسطس 2010م، كان خطابه في هذه المناسبة موبوءاً بالهذيان. في الرابع عشر من أغسطس 2012م، أطلّ الملكُ بخطاب ركيك، جمع كلّ التناقضات، وقال أموراً كثيرة، وخالفها في أمورٍ كثيرة أخرى! تحدّث عن فضل الشّهر الكريم، وذكّر بإخوة الدين والوطن، ودعا إلى مائدة الحوار، واستشهد بالنصوص والآيات، ولكنه سرعان من انتهى إلى لغة التهديد، شاهراً جبروته ضدّ كلّ منْ تسوّل له نفسه القفز على المؤسّسات الدّستوريّة!
في ظلّ هذه الفجاجة، لا ينسى الملكُ أن يعزفَ على المسيرة الإصلاحيّة المزعومة، والتي تكلّلت بدخول البحرين في الحقبة الأظلم في تاريخها. لكن الملكُ له رأي آخر. يقول: "ما الذي يمنع أن نواصل البناء على ما تحقّق، فحالنا اليوم أفضل من الأمس في كل مجال، ولا ينكر هذا إلا مخطئ. وحالنا في الغد سيكون أفضل وأسلم إن شاء الله، وذلك بالرأي المشترك والتفاهم المطلوب فهذا النهج ليس بجديد علينا".
الملكُ يعدنا بالأفضل والأسلم! وفي القراءة الشّعبيّة، فإنّ هذا يعني فاجعة على وشك الوقوع. ولذلك بدأ الجميع يترقّب أمراً مظلماً. فالملك لا يظهرُ إلا والخراب من بعده، والعيدُ قريبٌ، وهي مناسبة سبق للنّظام أن أفجع البحرينيين فيها بقتل الصّبي علي الشّيخ. أيام ثلاثة فقط تمرّ على "خطاب الأمل والمستقبل الأجمل"، وتُقدم القوّات الأمنيّة على اغتيال حسام الحدّاد في منطقة المحرّق، ليُجدّد الملك عهده بإفجاع البحرينيين بأبنائهم، وليُعطي دليلاً مصبوغاً بالدّم على أنّه أكثر ملوك الزّمان كذباً وجنوناً.
الملك في البرلمان: العنجهيّة في محضر الأموات
في يوم الرابع عشر من أكتوبر 2012م، كان النّاس على موعدٍ آخر من الكلام الفارغ. حضر الملك افتتاح دور الانعقاد الثالث لمجلس النّواب، كاشفاً عن خطابٍ عنهجيّ، لا يصدرُ إلا عن روح استولى عليها العبث والصّرع بفعل صمود النّاس في السّاحات، واستمرار الثّورة ضد نظامه برغم كلّ الإجراءات القمعيّة. ومن المهمّ إيراد جزء مفصّل من الخطاب لتكون العاهة شاخصة أكثر! يقول: "سنبقى على الدوام حريصين على أن نمد أيدينا للسلام، والرغبة الصادقة في التعاون مع كل الأمم والشعوب، معبّرين في الوقت ذاته عما يشعر به شعبنا الآمن المسالم من أسى وأذى، وما يعانيه من تلك الفئة المضللة التي تسعى لتشويه صورة البحرين في الخارج، وتحاول الاستعانة بمن لا يعنيهم الأمر بالتدخل في شأننا الداخلي، مؤكدين رفضنا بكل حزم أي تدخل خارجي في شئوننا الداخلية، كما نرفض التصعيد الخطير في الشارع من قبل تلك الفئة، وممارساتها للعنف والإرهاب، والذي مسّ الممتلكات العامة والخاصة والمقيمين في البحرين، والذين من واجبنا حمايتهم من كل ما يمس أمنهم في هذا الوطن الغالي، كما أنه لم يخطر على بالنا أن تستغل الديمقراطية لتحقيق المطالب بالعنف والإرهاب، ولذا فإننا نؤكد دائماً بأن المطالب لا تؤخذ بالقوة والعنف بل تؤخذ بالحوار والتوافق الوطني كما حصل سابقاً بين أطياف مجتمعنا، وأنه لا ينبغي أن تفرض فئة رأيها على الآخرين".
هذا هو معجم الهذيان المعتاد. تكرار الأوصاف، والاتهامات، ولكن بلا تحديدٍ أو أدلّة. يتحدّث الملك عن "فئةٍ مضلّلة"، تستعين بالخارج للتدخّل في الشؤون الداخليّة، وتشويه صورة البحرين. ولكن شجاعته تقفُ عند هذا الحدّ، حيث لا يجرؤ أن يُفصح لشعبه عن كنه هذه الفئة، ولا تفاصيل الاتصال بالخارج بغرض تخريب البلاد وتشويه صورته. لا يفعل الملكُ ذلك لأنه لا يعرف – شخصياً- منْ هذه الفئة، ولا معلومات لديه عن الخطوط المتشابكة لرواياته الخياليّة.
في وداع مشميع: ملك البحرين يتحدّث عن واحة حقوق الإنسان
الغيبوبة الممزوجة بالفلتان الذهني هو تركيب يمتاز به ملك البحرين، وفي كلّ ظهوراته الممتدة على عاميي 2011 و2012م كان يُقدّم شواهد مثيرة تؤكّد ذلك. ينبغي العودة إلى مرجعيّة "تقرير بسيوني" في كلّ مرّةٍ يتحدّث الملك على التقدّم الحضاري الموعود. وثّق التقرير انتهاكات وبشاعات لا حدود لها، طالت الأرواح والأعراض والمعتقدات والأرزاق، إلا أنّ ملك البلاد – وهو يتحسّس الدّماء السّيّالة تحت عرشه المهزوز – يقول بأن البحرين تمثّل "واحة حقوق الإنسان" في المنطقة!
ولا عجب! فالملكُ قال ذلك وهو يستقبل وزير حقوق الإنسان، صلاح علي. والأخيرُ مثالٌ صغير على التآمر ضدّ هويّة البحرين، كما توضّح من خلال التقرير المعروف بتقرير "البندر". وزير حقوق الإنسان هو أكثر الوزراء كذباً، وأثبت مهارة حادة في تلميع جرائم النّظام، والدّفاع عنه. استقبل الملك وزيره مع الوفد الحكومي العائد توّاً من جلسة جنيف، ولم ير الملك الرّحيم في وجوه الحضور غير "واحة" وارفة ظلالها بما يقرب من 176 توصية من مجلس حقوق الإنسان، يُنتظر من حكومته الالتزام بها وتنفيذها! رأى الملك في وجوه القوم "واحة" مضرّج بشهادة الشّاب المعتقل محمد مشيمع في المستشفى، بسبب مضاعفات مرض السّكلر، حيث حُرم من العلاج في الوقت المناسب، وأودع في السّجن ليتجرّع المعاناة ظلماً وعدواناً. لاشكّ أن الملك اختلط عليه ما رأى، فبدت له المقبرةُ.. واحةً!
مسك البلاهة: خطاب السادس عشر من ديسمبر
في خطابه بمناسبة عيد الجلوس، أنهى الملكُ سيرة الهذيان بما ينطبق عليه القول المتواتر: "شرّ البليّة ما يُضحك". قال: "البحرين ستبقى بلد القانون والمؤسسات والحريات والتسامح بين مختلف الأديان والثقافات". وأضاف: "أن عيدنا الوطني المجيد هو عيد لما تحقق في بلادنا من نهضة سياسية ودستورية واقتصادية وتنموية منذ تأسيس البحرين كدولة مستقلة في عهد جدنا الفاتح رحمه الله العام 1783م أي قبل أكثر من قرنين من الزمان كدولة عربية مسلمة، حتى عهدنا الحاضر".
من بين الأسباب التي تُشجّع الملك على تعضيد هذه التوهّمات والإكثار منها، هو أنّ الهياكل العظميّة التي تتلقّى خطاباته؛ تجد فيها كلّ الحقّ، ومطلق الحقيقة، فتمنحه ما يحتاجه من الزّهو والانتفاخ. ولكلّ زهوٍ نهاية، ولكلّ انتفاخٍ إبرة.