باسم ضيف: كان النداء الأكثر ألماً من السجن، لماذا تركت غسان وحيدا!! «4-4»

2012-12-27 - 1:03 م


مرآة البحرين (خاص): "أقسم بالله العظيم، أن أراقب مهنتي، وأن أصون حياة الإنسان في جميع أدوارها والأحوال، باذلاً ما في وسعي في استنقاذها من المرض والهلاك والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم وأستر عوراتهم، وأن أكتم أسرارهم وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلاً رعايتي الطبية للقريب والبعيد، للصالح والخاطئ، والصديق والعدو، وأثابر على طلب العلم أسخّره لنفع الإنسان لا لأذاه، وأن أوقّر من علّمني، وأُعلّم من يصغرني، وأكون أخاً لكل زميلٍ في المهنة الطبية، ومتعاونين على البر والتقوى، وأن تكون حياتي مصداق إيماني في سري وعلانيتي، نقية مما يشينها تجاه الله ورسوله والمؤمنين، والله على ما أقول شهيد".

بقَسَم أبقراط، يدخل الطبيب المهنة، بدونه يصبح خارجها. يحاسب الطبيب بقدر ما يفرّغ هذا القَسَم من محتواه، ويكافأ بقدر ما يجعله حيّاً نابضاً فيه. الطبيب وظيفته منح الناس الحياة والأمل وتجنيبهم، قدر الطاقة، الموت والألم. "كان هذا القَسَم هو اختيارنا، حين قرر آخرون اختيار شيء آخر" باسم ضيف.

الطب الشرعي لأول مرة..

كثيرة هي المواقف التي مررنا بها في السجن، لكن أكثرها رعباً كان سوقنا إلى حيث لا نعلم، فإدارة السجن كانت حريصة على تركنا للمجهول يتخبط بنا كيف يشاء، وكان لرعب أفكارنا أن تهزم أجسادنا الضعيفة سلفاً، لم نكن نملك غير الإذعان لما يريدون، لنكتشف بعدها أننا في المحكمة أو التحقيقات أو القلعة، ولم تكن هذه المرة مختلفة عن سابقاتها، كان يوماً من أيام شهر رمضان، قاموا بإيقاظنا صباحا بشكل مفاجئ، كعادتهم دائماً، لم نكن نعلم سبب ذلك، لكننا تعودنا على طريقتهم عندما يريدون أن يأخذونا لمكان ما، فقط يأمرونا بالنهوض دون أن يخبرونا عن وجهتنا، أو يسمحوا لنا بالسؤال. ولأننا في شهر رمضان، فقد كنا قد اعتدنا النوم بعد صلاة الفجر، فكان إيقاظنا في هذا الوقت مزعجاً، إضافة إلى جهلنا وقلقنا مما ينتظرنا.

إدارة السجن قامت باستدعائنا، جميع معتقلي الكادر الطبي، ركبنا الباص. لم ندرك أننا في القلعة إلا بعد وصولنا، أجلسونا في قاعة الانتظار، لساعتين ربما، وبدأت الأسئلة والأفكار في التدفق، أهو تحقيق جديد أم فصل من فصول التعذيب أم ماذا؟ بعد ساعتين من الانتظار والترقب اكتشفنا أننا هناك لمقابلة الأطباء الشرعيين بلجنة بسيوني.

وللمرة الأولى منذ دخولنا المعتقل نشعر بأننا محترمون وبأن إنساننا ذا قيمة، لم يدم الأمر أكثر من الفترة الزمنية التي اجتمعنا فيها مع اللجنة الطبية بلجنة بسيوني.

في غرفة تشبه غرف الاجتماعات، كان بانتظارنا شخصان، قاموا بالتعريف عن نفسيهما: برادلي والسير نايجل، وكان معهما استشاريين بالطب الشرعي تابعين للجنة ذاتها، وبطلب منهما قمنا بالتعريف عن أنفسنا، بعدها قاموا بتوزيع مجموعة من الأوراق المطبوعة وطلبوا منا الاطلاع عليها للتعرف على الغرض من مهمتهم،.أتذكر بالتحديد أنني وبعد أن قمت بقراءة الدور المنوط بهم في الأوراق التي وزعت علينا وجهت سؤالا مباشرا للسيد نايجل: هل بإمكاننا استخدام نتائج الكشف الطبي الخاص بلجنة بسيوني في المحكمة لإثبات التعذيب والإساءات التي وقعت علينا؟ بدا واضحا أن السيد نايجل كان متردداً في بداية الأمر، واستمر في ذلك، لكن في نهاية الأمر أقر بأن استخدام تلك الأدلة يعتمد على قرار من السيد بسيوني شخصيا.

بعد الانتهاء من الاجتماع وتعريفنا بأهداف اللجنة تم توزيعنا على الأطباء المتواجدين، لكل طبيب منا طبيب معين من قبل اللجنة، لا نعرف حقيقة هل هناك هدف من تخصيص طبيب محدد لكل طبيب أم أنه من أجل التنسيق لا أكثر.

الحقيقة لا تحتاج لجنة تتقصّاها..

إلين كيلر، هذا الاسم سيرتبط بي لسنواتٍ طويلة قادمة، الطبيب الذي قام بفحصي والاستماع لقصتي وما حدث لي، بعد جلوسي معه بدقائق وقبل أن يبدأ فحصي تفاجأت بدخول السيد نايجل طالبا حضور اللقاء، بدأت بسرد قصة اعتقالي وتعذيبي وإهانتي، كانا في غاية الدهشة والاستغراب، لم يستطيعا أن يخفيا ذلك فبدت على وجهيهما علامات التعجب والحيرة لما تعرضت له من تعذيب وتنكيل، وزاد تعاطفهما حد البكاء أحياناً. الطبيب الشرعي أبدى استغرابه الشديد من إقدام مجموعة من الأشخاص بتعذيب استشاري كبير ومشهور بتلك الطرق البشعة، وكيف يمكن أن يحدث هذا في دولة تدعي التحضر والديموقراطية ومحافظتها على حقوق الإنسان.

فحص الطبيب الشرعي أثبت في ذلك اليوم وجود إصابات متفرقة، وإعاقة بالكتف الأيمن والساقين، وقد أثبت ذلك في تقريره المرسل إلى محكمة الاستئناف، كما طلب إجراء فحص بأشعة الرنين المغناطيسي للكتف المصاب وأشعة الأوردة للساقين .

إلى اليوم لم تقم أية جهة رسمية أو مختصة بالأخذ بتوصيات هذه اللجنة !! وبعد الانتهاء من فحصي طلب مني ذكر أسماء معتقلين كانوا قد تعرضوا للتعذيب وتكسرت أسنانهم أو تساقطت جراء ذلك، فأجبته في الحال بأني أعرف أحد المعتقلين واسمه حسين الصفار المتهم في قضية شباب المنامة، قد فقد أسنانه الأمامية وكنت قد رأيته بعيني، إضافة إلى علامات الضرب بآلة حادة خلف ظهره، مما ترك علامات وجروح عميقة مع ندبات واضحة، واثقٌ بأنها ما تزال موجودة إلى هذا اليوم نظرا لشدتها واستحالة اختفائها، لكن كما توقعت لم يتم استدعاؤه للفحص ابدا.

بنهاية لقائي مع الدكتور ألين أخبرني شخصيا أنه وإلى اليوم الذي قابلني فيه لم يستوعب هدف تشكيل لجنة بسيوني خاصة أن جميع المعتقلين قد تعرضوا للتعذيب وتم انتزاع اعترافاتهم تحت وطأة التعذيب، أي أن الحقيقة واضحة كوضوح الشمس لا تحتاج لجنة لتقصيها !!

بعدها تبادلنا التحايا والشكر وأعطاني بطاقة التواصل معه لكنه قال لي لن أعدك بالرد على أية رسائل منك ومن أقاربك، فقلت له أتفهم ذلك، لكنني وعدته بأننا سوف نلتقي معاً مرة أخرى في المستقبل لكن ليس في البحرين، بل في نيويورك.

حين فُتح كل شيء إلا بوابة المعتقل..

 
"مع قرب الإفراج عنا، في شهر رمضان تحديداً، أصبحت كل الأمور مباحة تقريباً، سمحوا لنا بإدخال الكثير من الملابس، ودهن العود، نتعطر ونرتدي ملابسنا التي كنا نرتديها قبل ان نُعتقل، شعرنا أنه لم يعد لدينا ما ينقصنا في هذا المكان، سوى زوجاتنا والآيفون".
 
شهر العبادة، تم إحياؤه بالعبادة التي فرغ كل شيء إليها. لم ينس المعتقلون يوماً عاداتهم الأصيلة، فكانوا قبل ساعةٍ من الإفطار، يقدمون لسجانيهم طبقاً من التمر والمأكولات، وكانوا حين خروجهم من الزنزانة يوزعون الحلويات والكاكاو والمأكولات على السجانين، وكان بعض الشرطة يطلبون قناني ماء الورد، وقد قام أحد المعتقلين بإدخال أحجام صغيرة منها "ليس أجمل من أن تلمس الإنسان الذي في داخل السجان" يقول باسم.

عزاء أخذني إلى المنامة..

قبل أن تحل ذكرى وفاة الإمام علي (ع)، لم يقبل المعتقلون أن تمر هذه الذكرى دون ما اعتادوا عليه من مراسم أحيائها "لم نتوقع وسط تلك الظروف أن نحيي هذه الليالي بمحاكاة لطريقة إحيائها خارج السجن، اتصل السيد علوي أبو غايب بالملازم وطلب منه السماح لنا بإحياء هذه الليالي وإقامة مراسيم العزاء في الساحة الخارجية للعنبر، رفض الملازم في البداية، لكن أبو غايب بطريقته المميزة أقنعه أن إحياء هذه الشعائر من صلب عقيدتنا، ووعده أن يلتزم الجميع بقوانين السجن، وعدم إرباك سير العمل في العنبر، وكان ما أراد.

سُمح لنا بإقامة الشعائر وحلقات العزاء في الباحة وكذلك عنبر رقم 5، فأصبح الأمر وكأننا في حلقات لمآتم مختلفة. أخذني ذلك المشهد لمواكب عزاء المنامة. وكان الدكتور حسن التوبلاني بصوته المميز الشجي يقرأ المقتل وأبيات النعي والتعزية، وفي الزنزانة المجاورة كان إبراهيم الدمستاني يؤدي القراءة الحسينية، وسيد علوي أبو غايب يؤدي الزيارة، وكان معنا معتقل من قرية الدير لن أنساه ابداً، ذو صوتٍ شجي وحزين، شاركنا بمراسم العزاء واللطم في تلك الليلة، اسمه موسى مدن، فرحت لخبر تبرئته حين وصلني، خاصة بعدما عرفت منه عن اعتقاله وتعذيبه، ورغم أنه مازال يقضي حتى الآن عقوبة في قضية احتلال المرفأ المالي، إلا أن تبرئته من تهمة الشروع في القتل كان أمراً مفرحاً".

"كانت ليالي القدر مميزة، أحيينا معظمها. وكانت ليلة الثالث والعشرين ألقاً خاصاً. الكثير من المعتقلين كانوا يأتون للمشاركة في الاحياء من بينهم لاعب عراقي اسمه ذو الفقار". هكذا مرت تلك الليالي بامتلائها الخاص وشحنها الروحي.

بعد 24 ساعة لم تأتِ..

وسط قدسية الأجواء، ذابت الأرواح الحزينة، الأرواح المشتاقة لنسمة هواء لا تقيدها مفاتيح السجان، ولأن الأمر كان مشوشاً جداً، بدت كل الأشياء الأخرى أيضاً مشوشة، بين كل ذلك، عاد أحد الشقيقين المعتقلين لزنزانته واجماً، بعد استدعائه لأمرٍ كان يجهله رفاق الزنزانة بمن فيهم شقيقه باسم، كان حزيناً متعباً أكثر من عادته، وبدأت الأسئلة تنهال عليه، الكل في حيرةٍ من هذا الحزن، بعد إصرار طويل، قال:"أخذوني للنيابة العسكرية، قابلت النائب العسكري، أخبرني أنهم سيفرجون عني خلال 24 ساعة " أمسك به شقيقه، قال له: لا تبك، هذا خبرٌ جيد. لاحقاً أخبرهم أنهم وقعوه على أوراق يجهلها وتعهّد، وأخبروه أنهم سيطلقون سراحه خلال 24 ساعة، وبعد أيام سيفرجون عن أخيه.

"كانت المشاعر مختلطة، لم أعرف أيهما غلب الآخر، فرحي له، أم حزني على نفسي. شاءت الأقدار أن تكون لنا زيارة في تلك الليلة، بدت علامات الاضطراب جليةً على وجهي، كانت ابنتي زينب تبكي، شعرت أنها ربما كانت تتساءل كيف سأبقى وأخي يذهب، وجاء اليوم التالي، ولم يحدث شيء، وانقضت الساعات الأربع والعشرون دون أن يأتيه خبر، عند العصر طلب أخي الملازم، أخبره أنهم وعدوه بإطلاق سراحه، أجاب الملازم: لم يأتنا أمرٌ كهذا".

من وقتٍ لآخر، كانت الأخبار تصل متقطعة، بعضها حقيقي، وأغلبها إشاعات، لكن رغم ذلك، الأمل هو كل ما يتبقى حين تكون سجين الزنازين، مع إطلاق سراح رولى، عاد الأمل ينتعش من جديد في الأرواح المتعبة، وكانت جلسة قبل العيد، حملت القلوب الآمال بالإفراج، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث".

كان العيد الأول الذي يمرّ علينا دون أهلنا، دون جمعة الأهل والأحبة، ودون غداء العيد، وضحكات الأطفال، وقبلات المقربين. "تبادلنا تهاني العيد رغم عدم إحساسنا به، ذهبنا نتابع البرامج عبر التلفاز، هكذا قضينا يوم العيد، ورغم أنه لم يكن سيئاً جداً، إلا أنه كان موحشاً، شعرت بالحسرة، فالعدل أن أكون هناك مع أهلي وأحبتي، في منزلي، ارتاح على (الصوفا) المحببة لي، وأتابع التلفاز، وأمامي الثلاجة، آكل وأشرب منها كيفما أحببت".

الخيط الأخير: الإضراب

مع انتهاء شهر رمضان، استنزف آخر خيط في صبر الكادر الطبي. قرروا الإضراب عن الطعام. بهذا بدأت مرحلة أخرى ستلقي بظلالها بلا شك على الأيام التي ستعقبها. مع استمرار الإضراب كان البعض يفقد طاقته، فينقل للعيادة، يعطى المحلول المغذي، ويعود لاستكمال الإضراب، وأمام إصرار الكادر المضرب عن الطعام، لم تجد إدارة السجن بداً من تصعيد الأمر بالمثل: أُغلقت الزنازين، مُنعت الاتصالات، في محاولة منهم لإجبارهم على فك الإضراب.

"طلبنا مقابلة أحد أفراد لجنة بسيوني. كنا جادين في إضرابنا، أردنا أن ننهي هذا الاعتداء السافر ضدنا باسم القانون. في اليوم التالي جاء أحد أعضاء اللجنة حسب طلبنا، جلس معنا، أخذ طلباتنا، أخبرناه أننا مستمرون في إضرابنا لحين إطلاق سراحنا، وأنه على السلطات أن تمكننا من مقابلة محامينا، وفتح الزنازين لكون ذلك حق مكتسب".

"طلبنا أيضاً مقابلة المفتش العام، حين حضر، أدخلوا جميع المعتقلين للزنزانات، وأخذونا لغرفة التلفزيون، أخبرناه أن وضعنا غير قانوني، واستمرارنا في الحبس غير منصف، وأننا نطالب بلقاء النائب العسكري الدكتور فليفل، في هذه الأثناء تناهى إلى سمعنا أصوات تكسير وصراخ، وبدا على وجه المفتش العام الارتباك، جاء عدد كبير من الضباط وأحاطوا باللواء الغيث وأخرجوه سريعاً. عرفنا لاحقاً أن أحد السجناء المضربين عن الطعام سقط، فذهب أحد الحراس لمساعدته، لكنه رفض، فقام الحراس بضربه، فأثار ذلك بقية المعتقلين فقاموا بضرب الأبواب وتحطيم الكؤوس، معظم المعتقلين كانوا متهمين بالقتل أو الشروع فيه أو قضايا مماثلة، في تلك الليلة لم يتجرأ أحد من الحراس على الاقتراب، كان الوضع مخيفاً، فقمنا نحن بمهمة تهدأتهم، وإعادة الوضع لحالة الهدوء".
 
مفاجآت بالجملة..

إنه يوم السابع من سبتمبر. أخذنا للمحكمة العسكرية. الأغلبية منا لديهم اعتقاد أن جلسة اليوم ستكون لسماع شهود النفي ومن بعدها المرافعات وصولا إلى النطق بالحكم كما هو المتعارف عليه قانوناً في سير المحاكمات.

كان اليوم الأطول بالنسبة إلينا، امتدت الجلسات حتى الخامسة مساء، كان يوما طويلاً نعرف بدايته لكننا نجهل نهايته، لكنه بكل الأحوال كان يوماً هاماً، هو يوم الاستماع لشهود النفي، إذ استطعنا قبل جلسة اليوم تنسيق وتنظيم شهود النفي من خلال تواصلنا مع المحامين والأهل، فتم توزيعهم بحسب التهم الموجهة إلينا.

عندما بدأت الجلسة بدأت المفاجآت معها، الأولى هي حضور عدد كبير من الاستشاريين ذوي الخبرة الطويلة كشهود نفي وهذا رفع من معنوياتنا كثيرا. تحمل هؤلاء عناء الحضور والإدلاء بشهادتهم دون خوف. وهم يعلمون أن شهادتهم تلك قد تؤثر على مستقبلهم المهني. وفيما رفضت الدكتورة بدرية توراني رئيسة قسم العظام أن تشهد لصالحي تفاجأت بالدكتور عبدالعزيز محمد استشاري العظام من بين شهود النفي، وبهذا سقط الاصطفاف الطائفي الذي يدعون، فالدكتورة بدرية (شيعية) خذلتني، والدكتور عبدالعزيز (سني) أنصفني.

توالت المفاجآت علينا ولم تتوقف في هذا اليوم المميز والغريب، ففي وقت الاستراحة بين الجلسات وعند انتظارنا خارج قاعة المحكمة جاء عدد من الشرطة العسكرية وقاموا بتقديم الشكولاته لنا في حادثة غريبة جداً لم نستوعبها ولم ندرك سببها فتقديم الحلوى يعني الفرح والبسمة لكننا في المحكمة لنحاكم، فكيف لنا أن نفرح أو نبتسم!!

وفي موقف آخر كان مفاجئاً لي أنا شخصيا هو تقدم الضابط مازن بوحمود لي سائلا: هل تعرفني يا دكتور؟ فقلت: ملامح وجهك ليست بالغريبة عني، فرد: أنا مازن بوحمود، مريضك ولا أتعالج إلا لديك!! بعدها قام بتقبيلي، وعرفت لاحقا بأنه عقيد يشغل منصب رئيس النيابة العسكرية.

ومما أثار استغرابي في ذلك اليوم تخصيص وقت أكثر من المعتاد للجلوس مع الأهل (ما يقارب 20 دقيقة وهو وقت طويل جدا قياسا باللقاءات السابقة التي لا تتعدى 10 دقائق). تحدثت خلال اللقاء مع زوجتي والمحامية جليلة السيد التي توقعت الأحكام ستكون للبعض من 1-3 سنوات ولبعضنا الآخر من 3-5 سنوات وهناك مجموعة منا ستكون أحكامهم من 7-10 سنوات، وقالت: من الممكن أيضاً أن تكون هناك أحكام بالبراءة أيضا فلا شيء مستبعد أبدا.

المفاجأة التي لم نتوقعها..

 
بعد انتهائي من الحديث مع المحامية تساءلت مرة أخرى لماذا لم يتم أخذنا إلى القاعة بسرعة كما هي العادة!! في الواقع كنت قلقا جدا فالأمور في ذلك اليوم بدت غريبة، لكن المحامية أجابتني أننا ننتظر قراءة قرارات المحكمة !! فآثرت الصمت احتراماً للمفاجآت التي كانت سمة اليوم.

فجأة خرج علينا المقرر ليقرأ بعض القرارات ذكر أموراً عدة، منها إجراء الفحص الطبي وأشياء أخرى لم التفت لها أو لم أستوعبها، بالنسبة لي كان الأمر سيان، ثم قال: أما بخصوص طلب الإفراج، سيتم الإفراج عن جميع المعتقلين!!

في الحقيقة لم أسمع الجملة الأخيرة للمقرر، لكني فجأة وجدت القاعة تضج بالصراخ والبكاء فأصابني الذهول. لم أستوعب ما قاله المقرر ولم أكن متأكداً مما سمعت، فصرت أصرخ بلا شعور: أريد أن أسمع، ماذا قال؟ ماذا قال؟ لم يكن أحد يسمعني فالصراخ والبكاء هما سيدا الموقف، فهمت أنه الإفراج.

أيقنت بأن ما يحدث حقيقة لا خيال، خاصة  بعدما تلاقفتني زوجتي وابنتي زينب بالأحضان، كان بكاؤهما ودموعهما ترجمة واضحة بأنه الإفراج لا سواه، وبالرغم من أنني في البداية لم أكن أعي ما تعني كلمة الإفراج، وما يترتب عليها، لكن الفرحة التي شاهدتها على الوجوه ترجمت لي: إفراج تعني الحرية ولا شيء غيرها. أظنني استوعبت أخيراً، خررت ساجداً لله.

ردّدت الحمد لله والشكر لله، رفعت رأسي، ووقفت في المحكمة، جلت بناظري في القاعة، تفحصت الوجوه، أبصرت الدموع تنساب بغزارة، كانت دموع الفرح بلا شك، شعرت حينها بفرحة غامرة تلفني من رأسي إلى أخمص قدمي، وفي أثناء ذلك جاءني أخي غسان مهرولا، قبلني، قال: قلت لك، قلت لك، قلت لك بأنهم سيفرجون عنا، تابعت عيني جولتها بالقاعة، على البعد كانت محاميتي جليلة السيد تبكي مع زملائها، كانت دمعاتهم ترجمةً حية لمعنى الانتظار، وشبه الانتصار، للفرح والقدرة، ولاستحضار شيء منذ أشهر دون أن يأتي. لم يقتصر الفرح على الأهالي والمحامين بل امتدت عدوى الفرح للحراس والشرطة المتواجدين معنا بالقاعة.

الفرح يبقى ناقصاً..

أخيرا، ها أنا من جديد طير حر، أحمل الإنسان الذي حافظت عليه رغم وعورة رحلة الأشهر الستة ورغم وجعها، كان كل شيء في قاعة المحكمة قد توقف حينها، اختفت الأصوات، وبقي قلبي وحده يخفق بقوة.

عند خروجي من القاعة حضر الحزن، تذكرت رفاق سجني، من تقاسمت معهم مر الحياة الذي لم أختبره يوماً، أحزنني رحيلي وبقاؤهم، فجميعهم مظلومون مثلي، قلت لنفسي: ماذا عساي أن أقول؟ كيف سأتركهم؟ هم من تقاسموا معي مرارة السجن والعذاب كيف أفارقهم وأتركهم !! شعور صعب لازمني ولا زال، لأنهم لا زالوا معتقلين.

في الرحلة الأخيرة بالباص، وفي طريق العودة إلى سجن الحوض الجاف، كان السيد مرهون ينشد نشيداً خاصاً بالإفراج، كان قد ألفه مع زملائه بالعنبر منذ أشهر، لقد كان اليقين يسكنه، أنهم من المفرجين، وفي الطريق الأخير، وقف الدكتور باسم ضيف، معتذراً لزملائه، طالباً مغفرتهم، عن كل الزلات التي حدثت، عن الالام التي ربما تسبب بها دون أن يقصد، عن كل أخطاء وأهواء نفسه البشرية، طالباً منهم المغفرة، والحب.

لماذا تركت أخاك وحيداً؟!

بعد أشهر من الإفراج واستمرار المحاكمات، يفترق الشقيقان. للمرة الأولى لا يجمعهما المصير ذاته، يحكم على باسم بالسجن ستة أشهر كان قد قضاها كاملة، ويزج شقيقه غسان في السجن لعام كامل. في إنكسار حزين يتذكر باسم حلم أخيه غسان " الآن صرت كلما أتذكر هذه الليلة، يهتز فيّ كل شيء، كان ذلك بعد أن تم نقلنا من التحقيقات إلى الحوض الجاف، وبعد ما عايشناه من أقسى درجات الرعب وبعد قتل الشهيدين صقر والعشيري. كانت للتو قد فكت عن أيدينا الأصفاد وعن أعيننا العصابات، كنت عائداً من العيادة الطبية، أثناء مروري بزنزانة أخي غسان، سمح لي أحد الشرطة الآسيويين أن ألقي التحية على أخي غسان. لا أعرف لماذا مع أني منعت من الحديث أو التواصل مع أخي طوال فترة الاعتقال في التحقيقات وكذلك الأشهر الأربعة فترة الحوض الجاف. سلمت على غسان وكان يبكي كثيراً. أخذ يدي وقبّلها فقمت مباشرة بتقبيل يديه أيضاً. وأثناء بكائه قال لي: حلمت البارحة بابنتك إسراء، كانت تبكي وتقول لي: لماذا خرجت وتركت أبي في السجن وحيداً؟

يكمل باسم: لم أستوعب ذلك الحلم حينها، لكن ها هي الأيام تخبرني بمعناه، لقد كان أنا من خرج، وأنا الذي تركت أخي في السجن وحيداً، هل أكثر وجعاً من هذا؟!!


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus