عباس بوصفوان: البحرين 1923: إجراءات استعمارية في قالب حلوى
عباس بوصفوان - 2024-02-09 - 3:21 م
هذه مقدمة كتاب "البَحْرَين 1923: نقدٌ منهجيٌ للسّرديّة السّائدة عن عِشرينيّات القرْن العِشرين"، الصادر حديثا.
يقصد بـ "إجراءات العِشرينيّات"، جُملة السّياسيات والتطبيقات التي تبنّاها الإنجليز، في عشرينيّات القرن الماضي، والسّنوات القليلة التي سبقتها وأعقبتها، والتي حوّلت أرخبيل جزر البحرين إلى محميّة بريطانيّة مكتملة الأركان، في ضوء اعتقاد المُستعمرين بأن التمدّد على ضفتي الخليج، في فارِس والمَشْيَخات العربيّة[1]، أمرٌ حيويٌ لحماية حكمهم في الهند، في ظل المنافسة التي لاقتها بريطانيا من قوى أوروبيّة استعماريّة طموحة.
تبلورت الخطوات الإنجليزيّة في شكل مدوّنات قانونيّة، وهياكل بيروقراطيّة، وسياسات ناظمة للمشهد السياسي والاقتصادي، وبلغت مُنعطفاً استثنائيًا، في مايو (أيار) 1923م، بإعلان ستيوارت جورج نوكس، أعلى سلطة بريطانيّة في الخليج، والذي يحمل صفة المُقيم السّياسي، تعيين حَمَد بن عيسى آل خليفة[2] حاكماً فعليّاً للجُزُر، وإلغاء الإقطاع وما يتفرّع منه من ضرائب مفروضة على العوائل والأسر الشّيعيّة، المشهورين باسم البحارنة.
يتطلع هذا الكتاب إلى إعادة تأويل تلك المجريات، التي ما زالت تفعل فعلها في حياة الدّولة البحرينيّة: بنية سياسيّة، وتوازنات اقتصاديّة، وتراتبيّات مجتمعيّة.
وإذ نقَدِّر الجهود البحثيّة التي عالجت تلك الوقائع التاريخيّة، التي أفدنا منها كثيراً في تقديم هذه القراءة الجديدة، نفترض[3] أنّ الرّواية المتداولة عما جرى قبل مئة عام، خلطت بين مركز الحدث وهامشه، وعزلت الجُزُر عن السّياق الإقليمي والدولي الأوْسَع، وقلّلت من الغايات الكبرى للإنجليز، وأساءت قراءة خطابهم التأسيسي.
وُلدت الإجراءات البريطانية إبّان الحرب العالميّة الأولى، وفي خضم الجهود الهادفة إلى رسم شرق أوسط جديد، وإخضاع مناطق النفوذ التي غادرها الحُكم العثماني، واحتكار الامتيازات النفطيّة على ضفّتي الخليج.
عَمِل الإنجليز على عزل الجُزُر عن الجوار الإيراني والعراقي، ورياحهما السّياسيّة العاتية، وأدرجوا البحرين ضمن المَشْيَخات العربيّة المُجاورة، وعند إعلان قراراتهم، في 1923م، حرصوا على تشكيل نظام سياسي يحاكي طبيعة الحُكم في المَشْيَخات الأخرى الخاضعة لهم، فأعلنوا الحكم القبلي المُطلق في ذريّة آل خليفة، في وقت مضى المستعمرون نحو تأسيس "ملكيّات دستورية"، في المحميّات الأخرى، في الجوار العراقي والإيراني والمصري، تحوز حريّات وحكومات وبرلمانات منتخبة - لا غرْوَ - تابعة لهم، وهذا النقاش يساعدنا كذلك على فهم أحد مبررات عدم دعوة العراق إلى الانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي عند تأسيسه في 1981.
وقد مثّلت البحرين، منذ 1625م، حُلماً إنجليزيّاً لمساومة إيران، بدا أنّه تحقّق عندما ربِحَ العتوبُ الجُزُر بعد تضعضع الدولة المركزية في البر الشرقي من الخليج، في النصف الأخير من القرن الثامن عشر.
لم تبدأ الإجراءات الاستعمارية في 1923م، وتفترض هذه السطورُ أنّها دُشّنت في 1903م، بزيارة فريدة قام بها إلى الجُزُر نائب الملك البريطاني والحاكم العام في الهند، اللورد جورج كرزون، زاد من بعدها التّدخل البريطاني في الشّؤون المحليّة للجُزُر، بل ودول الإقليم كافة.
وفي خطوة تهدف إلى تأكيد كونهم أصحاب السيادة وصانعي المُلوك، أصدر البريطانيّون مرسوماً يقضي بتنصيب ولي العهد، حَمَد بن عيسى آل خليفة، نائباً للحاكم، وتقليده مسؤوليّة المَشْيَخة، وابقوا على والده، عيسى بن علي، بمنصبه شيخاً للبحرين على الورق، حتّى وفاته في 1932م، وقتئذٍ اعترف الإنجليز بحَمَد حاكماً، بشكلٍ رسمي.
عنى التعيين ترسيخ حكم الأسرة الخليفيّة، وتثبيت النمط العمودي في توارث كرسي الإمارة، من الأب إلى النجل البكر من أبناء الحاكم، المبدأ الذي لم يكن سائداً، ولم يزل غير راسخ في المنطقة، باستثناء البحرين.
يرى هذا الكتاب أنّ الرّواية السّائدة، بحرينيّاً وعربياً، ركّزت أضواءً مبالغاً فيها على نزع الصّلاحيّات من الحاكم ابن علي (حكم بين 1869م- 1923م)، وعدّتها قلبَ - بل هي - الحدث، وهمّشت المرسوم الأكثر تأثيراً في مستقبل المَشْيَخة، والذي أنتج ما نسميه "نظام 1923"، وأعني به: ترقية حَمَد إلى حاكم فعلي، وبطبيعة الحال لن يكون من العلميّة والموضوعيّة تجاهل ملف العزل، أما أن يطغى على البنود الأخرى الأكثر أهميّة، فذلك ما نؤشّر عليه، ونراه مُخِلاً.
مثّل التّنصيب حدثاً رئيسياً ولحظةً فارقةً، تعكس جوهر القرار البريطاني بتمكين دولة القبيلة، أمّا إزاحة والده، ابن علي، فلا يعدو كونه أكثر من هامش على دفتر المشهد المضطرب.
إنها فرضيّة أخرى جديدة نقترحها على القارئ، بكل تواضع، نحسبُ أنّها تقود إلى فهم أعمق للإجراءات البريطانيّة، السّياسيّة منها والإداريّة، والتي يجدر وضعها، وجميع ما يسمّى القرارات "التحديثية"، في سياق تأكيد البريطانيين قبضتهم على المَشْيَخات.
تظافرت عوامل دوليّة وإقليميّة، وأخرى سياسيّة وأمنيّة محليّة المنشأ، إلى قيام الإنجليز بإلغاء الإقطاع وحظر السخرة (العمل القسري) ومنع اشكال أخرى من مظاهر الاستعباد التي كانت مفروضة على العوائل والأسر البحرانية، في الإقطاعيّات، وإعلان ما يمكن نعته تفاهماً غير مكتوب يستند إلى صيغة "الحُكم مقابل المُواطنة"، وبموجبه انتزع الإنجليز من البحارنة ما يمكن وصفه بأوّل اعتراف موثّق بحكم الأسرة الحاكمة القادمة من وراء الحدود، بالمقابل أقرَّ التحالف البريطاني - الخليفي بمواطنيّة الشّيعة، وخرجت الجماعات السّنية بمكاسب مضاعفة، فقد وعدهم الحكم المحلي وراعيه الأجنبي بـ "صوت مهيمن في إدارة البلاد"، تسمى المُواطنة من الدرجة الأولى، مقارنة بالشّيعة الذين اعتُبروا مواطنين من الدرجة الثانية[4].
ارتكزت الإقطاعيّات على مبدأ "العمل مقابل الطعام" أو الاحتياجات الأساسيّة، واستأثرت بمدن البحارنة وقراهم، لنحو ربع قرن، بين 1900- 1923م، في تقدير أوّلي لهذه الموجة من الإقطاع والسخرة، والحظر الرسمي لها نقل الأغلبيّة الشّيعيّة من طور "الاستعباد" إلى أفق "المُواطنة"، وأدّى إلى إدماجهم في المجال العام، وجُزئياً في النّظام السّياسي، في تحوّل مهم، لا يقارن بأي حال، باستحداث دفاتر محاسبيّة في الجمارك وغيرها مما سُمي "إصلاحات إداريّة"، والتي تُوليها بعض السّرديات أهميّة أكبر من إسقاط الضّرائب عن كاهل الشّيعة، المُصممة على مقاسهم، والتي كانت باهظة مالياً واقتصاديًا، وكاسرة للظهر سياسياً واجتماعيًا.
عادة ما تشير الرواية السّائدة إلى ضعف الحاكم المُنزوعة صلاحياته كمبرّر لنشوء الإقطاعيّات، ويبرئ ذلك الإنجليز، ويتناقض والعِناد الذي أبداه عيسى بن علي في رفض بعض مقترحات الإنجليز ورغباتهم، والذين كانوا حتّى بدايات القرن العشرين حذرين من الغرق في مشاكل الجُزُر الدّاخليّة.
يدفعنا ذلك للافتراض بأن اتساع رقعة الإقطاعيّات في الجُزُر، يعد اختياراً واعياً من طرف الأسرة الحاكمة، وكان البريطانيّون شركاء في بنائه ورعايته وتعزيزه واقعاً نافذاً، فقد كانت السّخرة مطبّقة في المستعمرات البريطانية، القريبة والبعيدة.
الواقع، أنّ الإجراءات البريطانيّة التي حظرت الإقطاع، بغيّة تشكيل إدارة قويّة خاضعة لهم، ضمنت بالمقابل تأمين كافة الامتيازات السّياسيّة والماليّة التي كان الإقطاع يدرّها لرموز العائلة الحاكمة، فقد أعاد البريطانيّون إنتاج تلك الميزات والاستثناءات الخاصة بوسائل عصريّة، فضلاً عن تكريس القبليّة والطّائفيّة، ومنع تحوّل المَشْيَخة إلى دولة خاضعة للشراكة والمساءلة.
قبل إلغاء السخرة، ركّز الخطاب الشيعي على الانتهاكات الحقوقيّة وطلب الحماية، وبعد إلغائها واعتراف الحكم والإنجليز بمواطنيّتهم المنقوصة، تحوّل الخطاب الشّيعي إلى المنحى السياسي والعمومي، حاملاً مطالب معبّرة عن الحالة الوطنيّة برمّتها، وتمكّن في بعض المحطات من التحالف مع شخصيات سُنيّة متنّورة، عارضت الحكم الأحادي، رافعين معاً مطالب إصلاحيّة، وذات صبغة ديمقراطيّة ونقابيّة عامّة، وفي ذلك دلالة على عدم الرضا على "نظام ١٩٢٣"، الذي فرضه الإنجليز.
نرى أنّ حظر الإقطاعيّات يوازي في تأثيره استعادة الأمريكيين من أصل إفريقي حقوقهم المدنيّة في أمريكا، وقد أدّى في البحرين إلى إطلاق مارد شعبي من قمقمه، دفع الحكم والإنجليز، مرّة جديدة، إلى التمترس في المقاربات المنطلقة من عقيدة أمنيّة.
مثّل خطاب المُقيم السّياسي، نوكس، الذي ألقاه في مايو (أيار) 1923م، تقييماً انجليزياً لما مضى من عهد عيسى بن علي، وتأسيساً وخارطة طريق لما ينوون القيام به من إجراءات وتنظيمات، وألقى نوكس خطابه الشهير في مجلس موسّع، نسميه "مجلس التّنصيب"، حضره ممثلون من الأسرة الحاكمة والسّنة والشّيعة، على نحو غير مسبوق بهذا القدر من التّنوع.
لقي "خطاب التّنصيب" تماشياً شيعيّاً سنيّاً، بوصفه، ربما، أفضل الخيارات المتاحة، بالنسبة للأطراف جميعها، وتنطوي هذه المسايرة على الكثير من الأسئلة والهواجس والمطالب والرؤى المتباينة حول أولويّات كل طرف، عُبّر عنها في وثيقتين مُنفصلتين، شيعيّة وسنيّة، صدرتا في 26 أكتوبر 1923م، ونفترض أن صدورهما في توقيت واحد لم يكن محض صدفة، بل كان نتاج جهد حكومي وانجليزي لانتزاع هذا الإقرار، بعد خمسة أشهر من جلسة مايو.
نرى أن "خطاب التّنصيب"، يعد أحد أهم الإعلانات والاستراتيجيات التي رسمت مسار البحرين، إن لم يكن الأهم على الإطلاق، وربما يجدر بكافة الفاعلين السياسيين، حكاماً وقوى سياسيّة ومواطنين دراسته بعناية.
ولا نقصد بـ "التنصيب"، في هذا الكتاب، مجرد تعيين حاكم جديد، وإنما تنصيب نظام سياسي بكامل عدّته، ووضع ركائزه، وتحديد أولوياته، وحكّامه، وهويته السياسية، وطرق توزيع موارده وثرواته، وتعريف مفهوم المواطنة فيه، وتعيين شركائه وخصومه الإقليميين، وتحالفاته العسكرية الخارجية، بل وتحديد المشاكل والبؤر الساخنة القابلة لتفجير الجزر، وكل التفاصيل الأخرى التي تبرزها كلمة المقيم السياسي، التي نسميها "خطاب التّنصيب"، أو "إعلان نوكس".
ونظراً لأهميّة الخطاب، فإن هذا الكتاب سيتناوله بالتحليل العلمي، باعتباره نصّا نموذجياً وجذاباً لدراسة أهداف بريطانيا الاستراتيجية، ورؤيتها لمستقبل الجُزُر، فيما لايزالُ عصيّاً على الفهم أن تعمل السّردية السّائدة على تسطيح كلمة المُقيم السياسي، وتقدمه بوصفه خطاب عزل عيسى بن علي، واجتماع مايو بوصفه "مجلس العزل"[5]، إنّه ليس كذلك البتة، وإن كانت هذه إحدى مفرداته.
فوق ذلك، صُيّر تشارلز بلجريف، المستشار الإنجليزي لحاكم البحرين، بين 1926- 1957م، بوصفه "باني مؤسسات البحرين الحديثة"، في أغلب الكتابات، التي ما زالت تذيع الرّواية الاستعماريّة ذات الصبغة الدّعائية، كمسلّمة سياسّية وتاريخيّة، أو تكاد، من دون طرح تساؤلات عميقة، ومن دون التدقيق كفاية في السّياقات التي أعلنت فيها تلك "التحديثات" وزمانها ومآربها، وهو خطأ لم يقع فيه جيل الثلاثينيّات الذي نادى بالإصلاح، وجيل الخمسينيات الذي هجا بلجريف وذمَّ أفعالَه.
شهدت العقود الثلاثة الأولى من القرن العِشرين تبايناً بريطانيّاً - خليفياً من جهة، ونزاعاً خليفياً - خليفياً من جهة ثانية، بيد أنه كان مجرّد خلاف حلفاء، وتباين الجبهة الواحدة، ونرى أن واحدةً من غايات الإنجليز في إجراءاتهم التي كانوا فرضوها على الجميع، يتمثل في تبييض صورتهم، وتبرئة أيديهم، مما خَلَّفه حكم عيسى بن علي من تعديّات وظلامات موثّقة، واعتبارها نتاج تصرف فردي، يمكن أن تعالج بتبديل حاكم بآخر، وليست نتاج منظومة تحتاج برمتها إلى إعادة هيكلة وتغيير عميق.
لا خلاف بأن "أحداث العِشرينيّات"، وهي التسمية الأكثر مناسبةً لتلك الحقبة، تضمّنت إيجابيّات، ومنحت الجُزُر وشعبها بعض المكاسب، فقد أقرت بمواطنيّة الشيعة، وبنت هياكل ودوائر حكومية جديدة، كعرض من إجراءات القبض على السلطة، لكنها لم تهمّش القبيلة، كما تدّعي الرّواية السّائدة، فقد استند النظام السّياسي الذي أعلنه نوكس إلى التعسف، وافتقر إلى التوافق الوطني الجامع.
شهد عهد حَمَد (حكم بين: 1923- 1942م، ثم نجله سلمان (حكم بين: 1942- 1963م)، عرائض وانتفاضات شعبيّة واسعة، وكثير منها جامعة للشّيعة والسُّنة، منذ الثلاثينيّات، يصحُّ القول إنها كانت موجهة ضد "نظام 1923"، الذي أسسته مراسيم البريطانيين، ومع حلول عقد السّتينيّات من القرن العِشرين، بل وقبل ذلك في الخمسينيّات، وفي ظل طغيان ثنائيّة الاستعمار الخارجي والاستبداد المحلي، عادت المقولات الداعية إلى "إسقاط النظام" تُسمع في الأرجاء.
تعدُّ مرحلة العِشرينيّات لحظة فريدة لفهم الأسس التي بُني عليها نظام الحُكم، ومركزيّة القبيلة الخليفيّة فيه، والتأثير البريطاني والخليجي في تحديد توجّهاته، ولدراسة جذور النشأة للموالاة والمعارضة، والخلفيّات التي دفعت إلى تبلورها على أسس سنيّة شيعيّة، والصعوبات التي عقّدت كسر تلك المعادلة الجهنميّة والمؤذية للبلاد، والتي قد تكون تهشّمت في لحظات تاريخيّة معيّنة، بفعل التحركات الإصلاحيّة الشعبيّة، والأجواء الإقليميّة المؤاتية، لكن الانقسام المُمَؤسس والمُمنهج، على الصّعيدين السّياسي والمُجتمعي، والذي حَظِيَ وما يزال بدعم غربي وحكومي، لا يلبث إلّا أن يقفز إلى السّطح من جديد، مُرجعاً الجميع إلى مرحلة ما قبل الدّولة.
أنتج البريطانيّون، في حقبة العِشرينيّات، معادلة ثلاثيّة الأضلاع: الاستعمار، النفط، والحكم القبلي، بيْد أنّ سرديتهم ذائعة الصيت، التي أعاد إنتاجها كتّاب بحرينيّون وعرب، دون تمحيص كافٍ، حرَفت الانتباه عن تلك المعادلة، وسوّقت السّياسات البريطانيّة، لأهل البحرين والعالم، على نحو مُضلّل، على أنّها "إصلاحات العِشرينيّات"، تماماً كما سمّى البريطانيّون، في الربع الأول من القرن التاسع عشر، أسطول القواسم بالقراصنة، وسمّت أمريكا احتلالها لأفغانستان (2001) تحريراً، فالاستعمار ينفّذ خططه للقبض على الجُزُر، ثم يمنحَها اللّقب الذي يروقه، ما دام يروي التاريخ في إعلامه الطاغي، ويسيطر عليها في أرشيفه، الذي هو في الوقت عينه أرشيف الدول التي خضعت للاستعمار البريطاني، في ظل إغلاق معظم الحكومات العربية أضابير قصورها وأدراجها أمام الباحثين[6].
وعلى الرغم من تأسيس حكومة البحرين "مركز الأرشيف الوطني"[7]، في نوفمبر 2022، فإن من المبكر الجزم بأنه سيتيح ما يتطلّع له الباحثون في الحصول على وثائق ومراسلات، بين المسؤولين من مختلف المراتب، وبينهم وبين مسؤولي الدّول الأجنبيّة، تعكس ما يعتمل في القصور ومؤسسات المَشْيَخة، والدولة تالياً، من نقاشات وخيارات، وتوضح طبيعة علاقات البحرين مع جيرانها القريبين، ومع القوى الإقليميّة والدولية.
وقد حرصتُ على الجمع بين المنهج العلمي، ونمط الكتابة الصحفيّة، التي يفترض أن تتيح الكتاب مفهوما للجميع. لذا، لا بد من الإشارة في هذه المقدمة الطويلة إلى ثلاث نقاط منهجيّة، عن المقصود بالرّواية السّائدة، وحدود البحث، وتحليل المُحتوى.
بشأن النقطة الأولى، فإن الرّواية قد تكون حدثاً أو قراءةً لحدث. والمقياس في اعتبار رِواية ما سائدة ومتداولة يصدُق في حال، أوّلاً: ورودها أو غيابها في أغلب الكتابات البحرينيّة، من اتجاهات شتّى، وليس في كتابات صادرة من اتجاه فكري أو سياسي واحد. وثانياً، أن تمثل الرّواية نقطةً مركزيةً في السّرد، حضوراً أو غياباً، مثل طغيان عزل عيسى بن علي، وإغفال تنصيب حَمَد حاكماً، وعدم فحص مصطلح الإصلاحات الذي ابتكره الإنجليز، وتغييب الأبعاد الإقليميّة في "إعلان نوكس"، بل تغييب الجوهري من خطابه، واعتبار بلجريف مؤسس البحرين الحديثة.
ولا يسري مصطلح السّردية السّائدة على تلك الرّوايات التي تحضر في كتب من اتجاه واحد، مثل تقديم الحاكم عيسى بن علي بوصفه داعيَة للديمقراطيّة وحقوق الإنسان، ومن أوائل المنادين بتشكيل مؤسسة تشريعيّة مُنتخبة، والمناضلين لحرية الأوطان العربيّة وانعتاقها من الاستعمار، ولأن هذه الفكرة تغيب في الاتجاهات الأخرى من السرد التاريخي، فلا نعدُّها جزءاً من السّردية السّائدة[8].
أمّا بخصوص حدود البحث، فإن السّطور التالية ستجتهد لتقديم قراءة نقديّة لأبرز الوقائع التي مَررنا على رؤوس أقلامها في هذه المقدمة، وبالأخص قراءة خطاب المُقيم السياسي، وما نسميه الطريق الذي اتبعه الإنجليز لبلوغ أهدافهم في تأسيس "نظام 1923"، إضافة إلى وثيقتي أكتوبر الشيعيّة والسنيّة، لكننا لا نطمح إلى سرد تفصيلي لكافة مفردات حقبة العِشرينيّات وجزئياتها[9]، ولا إلى تغطية جميع الكتب التي أرّخت لتلك الأحداث، وإنما الكتب التي ترد في هذه السطور.
ولتدعيم الخلاصات التي ينتهي إليها الكتاب، سنجري، في الفصل الرابع، تحليلاً علمياً لمحتوى خطاب نوكس، من أجل "تفادي النتائج الانطباعيّة والعاطفيّة" [10]، وهذه هي النقطة المَنْهجيّة الثالثة.
ولتفكيك بعض الخلاصات المكرورة التي تسود في الرّواية المتداولة، مثل وصف الجهد الإنجليزي الهادف لبناء حكومة مركزيّة قد أدّى إلى تهميش القبيلة، سنعرّف ببعض المصطلحات، فالنّموذجان المَركزي والتفويضي في الإدارة مُحايدان، ولا يرتبط أحدهما بالظلم والآخر بالعدل، وفي حالة البحرين لم يسع الإنجليز من مركزة السلطة، في عشرينيّات القرن العِشرين، إلى تفتيت سلطة القبيلة، بل إلى تمْكينها.
ليس من غاياتي في هذا الكتاب إبراز طرف منتصر وآخر مهزوم، وحزب ذكي وآخر أقلَّ ذكاء، وجبهة عميلة وأخرى وطنيّة، ولا تشويه الإنجليز، ولا الانتصار للحكم أو للشّيعة أو للسُّنة، فهذا الكتاب محاولة منهجيّة تهدف إلى تقديم سرديّة بديلة لوقائع العشرينيّات بكل موضوعيّة وأمانة علميّة.
ستظل السرديّة التي أقترحُها، بتواضع، عرضة للنقاش، وهو أمر أرحب به بكلّ حرارة، وقد توقّفت عن مزيد من التوسّع رغم المساحة الرّحبة لمزيد من السّرد والتّحليل، مفضّلاً قولَ قدرٍ معقول من الكلام الذي يسهم في توضيح المجرى الأساسي للحدث، وعلى أمل المواصلة في مشاريع بحثيّة مقبلة، إذا وفّقنا الباري، ولذا فإني أدعو كافة القرّاء لإبداء ملاحظاتهم حول هذا الكتاب، والمساهمة معي في بلورة الأسئلة والمواضيع للكتابات المستقبليّة.
أمّا تفضيلي لاستخدام الفعل المضارع في وصف الماضي، فلأنّ الحدث لا يزال سارياً..
[1] إيران ودول الخليج بمصطلحات اليوم.
[2] الجد الثاني لملك البحرين الحالي، حمد بن عيسى آل خليفة.
[3] للاطلاع على فرضيّات المؤلف، أنظر: "ثانيا: الفرضيّات"، في "الفصل الرابع: تحليل المُحتوى لخطاب التنصيب"، في هذا الكتاب.
[4] نستخدم مصطلح المواطنة بحذر، ذلك أن لفظي رعايا وأتباع قد يكونا أكثر دقة في وصف الحالة، ينطبق ذلك على الشيعة والسنة.
[5] تكرر عبارة "مجلس العزل" وخطاب العزل" في أغلب الكتابات البحرينيّة، سواء من الكتاب المستقلين، أو الذين ينظر إليهم على أنّهم قريبون من السلطة أو المعارضة، وهذا ما نسميه بالرّواية السّائدة. أنظر مثلا: مي محمد الخليفة، سبزآباد ورجال الدولة البهية: قصة السيطرة البريطانية على الخليج العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة العربية الأولى، ١٩٩٨، ص ٥٥٣. أنظر أيضا: رملة عبدالحميد، العبور نحو الدّولة الحديثة: البحرين ١٩١٩- ١٩٣٩، مركز أوال للدراسات والتوثيق، الطبعة الأولى، بيروت، أغسطس ٢٠١٥، ص ٦٦.
[6] "المشكلة التي يواجهها تاريخنا تكمن في أن التدوين الذي تم عن هذا التاريخ كان كله خارجياً، ولا يوجد تدوين محلي موثّق لتاريخ الخليج، فلدينا الأرشيف العثماني، الأرشيف البرتغالي، الأرشيف الفارِسي، والأرشيف الإنجليزي، أمّا الأرشيف العربي الخليجي فلا وجود له".
أنظر، محمد العلوي، صحيفة الوسط، 12 فبراير 2015:
http://www.alwasatnews.com/news/961195.html
[7] مرسوم رقم (69) لسنة 2022 بإنشاء مركز الأرشيف الوطني، الجريدة الرسمية، العدد 3642، الخميس 24 نوفمبر 2022:
https://www.lloc.gov.bh/PDF/D6922.pdf
[8] مي محمد الخليفة، ص 565- 565.
[9] لن نتطرق إلى تأسيس بلديّة المنامة، والجمارك، والشرطة، والتعليم، والانتفاضات والعرائض الشعبية التي تلت عام 1923.
[10] رشدي أحمد طعيمة، تحليل المُحتوى في العلوم الإنسانية، دار الفكر العربي، القاهرة 1425هـ، 2004م، ص 71-72.