» رأي
حكاية 14 فالنتاين المستمرة في بلادي
يوسف مكي - 2012-10-13 - 7:54 ص
يوسف مكي*
شباب يحملون قلوبهم على أكفهم من أجل الثورة، من أجل الأحلام المكسورة منذ عهود، منذ أجيال وأجيال.
جاءوا يحملون أحلامهم وآمالهم في منتصف الشهر الثاني من السنة الحادية عشرة.
جاء موعد المهرجان الثوري في الزمن المضروب وفي الدوّار المهجور إلا من الرغبة الدفينة في استعادة الحرية والكرامة المسلوبتين منذ أزمان وأزمان، جراء القهر والطغيان.
قابلهم رصاص الأعرابي كعادته، وكما كان يفعل بآبائهم وأجدادهم من قبلهم إبان الثورة، في مواسمها، وغير مواسمها.
أخرج الشبيبة قلوبهم من صدورهم وقدموها مع الورود لجنود الأعراب المجلوبين من شتى بقاع الأرض، هاتفين باعلى أصواتهم سلمية، سلمية، سلمية.
لم يأبه الشيخ بسلميتهم، بادلهم الأعراب الرصاص الحي، رصاصة مقابل وردة، رصاصة قبالة قلب ينبض بأحلام الحياة، بأحلام الشباب، بأماني الثورة والحرية والكرامة التي طال انتظارها.
سقط القلب على القلب، سقطت الوردة، اختلط ماء القلب بلون الوردة.
أصبحت أرض الخلود قلبا ووردة يخترقهما بارود السلطان.
بدأ التاريخ من جديد في بلد المقابر التاريخية يكتب صفحاته باللون الأحمر، ويأخذ مكانه في ربيع العرب الذي بدأه البوعزيزي وأتبعه خالد سعيد وثالثهم علي مشيمع في بلد النخيل.
خرج الأحرار في بلد اللؤلؤ من مكامنهم من خوفهم المديد، لا ليعودوا بخفي حنين، بل بكرامة كانوا قد افتقدوها هم وآباؤهم ومن قبلهم أجدادهم منذ عشرات السنين بفعل لعبة الأعرابي بالنار والحديد.
فهموا اللعبة هذه المرة.
حفظوا الدرس هذه المرة.
تناسلوا من كل حدب وصوب في بقعة منسية لم تكن شيئا مذكورا في تاريخ بلدهم.
وبفعلهم أصبحت شيئا مذكورا، وباتت تقض مضجع الأعرابي القريب والمجاور.
وأصبحت الأبصار تشخص إليهم في دوّارهم من كل حدب وصوب، والصوت يلعلع، حرية، حرية، حرية.
وبات الدوار، لؤلؤة تشع بكل ألوان الفرح الغامر وبنسمات الحرية بعد سنوات من الجذب واليباس، منذ أربعة عقود وأكثر، لا بل من زمن الهيئة العتيد.
جاءوا شبابا وشيبا، نساء ورجالا بفرحهم ومطالبهم ونزواتهم الثورية ولوحاتهم التشكيلية.
لم تكن مطالبهم كثيرةً ولا تعجيزيةً.
كانت مشروعة منذ الأجداد والآباء، وسار على خطاهم الأحفاد.
ولكن الأعرابي كان لهم بالمرصاد، كان يعدُّ العدة باسم الحوار، ولا حوار، ويعدُّ الطبخة للغدر في الدوّار.
اعتقدوا لوهلة أن ذلك الأعرابي ربما لم يعد أعرابيا لقد غير من قيافته، ربما يكون قد تصالح مع أحفاد من غزاهم في غفلة من الزمن الغابر.
لم يخطر ببال شباب الرابع عشر من شهر "فالنتاين" أن الأعراب اشد كفرا ونفاقا، واشد بطشا كلما تقادم بهم الزمن وتحالف معهم أعراب القرن العشرين، وبدعم من سادتهم، بقواعدهم وأساطيلهم الإمبراطورية.
جاء الدرس الأول قمعا ودما ونارا ورصاصا مسكوبا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
لكن إرادة الروح لا يكسرها الرصاص ولا النار ولا آلة البطش المدعومة بالإعلام المزور ورائحة الغرف المغلقة والمظلمة وأساطير المطبلين والمزمرين، ومنطق أصحاب المزرعة.
شعب أراد الحياة، شباب أراد الظفر فلا بد أن يستجيب القدر.
وظل الشباب مصرين على ما بدأووه، ومن ورائهم شعب أبى أن لا ينكسر.
فعاث الأعراب بطشا وتنكيلا وثأراً في كل مكان وطأته جزمات البلطجية والفداوية
ولكن الشعب أراد الحياة، ولن ينكسر.
فما عادت تفيد فنون العقاب، ولا أساليب الهمجية.
ولا القمع المنظم، ولا الترهيب بالفتنة الطائفية، فقط شباب يريدون وطنا حرا وشعبا سعيدا ليس فيه تمييز ولا طائفية.
فهذا الشعب قد خبرَ الأهوال والبارود، ومصادرة الحريات مذ كان في الأرحام، مذ كان فتيا.
وسيبقى صامدا رافعا صوته عاليا أريد الكرامة أنشد الحرية.
هذه أحلام أجدادي وآبائي مذ كانوا على هذه الأرض وكانت هي أحلامي الأبدية.
لا، لم تكن ابداً هذي كما يدعي الأعرابي مطالب فئوية.
فالأحلام، أحلام، والحرية والكرامة عنوان درْجتُ عليه من بداية التكوين.
وليس كما تقول وتدعي الحكاية القبلية.
ولا كما تروى الرواية المعلبة المفصلة على رغبة الأعرابي
"مؤامرة" خارجية.
ليلصقها بمن شاء ومتى شاء.
على الخارجين على قانون الظلم ونظام الأعرابي الطاعن في السن الذي أكل عليه الدهر وشرب.
وبات يحكمه منطق الغنيمة والأسلاب، بديلا عن الوطن والمواطن والأحزاب وروح المدنية.
لا يا سادتي فالرواية شيء آخر سارويها لكم.
هذا شعب أراد الحياة في هذا الربيع العربي الممتد من المحيط إلى الخليج زاحفا نحو المستقبل الأجمل، نحو مشرق النور، يكتب تاريخه بالأحمر القاني الممزوج برائحة الورد والبارود، هاتفا إلى عنان السماء: حرية، سلمية، حرية، حرية.
ظن الأعرابي أنه بقبضة الحديد سيكسر الإرادة ولن يوفر حتى النساء والأطفال والشيوخ أو دور العبادة.
فقام ما قام به، وشن حرب إبادة همجية دون هوادة.
فالرعب كما ظن الأعرابي هو سيد الموقف، والقوة الغاشمة العارية من كل منطق أو ضمير هي الفيصل في حكاية الشعب العنيد الأبية.
فجاء الجواب واضحا صارخا فاضحا، لكن: إنْ استطعتم أن تخترقوا الجسد الحي برصاصكم الملون والانشطاري وتخنقوا الروح بغازاتكم السامة، فلن تستطيعوا أن تقتلوا جذوة الروح، وثورة النفس الأبية.
شباب عاهدوا شعبهم وأنفسهم أن لا يعودوا بخفي حنين.
واجهوا الآلة بصدور عارية إلا من قلوب يعمرها الايمان بقدوم الثورة العاتية.
على الرغم من التواطؤ وازدواجية المعايير ودعم الرجعية والإمبراطورية.
وما خاب شعب بشيبه وشبيبته، نسائه ورجاله، مطالبه حرية ووردة إزاء الرصاصة الغادرة.
وشعب هكذا شبيبته، وهذا ديدنه، يخبرنا القدر أنه لن يخيب، أبدا لن يخيب،
هذا ما يخبرنا به الهدهد والعندليب.
عن حكاية 14 من فالنتاين من الشهر المجيد من السنة الحادية عشرة.
الممتدة في الزمن.
عن ربيع بلادي، وشعب بلادي التليد.
وحكايات الامهات الثكالى.
والزوجات الأرامل.
والآباء المفجوعيين.
عن حكايات القرى والمدن.
عن شمس الدوّار وربيعه.
عن المنامة.
التي ها هي اليوم تستعيد مكانتها وبهاءها بروح الثورة.
في قلب الإحتجاج.
تعود فيه المنامة عاصمة للحلم وللعرس ولثقافة الثورة.
لا للأكاذيب والترهات.
وتعود فيه بلادي أرض الخلود كما كانت منذ عهود.
وكما تخيلها ذات مرة جلجامش.
في غابر الأزمان والأوان.
تكنس الذل والهوان.
أجل إنها حكاية 14 من فالنتاين.
*باحث بحريني مختص في علم الاجتماع.