علي العكري خيمة لكل الناس « 2 »

2012-10-08 - 12:11 م


مرآة البحرين (خاص): هذه الحلقات لم يُكتب لها أن تكتمل. قرار القبض كان أسبق منا وأنفذ.. الأربعاء 3 أكتوبر كان هو موعد جلستنا التالية مع الدكتور علي العكري. لكن نطق محكمة التمييز بتأييد حبسه لـ5 سنوات سبقنا في 1 اكتوبر، وتنفيذ قرار (القبض) سبقنا في 2 أكتوبر. 

سننشر ما أُنجز منها، مما خصنا به قبل أن يصير في قبضة الجلاد مرة أخرى، وسنكمل معكم يوماً باقي تفاصيل الحكاية، بلسان العكري نفسه.. 
نعدكم بذلك، ونعد التاريخ.. نعدكم أن نبقى أوفياء، نكتب تفاصيل كل سيرة صنعت هذه اللحظة الوطنية التي ما زلنا نعيشها، فتاريخ 14 فبراير هو مجموع هذه السير.


حتى صباح 15 فبراير، لم يكن العكري جزءاً من الحدث، كان في هامشه. لماذا استُهدف أكثر من غيره من الأطباء؟ ما الذي سببه للسلطة من وجع أكثر؟ ما الذي جعل الهجمة الشرسة عليه والانتقام منه أبلغ؟ هذا ما قد تكشفه لنا الحلقتان القادمتان.

سأحتفظ بالقبعة

لا نزال في يوم 15 فبراير. وردة الشهيد مشيمع لم تتوسد الأرض بعد حين سقطت وردة المتروك. المشاعر متأججة وغاضبة. لم يتوقع أحد أن يسقط جراء القمع قتيلين في أقل من 24 ساعة. الوتيرة تصاعدت سريعاً، كذلك الهتافات الغاضبة.

ظهراً، يتجه العكري مع أحد أصدقائه للمقبرة حيث يدفن الشهيد الثاني. من هناك، سمعا أن مسيرة اتجهت نحو الدوار. انطلقا بالسيارة. كانت المسيرة راجلة وحاشدة " ذهبت مع صديقي لنرى، رأينا المسيرة تتقدم نحو الدوار، أوقفنا السيارة عند (تقاطع القفول) وأخذنا ننتظر. تبين لنا بوادر وصول المسيرة إلى الدوار، لم يعترضها أحد من رجال الأمن، تحركنا نحن أيضاً، ذهبنا إلى الدوار، كنا من بين أول الواصلين".

ما إن وصلت الجموع عند (تقاطع القفول) حتى تحول المشي إلى جري، السابقون إلى الدوار، العشرات التي توافدت لم تلبث أن صارت مئات، والمئات تكاثرت إلى ألوف. في المكان نشوة الطقس ونعشة الحرية. صورة ميدان التحرير في القاهرة لا تزال تحرض البحرينيين: هل سيصير دوار اللؤلؤة ميدان تحرير البحرين؟ 

يتذكر العكري: "لم يلبث أن حضر ابراهيم شريف أمين عام جمعية وعد، أول الملتحقين بالشباب من الجمعيات السياسية. حمله الشباب على أكتافهم، أوصلوه إلى محيط النافورة، وقف فيهم وألقى خطبة مضمونها: يا شباب أنتم تصنعون التاريخ، هذا الميدان ميدانكم وهذه الثورة ثورتكم، لا تتركوا أحداً يقوم باختطاف ثورتكم، ونحن كجمعيات سياسية سنقدم لكم الدعم والمساندة". 

يكمل العكري " كانت الشمس حامية والعرق بدأ يتصبب من جبهة شريف، أخذت قبعتي ووضعتها على رأسه. كان شريف يوصي الشباب بالسلمية والابتعاد عن الشعارات الطائفية، يدعوهم إلى عدم الانسياق لشعارات التسقيط والسب، يحثهم على الوجود المستمر في الدوار كي لا يتركوا فرصة لاقتحامه وتفريق المعتصمين من قبل الأمن. الأجواء كانت حماسية جداً ومؤثرة".

بعد أن أنهى شريف كلامه ونزل عن صدر المكان التقى بالعكري. قال له الأخير: هذه القبعة عزيزة علي. كيف؟ سأل شريف. أجاب العكري: ذهبت معي غزة. سأحتفظ بها إذاً: قال شريف مبتسماً.

خيمتي بـ75 دينار

بدأ العكري يشعر بنفسه داخل هذا المكان، أحبّه. لم تلبث الخيم أن بدأت تُنصب. بعفوية ذهب إلى بيته الواقع في منطقة السهلة القريبة نسبياً من منطقة الدوار، أخرج خيمة صغيرة هي دعاية لمشروب (سفن أب)، عاد الدوار يحمل خيمته، اختار صديقه موقعاً باتجاه مباني أبراج اللؤلؤة، نُصبت الخيمة. 

يقول العكري: "جلسنا فيها مجموعة من الأصدقاء، أحببت المكان والطقس والحلم بالتغيير، شعرنا أنه يجب أن نكون جزءاً من الحدث بوصفنا مواطنين، لا بوصفنا أطباء، راودتنا فكرة المبيت في الدوار، تشجعنا".

غادر العكري إلى بيته لأخذ مجموعة من الألحفة للمبيت. عندما عاد، كانت الحشود قد أخذت تتوافد بلا توقف، وكانت ثمة منصة قد شيدت وميكرفونات علا صوتها، والخيم انتشرت في كل مكان، والناس تهيأت للمبيت، ومحادثات عن الحاجة لتثبيت خيمة طبية للحالات الطارئة. كان هذا من أهم الأمور التنظيمية التي لا بد من البدء بها. "دخلت الخيمة الطبية وكانت فارغة وقتها، بها منضدة واحدة في الوسط، وهناك يقف كل من المسعف حسن واعظي والدكتورة ندى ضيف وعدد من الشباب المتعاونين"، يكمل: "عملت اجتماعاً مصغراً مع بعض الأطباء حديثي التخرج. تكلمت معهم، قلت لهم بضرورة أن لا يقوم العمل على الفزعة، وأنه لا بد من جدول مناوبات. أخذنا قائمة بأسماء المتطوعين من الأطباء والممرضات والمساعدين والدعم اللوجستي. عملنا قوائم وحصرنا الاحتياجات. بشكل غريب جهزت التأثيثات كلها في اليوم الثاني". 

انقضى ذلك اليوم، ودخل يوم 16 فبراير. العكري المأخوذ بالحماس والمكان يقرر الذهاب إلى الدوار بعد انتهائه من الدوام. "كانت لدي عيادتي الخاصة عصراً، ألغيتها، ذهبت مع صديقي إلى مجمع جيان القريب من الدوار، واشترينا خيمة سعرها 75 ديناراً، كانت القطعة الأخيرة لديهم. ذهبنا من فورنا ونصبناها، شيدت خلال دقائق، لم نعتمد على أوتادها لأنها ضعيفة، الشباب أحضروا (أصياخ حديدية) وثبتوا الخيمة بشكل قوي. هناك أنت لست وحدك في أي شيء، الكل يريد أن يساعد ويساهم. كان الطقس الجوي رائعاً، وكذلك   الطقس الاجتماعي. أقمنا الخيمة في موقع مطل على المنصة، موقع استراتيجي بالفعل، كان من الذكاء اختيار هذا المكان". 

الخيمة الطبية

بدأت الاستعدادات لتجهيز خيمة طبية وخيمة للمفقودين. وضعت الخيمة الطبية في الجهة المقابلة لمحلات المنتزه التجارية. أوقف الشباب سيارة (جيمس) قريباً من الخيمة، تم إعدادها لحالات الإسعاف. لم تكن الفكرة من أجل طوارئ المواجهات، بل من أجل الإصابات العادية والحالات الطارئة.

الخيمة الطبية بدأت تصير خيمة مرتبة وكأنها بالفعل مستوصف صغير. في اليوم الثاني كان عدد كبير من الأطباء يتواجدون فيها. صار حضور منقطع النظير من الأطباء المتطوعين. وصار الوجود في الخيمة بشكل منظم. الأطباء تبرعوا بأجهزة من عياداتهم. أتت التبرعات من كل مكان. يقال إن الخيمة كان بها أجهزة وأدوية بقيمة 9 آلاف دينار. ندى ضيف سألت ما الذي تحتاجونه من أدوات، وذهبت لبعض الصيدليات وجمعت تبرعات وأثثت. كان لدينا رفض تام أن يتم إحضار أي شيء من السلمانية. لكي لا يحسب علينا. عينات كثيرة أخذتها إلى هناك من عيادتي".

يقول العكري "أول اختبار لنا، كان سقوط أحد الشباب من قواعد أعمدة اللؤلؤة، سقط من ارتفاع قدرة طابق ونصف من الجهة المطلة على البحر. سمعنا نداء في المكرفون يطلب طبيباً بشكل عاجل، ذهبت من فوري ورأيته ملقى على الأرض، لم تكن إصابته بليغة، لكن كان من المهم نقله بشكل آمن، لهذا طلبت له الإسعاف، قلت لهم: أعتقد أن لديه إصابة في العمود الفقري، خلال دقائق حضر الإسعاف، حملوه بشكل مهني ودقيق، نقل إلى المستشفى".

يكمل العكري: "صار ما يشبه المشادة بيني وبين مسؤول الخيمة الطبية، كان خائفاً أن يعتقل، وكان كل تفكيري حينها في إنقاذه. مرت علينا حالات متعددة وبسيطة طوال الليل. كانت ليلة تجريبية. في نفس الليلة تم وضع بعض الأسرة للمرضى، وكراسي، وتم قسم الخيمة   للجنسين، وصار نظام تسجيل. سألوني عن موعد مناوبتي لتثبيتها، قلت لهم الليلة، أخذت مناوبة آخر الليل. صرت المسؤول المناوب في تلك الليلة ومعي صادق العكري و4 ممرضات".

17 فبراير/ الفجر الأسود

كان كل شيء يعبق برائحة الحرية: الحلم الذي صار لؤلؤة بيضاء تتوهج، الميدان التي صار صبحاً يتنفس، الاجتماع البشري الذي صار كثافة من الوطن والإنسان، والطقس الذي كان يحرّض على عدم الاستسلام إلا للتغيير، كل ذلك يجعل الحلم يأتيك مستيقظاً، وتكف عن النوم. 

"قضيت معظم الوقت ليلتها في خيمتي مع أصدقائي، كنا نتفقد المحيط بين الحين والحين، تتملكنا مشاعر غامرة بالتنفس والحرية والرغبة في معانقة الحلم. كان الوضع العام للحضور هو عوائل مع أطفال، عند الواحدة بعد منتصف الليل بدأ الهدوء يخيم على الدوار. وبدأ البرد يصير أكثر. الأصوات بدأت تخفت وتنام. عند الساعة الثانية فجراً، قلت للطبيب المناوب في الخيمة الطبية: هذا رقم هاتفي،وسأذهب إلى الخيمة الخاصة بي وهي قريبة في حال حدث أي طارئ".

يكمل العكري: "جلست مع الأصدقاء نتسامر وبدأ التعب يظهر علينا. صادق العكري نام. عند قرابة الثالثة فجراً سمعت فوضى: "أكو طبوا..". كنت وحدي مستيقظاً مع أحد الأصدقاء. سمعت صوت من المكرفون يقول: "يا شباب هدوء ما في أي شي، فقط رددوا سلمية سلمية". العدد في الدوار كان قليلاً نسبياً. حاولت أن أيقظ صادق من النوم. قلت له: يبدو سيهاجمون. خرجت من الخيمة أنظر جهة الشمال، تفاجأت بأضواء سيارات الأمن، كذلك من جهة الجنوب، كانت القوات تنتشر في كل مكان بهدوء.  جاءني اتصال من الطبيب المناوب يقول: يبدو سيهاجمون. خرجت إلى الخيمة الطبية القريبة من خيمتي. لم تكن أكثر من هذه المسافة، لم أسمع أي نداء أو دعوة للتفرق، بدأت تصير بلبلة بين المعتصمين، وبدأت شعارات سلمية سلمية، وبدأ الطلق". 

في الخيمة الطبية، قامت الممرضات مباشرة بلبس الماسك (duble mask)، وأعطين العكري كي يلبسه أيضاً، "نظرت للخارج، كانت الفوضى عارمة، النساء يصرخن والأطفال، الطلق يأتي من 3 جهات، تركت جهة واحدة فقط، أغلقت الباب لحمايتنا من الطلقات التي تأتي من جهة أسواق المنتزه، كنت أرى الأمهات والأطفال أمامي يصرخن مرعوبات، وكان رجال الأمن يتقدمون بالقنابل الصوتية ومسيلات الدموع والمطاط. بدأ الناس يتوافدون إلى الخيمة الطبية، امتلأت كلها، بدأنا نعالج حالات الاختناق، تزايد العدد، لم نعد قادرين على السيطرة على كل هذا العدد. كنا في الأثناء نسمع الطلقات التي تلقى على الناس بشكل مكثف ومتواصل وكأننا في حرب. شعرت أنني عدت إلى غزة حيث كنا نعالج الجرحى وسط أصوات القصف والقذائف المتتالية. كان الجميع مرتعباً في داخل الخيمة الطبية ولا نعلم ماذا يمكن أن يحدث لنا. خيمتنا هي الأولى بالنسبة لقوات الأمن المتجهين نحو الدوار أي أنهم من الممكن أن يداهمونا في أية لحظة. هدأ الطلق قليلاً وسمعنا صوت القوات تتقدم ناحيتنا، خرجت لهم ورفعت يدي، قلت: أنا طبيب وهذه خيمة طبية. صوب أحدهم البندقية تجاهي وقال: ادخل. عدت من فوري". 

يكمل العكري: " كانت الناس قد تفرقت، وكنا نشهد ملاحقات الشباب في محيط الدوار، فرق من رجال الأمن دخلت مرتجلة إلى قلب الدوار. جزء منهم تجاوز الخيمة الطبية. أغلقنا باب الخيمة الثاني. انطفأ المولد. وبشكل متعمد هناك من أطلق قنبلة صوتية داخل الخيمة. بدأنا نشعر باختناق. قلت لمن معي: سنخرج على شكل مجموعة جهزوا أنفسكم. فتحنا الباب المطل على أسواق المنتزة. خرجنا ككتلة واحدة واخترقنا رجال الأمن، كان عددنا حوالي 10، حاول بعضهم مهاجمتنا، وبعضهم الآخر أشار علينا بالمغادرة، ركبنا سيارة أحد المعتصمين وخرجنا، كان الشباب يركضون أمامنا في الشارع العام. أوصلني البيت، كنت مختنقاً، لم تكن معي مفاتيح البيت، زوجتي والأطفال نيام، ذهبت من الجهة الخلفية للبيت، أخذت عصا، ألقيتها باتجاه غرفة الخادمة، استيقظت مذعورة وفتحت لي، ذهبت من فوري لأغسل وجهي، حرقني وجهي".

كيف مر صباح 17 فبراير على العكري الذي شهد بنفسه ما حدث في الدوار؟ وماذا حدث لابن عمه صادق العكري الذي كان نائماً في الخيمة؟ وكيف سارت تداعيات هذا اليوم واليومين التاليين؟  في الحلقة القادمة...



التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus