عباس المرشد: المسألة اليهودية في البحرين
عباس المرشد - 2022-09-05 - 12:10 م
مرآة البحرين (خاص):
التطبيع سيئة كبيرة ومثله تجنيس جماعات من «الكيان المؤقت» في البحرين وتوطينهم في العاصمة المنامة. لكن السيئة الأكبر تتمثل في خلق ذاكرة تاريخية جديدة واختلاق عناصرها لتكون بديلا أو منافسا للهوية الأصلية السائدة في البلاد. هكذا تبدو صورة ما بعد التطبيع وما بعد التجنيس، حيث تشهد البلاد محاولة في إعادة كتابة التاريخ المحلي انطلاقاً من الحق الأسطوري لليهود في العاصمة المنامة. فكرة ذات أصول توراتية تعمل على تمكين نفسها في أعرق مدن الخليج أصالة.
إلى ما قبل العام 2008 كان من الصعب الحصول على معلومة حول اليهود في البحرين باستثناء معلومات متفرقة احتواها كتاب "دليل الخليج" لمؤلفه لوريمر. أما الآن فهناك عشرات الصفحات والمقالات التي تتحدث عن الجالية اليهودية في البحرين وعن تاريخها في المائة سنة الماضية. أغلب تلك المقالات تعمل على تأسيس حق تاريخي لليهود في البحرين، وخلق ذاكرة جماعية للعنصر اليهودي الذي كان ولا زال أقل من الأقليات المعترف بها.
في 2008 صرح ملك البحرين داعيا اليهود الذين هاجروا من البحرين بعد أحداث 1947 إلى العودة. أعقب هذا التصريح تعيين عضو مجلس الشورى اليهودية هدى نونو سفيرة للبحرين في الولايات المتحدة الأمريكية. تزامن مع هذا وذاك تصريح ولي العهد في واشنطن الذي تحدث فيه علانية عن قبول بلاده التطبيع مع إسرائيل وبحث العلاقات. ثم لم تكد تمرّ سنة واحدة على كل ذلك حتى افتُتحت سفارة سرية لإسرائيل في أحد الأبراج التجارية المملوكة للملك تحت عنوان مضلّل لشركة تجارية. كل هذه الوقائع حصلت بين الأعوام من 2008 إلى 2010 ما يؤكد على وجود مشروع سري كان دور اتفاقيات «إبراهام» أن تكشف عنه للعلن فقط عبر ما حصل في واشنطن العام 2020.
عمليا لم يكن العام 2008 مصادفة على صعيد المخرجات السياسية والاستراتيجية الخاصة بالتمكين اليهودي واختلاف ذاكرة جماعية لهذا المكون ضمن الذاكرة البحرينية الممزقة. قبل ذلك بسنة أصدرت البحرينية ذات الأصل اليهودي نانسي خضوري كتابها الأول عن حياة اليهود في البحرين «من بدايتنا إلى يومنا الحاضر» في أكثر من 600 صفحة تتبعت فيه هجرة اليهود إلى البحرين نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ساعية إلى إظهارهم كجماعة وطنية أصيلة رغم كونهم مهاجرين في وقتها. فجميع اليهود البحرينيين الآن قدموا إلى البلاد في بداية القرن العشرين وتوالت هجرتهم إليها لغاية العام 1947 حيث بدأت كلمة السر بالتوجه إلى أرض فلسطين واستيطانها انطلاقاً من التعاليم التوراتية. لا يمكن هنا بخس الكاتبة جهدها وإسهامها في تعريف الرأي العام بالمسألة اليهودية في البحرين. إلا أن الكتاب والتدوين خلا طبعا من رصد الهجرة اليهودية والأسباب التي تقف خلفها، كما خلا من تتبع الأطماع الصهيونية في البحرين والمنطقة.
لقد تزامنت تلك الهجرة في نهاية القرن التاسع عشر مع هجرات يهودية كبرى من روسيا وأوروبا إلى القارة الأمريكية ومناطق أخرى بتوجيه من المنظمات الصهيونية الناشطة وقتها. حينها سجلت الوثائق البريطانية في ثلاثينيات القرن الماضي تحول البحرين إلى مركز لنقل اليهود من اليمن والمناطق الأخرى إلى فلسطين عبر البحرين، وهو ما رفع أعداد اليهود في البحرين إلى مستوى لافت للنظر مشيرة في هذا السياق إلى مقال نشر في إحدى الصحف العربية تحدث عن كيف أصبح شارع المتنبي بالمنامة مملوءاً بالدكاكين اليهودية.
قبل ذلك وبالتزامن مع وعد بلفور السيء الصيت رصدت الوثائق البريطانية أيضا مراسلات بين طبيب روسي مع السفير البريطاني في فرنسا يحثه فيها على احتلال الأحساء والبحرين وتأسيس الوطن اليهودي في المنطقة واعدا إياه بالمساعدة عبر توفير الجنود والأفراد الذين تحتاجهم عملية الاحتلال. وقتها كانت بريطانيا قد قررت أن تكون فلسطين وطنا للصهيونية واليهود وكانت أيضا قد وثقت سيطرتها على منطقة الأحساء العثمانية عن طريق دعم بن سعود لاحتلال المنطقة الشرقية وضمها إلى مملكته وبالتالي اختفاء الخطر العثماني.
حلم الاحتلال والاستيطان الصهيوني في البحرين بقي حلما ينتظر الإنجاز! وهذا ما بدأ تنفيذه فعليا منذ 2008 عندما دعا ملك البحرين الجالية اليهودية التي هاجرت من البحرين بعد أحداث 1947 إلى العودة لها واستيطان المنامة واعداً بإعادة تجنيسهم وإعطائهم الأراضي. رغم أن الجالية اليهودية الحالية التي تحمل جنسيات بحرينية لم يكن يتجاوز عددها 37 شخصا إلى درجة أن الكنيس الديني لم يكن بإمكانه إقامة الصلاة لأن النصاب المطلوب للصلاة والمقدر بعشرة أشخاص بالغين لم يكن متاحا. بعد اتفاقيات التطبيع التي وقعت في واشنطن في عهد الرئيس الأمريكي السابق ترامب برزت الكثير من الخفايا ومن بينها علاقة الملك بالحاخام اليهودي مارك شنير رئيس "مؤسسة التفاهم العرقي" والدور الذي لعبه الأخير في تطبيع العلاقات منذ 2008. شنير كان قد صرح لصحيفة إسرائيلية في 2018 أي قبل اتفاقيات التطبيع بأن دولا خليجية ستعقد اتفاقا تطبيعيا مع الكيان كاشفاً بأنه استُقبل مرارا خلال السنوات الخمس عشرة الماضية في قصور حكام السعودية وعمان والبحرين وقطر والإمارات. وأشار إلى أنه "يتوقع إقامة العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وست دول خليجية مع نهاية العام المقبل". وهو ما حدث بالفعل.
من هذا الحد الزمني بدأت المقالات تتكاثر حول المسألة اليهودية في البحرين، وتوالى صدور التصريحات الرسمية على خجل تارة وبعنجهية تارة أخرى مؤكدة الحق اليهودي في البحرين وخالقة ذاكرة جديدة قوامها الحق التاريخي الأصيل لليهود. من بين ما نشر كانت المقالة الأكثر انتشاراً في موقع «المكتبة اليهودية الافتراضية» التي افتتحت مقالها بجملة استفزازية قل ما يتوقف عندها أحد. تقول المقالة في مقدمتها "حسب المراجع التلمودية عاش اليهود في البحرين منذ العصور القديمة. كما ورد في المصادر العربية أن اليهود عاشوا في حجر عاصمة البحرين عام 630 م ورفضوا اعتناق الإسلام عندما أرسل محمد جيشا لاحتلال المنطقة". هكذا تبدو البحرين وعلاقتها بالإسلام أرضا محتلة قهر شعبها النبي وحول دينها بالقوة. أما الذي يتبقى علينا فهو أن تخيل ما الذي يمكن أن تخلقه هذه الجملة على صعيد إنشاء الذاكرة وصناعة أسطورة العودة إلى الأصل والمشروع السياسي الذي تترجمه هذه الجملة الافتتاحية.
رغم التشكيك العلمي في تعداد الجاليات اليهودية الذي وضعه الرحالة اليهودي «بنيامين التطيلي» في القرن السابع الهجري (1173 ميلادي) إلا أن المقالات الصهيونية المنشأ تؤكد عليه وتجعله في صدارة أي مقالة تتحدث عن اليهود في المنطقة وكأنها تقول إن لدينا ما يثبت تواجدنا وحقنا في هذه المنطقة. في الوقت ذاته ترجع تلك المقالات أسباب الهجرة اليهودية إلى البحرين والمنطقة إلى الاضطهاد العثماني ليهود العراق تارة أو الاضطهاد القاجاري ليهود إيران تارة أخرى ثم بعد ذلك يأتي العنصر التجاري والاقتصادي بين قائمة الأسباب الدافعة لهجرة اليهود إلى البحرين.
لست في وارد الاعتراض على حق أي أقلية بممارسة طقوسها وشعائرها الدينية وضرورة أن تحمي الدولة تلك الحقوق وترعاها، فأنا نفسي أحد أفراد طائفة مضطهدة منذ عقود رغم أنها الطائفة الأكبر والأكثر عددا في البحرين. لكن الاتجاه إلى تأسيس ذاكرة جماعية مختلقة لأي طائفة أو جماعة مهما كان حجمها يعني تمزيقا مباشرا للذاكرة التاريخية الجماعية وتهديدا للهوية الأصيلة التي من واجب الدولة الإعلاء من شأنها لأنها في نهاية المطاف ستكون أرضية الهوية الوطنية. في 2018 تبنى البرلمان الإسرائيلي مشروع قانون مثير للجدل ينص على أن إسرائيل هي "الدولة القومية للشعب اليهودي". كما صوت في السنة نفسها أيضاً على قانون آخر يمنع التفاوض على القدس مكرّساً الذاكرة الصهيونية المختلقة حول القدس وفلسطين المحتلة. وفي المقابل تقوم بلدنا باختلاق ذاكرة أسطورية غير موجودة لجماعة دينية صغيرة باسم شعارات براقة كالتسامح الديني الذي ترفض إسرائيل نفسها تطبيقه في الأراضي المحتلة.
يحدثنا المفكر الراحل روجيه جارودي كيف أن هذه الأساطير المختلقة تنتج عنفا اجتماعيا يصعب احتواه فضلا عن قدرتها على تدمير الجغرافيا والتاريخ مطبقاً ذلك على عملية إنشاء الدولة الإسرائيلية. إن علينا أن نكون في موقع المسؤولية إزاء خلق مثل هذه الذاكرة والتأسيسات المتوقع بناءها عليها. إن مقالة الموسوعة اليهودية تستفز القارئ المحايد فضلا عن السكان الأصليين لهذه البلاد؛ وإلا فما هو الهدف من وضع جملة أن النبي محمد احتل منطقة البحرين التي يسكنها اليهود؟
*كاتب وباحث بحريني مقيم في المملكة المتحدة