» رأي
المَلِك الخائِف وفشل الدولة الغَنَائِمِيّة
عباس المرشد - 2012-09-17 - 5:54 م
عباس المرشد*
يوم الأربعاء، الموافق 12 سبتمبر، لم يكن يومًا عاديًا، فلأجل أن يقوم الملك البحريني بزيارة سلاح البحرية الملكي ووحدة الاستاد البحري الأمريكية، تحوّلت شوراع البحرين لساحة استعراضٍ عسكري امتدَّ لأكثر من ستِّ ساعات، انتشرت فيها المُدرّعات، وسيّارات الشرطة، وقوّات أمنية، مُعزّزة بكلِّ الأسلحة على كافّة الشوراع والطرق المؤدّية مباشرةً، وغير مباشرة، لمكان الزيارة. هذا السلوك الأمني المُبالغ فيه لدرجة الهوس أصبح بمثابة الروتين عند قيام الملك بأيِّ زيارة لمقرّاتٍ عسكرية، فعندما قرّر الملك أن يُباشر حفل تخريج دفعةٍ من الضبّاط في مقر نادي الضبّاط الشهر الماضي، شَهِدتْ الشوراع الاستنفار الأمني نفسه، وبدرجةٍ أشد، في حين أنّ الطريقة التي وصل بها الملك لنادي الضبّاط كانت عبر مروحية ملكيّة، وأطلق العديد من النشطاء طُرفةً فحواها أنّ الملك وهو في المروحية يخاف من دخان الإطارات التي قد يشعلها الثوّار في الشوراع.
قبل 14 فبراير 2011 لم يكن القادة الكبار في الدولة يحتاجون لمثل هذه الحماية المُفرطة، ومُنذ 1999 تخلّت وزارة الداخلية عن تأمين الطرق الرئيسية التي يسلكها الحاكم، واكتفت بمُرافقة أمنية عادية، وتأمين المرور السريع، بعد أن كانت تنشر عناصر من الأمن الداخلي على طول الطريق الرئيسي لدى مرور الموكب الأميري للحاكم. بطبيعة الحال لا يمتلك شباب الحراك الميداني في البحرين ما يُعينهم على تنفيذ هجماتٍ مُسلّحة ولو بسلاحٍ فردي، فضلًا عن إمكانية تنفيذ عملية اغتيال أو غيرها. نعم يملكون وسيلةً بسيطةً جدًا هي قطع الشوراع بإطارات سرعان ما يمكن السيطرة عليها. وطوال أكثر من عامٍ ونصف لم تُسجِّل بيانات وزارة الداخلية أيَّ عملية قتلٍ لأفرادها، أو حتى إصابتهم بحالة حرجة، ومع ذلك فإنّ وزارة الداخلية تُصرُّ على تضخيم آثار المولوتوف وحرق الإطارات على أنّها أعمالٌ إرهابية مُخطّطٌ لها في إيران. وفي أضخم مُبالغة عربية، أظهرت وسائل الإعلام المحّلية ما سمّته بمخازن مُتفجِّرات تتجاوز خمسة أطنان كشفتها أجهزة الأمن، ولم تُظهِر الصور التي نشرتها وزارة الداخلية سوى صفائح بنزين، وأسياخ، وزجاجات مياهٍ غازية، وربّما تحفظت الجهات المعنية على ذكر أسماء المواد المُتفجّرة، كما تحفّظت الدولة على أدلّة تورُّط إيران في أحداث 14 فبراير عندما طالبت لجنة تقصّي الحقائق برئاسة بسيوني بأدلّةٍ على تورّطٍ إيراني في 14 فبراير.
لعلَّ السؤال الذي يحتاج لإجابةٍ مُقنعة، وليس لإجاباتٍ تبدو غبيّة وساذجة، هو هل يحتاج الملك لأن ينشر أكثر من عشرات المدرّعات ومئات من سيّارات الشرطة في طريقٍ لا يستخدمه، ويمرُّ عليه عن طريق الجو بمروحيةٍ عسكرية خاصّة؟
أمنيًا، إن هذا السلوك يُعتبر عبثيًّا ولا طائل من ورائه سوى محاولة تبديد الثروة الوطنية في استعراضاتٍ عسكرية وسط مناطق مدنيّة. وقد لا يُصدِّق أحدٌ ما أنَّ الملك يخاف على نفسه من الاغتيال أو القتل، رغم مُطالبة العديد من القوى السياسية بإجراء تحقيقٍ مُستقل في مجموعةٍ من الانتهاكات المُتَّهم فيها الملك نفسه، ومطالبتهم برحيله، وإسقاط حكمه، فالحراك الميداني لا يزال حراكًا سلميًا ومُفرطًا في السلمية لدرجة مُحيّرة بالفعل. رُبّما تكون حاجة العسكري الجامحة لإبراز قوّته وسيطرته وهيمنته، جزءًا من أسباب هذه الوضعية المُثيرة للاستغراب، لكنّها تظل غير قادرةٍ على رسم مشهدٍ كُلّي يستغرق كافّة وجوه الحياة في البحرين، بدءًا من مُراقبة وحصار المناطق المدنية بمدرّعات وحراسات أمنية دائمة، وانتهاءً بعسكرة القطاعات المدنية وتسيير أعمالها وفق قاعدة البلطجة المدنية.
من وجهة نظر سياسية يمكنها الإحاطة بأغلب مكوّنات المشهد السياسي البحريني، يُمكن الذهاب إلى أنَّ نمطًا جديدًا من أنماط الدول المُنحرقة، هو نمط الدولة الغنائميّة، تشكّل بقوّة بعد أحداث 14 فبراير. الدولة الغنائمية هي واحدةٌ من بنات عائلة الدول المنحرفة عن الدولة الحديثة، التي تشمل العديد من الأنماط كالدولة التسلّطية التنافسية، والدولة السُلطانية المحدَّثة، والدولة الاستبدادية، وغيرها. في مثل هذا النمط تتحوّل ثروات الدولة من طابعها الكُلّي والمُشترك لكافّة المُواطنين، إلى ما يُشبه الغنيمة الحربيّة التي لا يَحوزُها إلا المُقاتلين في صفوف الحاكم، أو القائد العسكري، ويُصبح على الآخرين ضرورة إبداء كافّة طُقوس الهزيمة العسكرية والنفسية، بل وأن يكونوا أنفسهم غنائم يتقاسمُها الجنود والقادة العسكريون. في الدولة الغنائمية، لا وجود لمبدأ احترام المواطن، فالاحترام المطلوب إظهاره هو احترام وتقديس الذات الملكية ومن يدور حولها.
مثلُ هذا التوصيف يُوفِّر الكثير من العناء، ويحجب الارتقاب الذي يظهر بين فترةٍ وأخرى، ويدور حول قُدرة الدولة الغنائمية على إنجاز مُصالحةٍ وطنيّة، أو الإقدام على إجراء حوار حقيقي وجاد، كما تُطالب به القوى السياسية المُعارضة ( الجمعيات السياسية)، فالأحاديث التي أسرَّ بها وزير العدل لمجموعة من مُمثّلي الجمعيات السياسية، الشهر الماضي، كانت تؤكِّدُ على غنائميّة الدولة، ولم يكُن خَجِلًا من تهديد بعض الجمعيات بالعودة للعُنف وبذل مزيدٍ من الانتقام حتى إعلان الاستسلام، فالظروف الدولية من وجهة نظره، وكما قالها، في صالح هذا الخيار. وكان من المؤسف جدًّا أن تُخفي بيانات الجمعيات السياسيّة حقيقة ما يدّعيه النظام من تواصل من أجل الحوار، خصوصًا وأنّ الرجل مُتَّهمٌ في كلامه ومواقفه، وهو أحد الشخصيات التي يجب أن يُحال ملفُّها للقضاء العادل، بُتهم الكذب، والادّعاء، والتشهير، وخلق الفتنة الطائفية.
قد لا يبدو أن هُناك حلًّا في الأفق، بل إنَّ مزيدًا من التعنّت والعُنف المُباح هو ما ستكون عليه الجولة المُقبلة بعد جنيف، وربّما يكون ذلك مسمارًا في نعش الدولة الغنائمية وسقوطها القريب. فتجارب مُدُنِ المِلح تُبرهن أنّ الشعوب أقوى وأشدُّ صلابةً من بطش حُكّامها.