"يا بُو الفَعَايِلْ ..يَا وَلَدْ": قصّة الأغنية السياسية التي تبرّأ منها شاعرها وغنّاها سلمان زيمان حتى رحيله

الفنان الراحل سلمان زيمان (ارشيفية)
الفنان الراحل سلمان زيمان (ارشيفية)

2020-07-25 - 4:00 ص

مرآة البحرين (خاص): 

 

"يا بُو الفَعَايِلْ ..يَا وَلَدْ

إطرحْ ثمرْ لونِ الغضبْ

راوني العجبْ، راوني العجبْ

يابُوالفَعَايِلْ يَا وَلَدْ

علم نجايل هالنخلْ

إشلون تِروي من البحرْ،

واكْتب على ذْراع البلدْ:

إنْت الكَوي..

طُولِ الأَبَدْ

يابُوالفَعَايِلْ يَاوَلَدْ"

صوت الراحل سلمان زيمان مشفوعا بموسيقى شعبيّة رقيقة وحده هو ما حفظ هذه الأبيات حتى اليوم. لولا زيمان لاندثرت هذه القصيدة إلى جانب كل ما اندثر من التراث النضالي للشاعر علي عبد الله خليفة، الذي أرّخ فيه لشهداء الستينات وانتفاضة مارس 1965.

 

أجيال متعاقبة من البحرينيين منذ السبعينات حفظوا هذه الأغنية في طفولتهم، ومع أنّها داعبت حسّهم الموسيقي وملأت قلوبهم بالرقّة وقرّبتهم من فكرة الوطن، لكنّهم جهلوا قصّتها! شاعر هذه القصيدة كما تلفزيون البحرين تبرّأ من موضوعها تماما حتى طمسه، لكنّها بقيت في صوت زيمان، حكاية لانتفاضة مارس والحماسة الثوريّة.  

رحيل صاحب الصوت الشجي المطرب والموسيقي البحريني سلمان زيمان، أحد رفاق الموسيقار الراحل مجيد مرهون، والمناضل الكبير أحمد الشملان، يثير في البحرينيين مواجع كثيرة. ففي زمن ما، كان زيمان، وإبراهيم حبيب، وخالد الشيخ، وعلي بحر، ثيمة الأغنية البحرينية الكلاسيكية التي دندن بها الأطفال طويلا، وفضّلوها على الطرب العراقي والكويتي والسعودي. 

لم تعد هذه الأغنية ذات الإيقاع الشعبي القريب من القلب موجودة أكثر، أو كما قال زيمان نفسه "تم إزهاقها" ولم يعد مباحا الاستماع إلى ما سواها! 

زيمان، الذي اعتقل في الثمانينات، وعاش في المنفى عددا من السنوات، كان أحد أعضاء جبهة التحرير الوطني البحرانية (يسار ماركسي). في الستينات لحّن الموسيقار الراحل مجيد مرهون مطلع قصيدة وقع عليها في "نشرة الجماهير": ‬طريقنا أنت تدري...‮ ‬شوك ووعر عسير. ‬سمعه رفيقه في السجن المناضل أحمد الشملان، فقام بتأليف الأبيات الأخرى ليكون ذلك لاحقا نشيد جبهة التحرير الوطني البحراني. كان لزيمان أيضا مشاركته في صياغة هذا النشيد بزيادة مقطع آخر.

غنّى زيمان لشهداء الوطن، شهداء جبهة التحرير والحركة العمّالية والمعارضة البحرينية في الستينات والسبعينات، فغنّى لدم الشهيد سعيد العويناتي "دمع الدفاتر حبر و مرّن اطيوفك" .

أثناء دراسته في بغداد نشرت صحيفة «طريق الشعب» قصيدة للشاعر العراقي كاظم الرويعي يرثي فيها صديقه وزميل دراسته «سعيد العويناتي» الذي استشهد في 1975 بعنوان «دمع الدفاتر حبر» فتأثر سلمان بالقصيدة وأصبح يرددها في كل مكان حتى صاغ لها لحنا يتناسب مع كلماتها، وقام بغناء هذه المرثية لتكون أول تجربة لحنيه له نالت على استحسان الكثيرين مما تأثروا بهذه الأغنية.    

 

أحب الناس زيمان ليس على أساس "تاريخه النضالي"، بل لفنّه الرقيق والملتزم والصادق، أطربتهم كلماته وصوته وألحانه وقربه من قضايا الناس، فضلا عن انفتاحه حتى على مستوى لهجة الغناء، من البحرينية (المحرّقية) إلى اللون اليماني والعراقي. 

وفي الكاسيتات القديمة والحديثة، غنّى زيمان للقدس والقضيّة الفلسطينية. غنّى لكبار الشعراء الفلسطينين ومن بينهم توفيق زياد ومحمود درويش. 

لكن أجمل أغانيه الراسخة في قلوب الأطفال والكبار، كانت "يا بو الفعايل يا ولد". غنّاها غاضبا حزينا، حتى حين حوّلها ستوديو النظائر الكويتي إلى فيديو كليب

شارك زيمان عدّة مرات في حفل الجمعيات السياسية المعارضة الذي كانت تقيمه سنويا بمناسبة ذكرى انتفاضة مارس، وظل من بين ما يقدّمه دائما أغنية "يا بو الفعايل يا ولد"

آخر مرة غنّى فيها زيمان هذه الأغنية كانت نهاية العام الماضي في احتفال مرور 50 عاما على تأسيس أسرة الأدباء والكتّاب. وكأنّه يذكّر عرّابها علي عبد الله خليفة بماضيه!

يمثّل زيمان شاهدا على إمكانية الثبات على قيم النضال التاريخية وعلى رأسها الحرّية، حتى بعد السجن والإبعاد والتهميش، في مقابل ظاهرة الانفصام التي عاناها كثير من رجالات السياسة (من كل التيّارات والطوائف) مع تاريخهم القديم. فجأة لا يريدون أن يتذكّروا، لا قصائدهم، لا شعاراتهم ولا حتى صورهم!

بينما استجاب زيمان لتبنّي الدولة أعماله وأعمال فرقته أجراس، عبر تلفزيون البحرين وعبر وزارة الإعلام أو الثقافة (رعاية وتنظيم وبث المهرجانات الغنائية)، ظل محافظا على سياسة المسافة الواحدة من الجميع حين يأتي وقت "الصراعات"، لم نره يوقّع بيانا ضد حراك ما، أو ضد جماعة ما، ولا مصطفّا في طابور مثقّفي الديوان. 

كانت مسافته أقرب لتيّاره العريق حتى آخر عمره. في 2013 سيغنّي للمناضل الراحل محمد جابر صباح (عضو المجلس الوطني في 1973)، في حفل التأبين الذي أقامته وعد والمنبر التقدّمي: عرفت فيك الوفا... فايض على البحرين... قصّة فرح ما ينّسى... دمعة على الخدّين.

تماما كصباح، زيمان أيضا ظل وفيّا حتى آخر حياته. إجماع البحرينيين عليه بأطيافهم، حكومة ومعارضة، يثير الغرابة والتأمّل. فالرجل ليس مجرّد رمز ثقافي محايد، إنّه شاهد على "الفن النضالي" ومثال على الفنّان الحر والمستقل (لم نره يوما يغنّي في مديح السلطة ورموز النظام). 

وإذا كان من الطبيعي أن ينعاه المثقفون والسياسيون والأدباء والفنانون والشخصيات العامة، فضلا عن ما تبقّى من جمعيّات سياسيّة في البحرين، وحتى الحركة التقدّمية في الكويت، فإنّه يثير في النفس مشاعر متضاربة أن ترى نعيه من وكالة أنباء البحرين، ومن ... هيئة الثقافة أيضا. 

هيئة الثقافة التي أوقفت شقيقه خليفة زيمان، وزوجة شقيقه هدى حسين عن العمل خلال حملة التطهير في 2011. هيئة الثقافة التي كانت يوما ما تضم وجوه مثقّفة ومنتجة من كل أطياف المجتمع بغض النظر عن اتّجاهاتهم وخلفياتهم الإثنية والطائفية، ثم فجأة فتحت النار على كل من كان له موقف ضد السلطة منهم في 2011، وتركت هؤلاء الذين خدموا مشاريعها سنين طويلة، لينتقلوا من محتفى بهم إلى مغضوب عليهم، من أدباء ومثقفين بحرينيين إلى قوائم العار، ومن ثم إلى أشخاص "بلا هويّة" (تم إسقاط الجنسية عن بعضهم). 

لكن الفن والأدب الراقي يُخضع السلطة في نهاية المطاف. مهما بلغ إنكارها لا خيار آخر أمامها إلا "الاعتراف". هكذا توحي سيرة الراحل سلمان زيمان. 

"إنني أتجلى في الكويت. في هذا البلد الحبيب أشعر بأن نفسيتي تتحسن كثيرا لأنني أشعر إنني فنان بحق..". حين كان ولدا شقيّا، علّم زيمان فسائل النخيل كيف ترتوي من البحر، لكنّه ظل عطشانا. ظل قويّا للأبد، لكنّه ظل غاضبا... تماما كهذه الأرض.