أحمد البوسطة: "الشيوعي الأخير".. وداعًا

أحمد البوسطة.. وداعًا
أحمد البوسطة.. وداعًا

2020-06-16 - 8:46 م


مرآة البحرين (خاص): مات "الشيوعي الأخير". هكذا اعتاد زملاؤه تسميته كناية عن صلابته. حتى في عز موت الشيوعية بقي شيوعيا. حتى في عز انحسار اليسار الثوري بقي ثوريا. لم تغيره السنون، ولا حولته النخبوية إلى نخبوي مترفع يستمرئ رؤية الناس من العلياء. بقي مع الناس وإليهم. مع صغائرهم وهشاشاتهم.
مات صديق كل الشيوعيين والإسلاميين على السواء. كان أكبر من الضغائن والتفاهات. بارعا في تعريف خصمه بلا مواربات وحيل فكرية: السلطة. نظرة عابرة على سجل حياته يشي بالكثير. بالخليط الذي كونه فكان ما كان، هو، حيا، حتى ساعة مماته.
كان رفيقا يحب "الرفاق"، وكانت السلطة تكرههم. ترك مدرسة عالي الابتدائية التي كان يُدرّس فيها الفن، واتجه للاتحاد السوفيتي للدراسة. قدّم أطروحة الماجستير "الصراع الإيديولوجي في الصحافة الحزبية البحرانية السرية"، ونال الدرجة بامتياز. عاد محمّلا بثقافةٍ يسارية، في زمن كان اليسار فيه ليس يسيرا.
في الوقت الذي تخرّج فيه أحمد البوسطة من جامعة لينينغراد كانت الشيوعية تُهمة. وكانت المضايقات لا تأخذ بعدا مذهبيا كما هو الحال الآن، بل تأخذ بعدا أيديولوجيا.
الختم السوفيتي المختوم على وجهه قبل شهادته كان مدعاة للتوجس منه. رفضت وكالة أنباء الخليج توظيفه، ولم يوفق للعمل في أخبار الخليج ولا الأضواء ولا مجلة صدى الأسبوع، أو حتى العودة لوظيفته في التربية والتعليم.
عاد لقبلته الأولى "الاتحاد السوفيتي" في نهاية 1982، حيث كانت زوجته تكمل سنتها الدراسية الأخيرة في لينينغراد، ومكث هناك 3 شهور، قبل أن ينتقل للإمارات العربية المتحدة، ليعمل في صحيفة الفجر. هناك وجد شيئا، لكنه يريد كل شيء. عاد للبحرين بعد 9 سنوات، وقد تخلّص أخيرا من لعنة الشيوعية، فالآن: اللعنة على الإسلاميين.
وافقت الصحيفة الثانية في البحرين على ضمه إلى مجموعة المحررين المؤسسين. انضم لصحيفة الأيام كأحد المؤسسين عام 1989، استمر شهر العسل مع الصحيفة نحو خمس سنوات حتى انتفاضة التسعينيات. حينها تفاجأ بطلب من رئيس تحريرها آنذاك نبيل الحمر بالتوقف عن الكتابة في الشأن البحريني بحسب تعليمات من وزير الإعلام طارق المؤيد: "المعارضة في الخارج تستخدم مقالاتك لتشويه سمعة البحرين، اكتب عن الشيشان عن فلسطين، عن أي مكان".

البوسطة
كان حينها قد بدأ سلسلة مقالات عن:"البطالة وبحرنة الوظائف"... يقول: كانت تصلني عدة رسائل من القراء العاطلين، طلبت من نبيل الحمر إنهاء عرض رسائلهم". بعد اعتقال ما سُميّ بخلية "حزب الله البحرين" المزعومة، عاد نبيل الحمر لفرض توجهات الصحيفة على أصحاب الرأي، حدد اجتماعا طارئا للكتاب الصحافيين بهذا الغرض.
"السلطات ألقت القبض على مجموعة إرهابية تحاول قلب النظام بالقوة.. على الجميع أن يكتب في هذا الموضوع ويُجرّمهم، لا أريد أن يتعذر لي أحد، بأنه لا يكتب عمود أو ليس عنده مساحة... الكل يكتب، الكل يكتب بدون استثناء" يقول نبيل الحمر!.
كانت الكلمة فقط للصوت الحكومي ومن في فلكه، غير أن "الرفيق العنيد" دائما ما يحتفظ بموقف منفرد: ومَن أمين عام حزب الله البحريني هذا؟ قال متبسما... فنظر إلى مجموعة أوراق لديه وأجاب:"المتقوّي" أي "الشيخ علي المتغوي" الذي صار شقيقه عبدالحسين نائبا برلمانيا في 2006م.
تبسّم ثانية، فأجابه على الفور: سيتم بث اعترافاتهم بالتلفزيون قريباً وسترون وتسمعون هذه الاعترافات. على عادتها تصفق جريدة الأيام لابتكارات الأمن الوطني، إلا أن البوسطة رفض أن يصفق مع الجوقة، رغم أن نبيل الحمر مستشار الملك حاليا قال: "من لا يريد الكتابة... الباب يوسع جمل".
عاد له من جديد: كلهم كتبوا لماذا لم تكتب أنت، تتعاطف مع طائفيين مخربيين يحركون البحرين، أنت معارضة مثلهم وأنت يساري؟! أنا متأذي بسببك من وزارة الإعلام ووزارة الداخلية.. أريد أعرف ليش ما تكتب رأيك فيما يجري في البحرين.. أنت مراقب حتى فاكساتك مراقبة ويعرفون تراسل مَنْ!.
البوسطة: يُؤسفني أن أكون سبباً في أذاك، لكنك لا تطلب مني كتابة رأيي، بل تطلب كتابة رأيك ورأي الحكومة باسمي، تريدني أن أكتب ضد أهلي وناسي.. آسف.
يُغادر البوسطة الأيام إلى الإمارات مجددا، ولن يعود إلا العام 1998، حيث بدأ في كتابة تقارير للمنظمة العربية لحرية الصحافة عن انتهاكات حقوق الصحافيين في البحرين، وكان يمارس نشاطا سياسيا معارضا وأيد بقوة خيار المقاطعة.
بعد حرب التجويع، انضم لاحقاً إلى صحيفة الوقت بعد أن توسط له عبدالرحمن النعيمي، كان عنيدا لا يقبل بمحددات الصحف، ولا بمقصات رقيب، ودفع بسبب ذلك أثمانا باهظة كما يقول أقرب الناس إليه.
انضم سريعا لثورة 14 فبراير: "عندما يتعلق الأمر بالحرية وحق الناس لا مكان لتشخيص الموقف طويلا، أنت مع الناس ضد كل من يضدهم".
في 8 إبريل/نيسان، اعتدت قوات الأمن في العاصمة المنامة عليه بالضرب والركل والكلمات النابية، خلال مسيرة دعا لها ائتلاف 14 فبراير، لكنه لا زال متمسكا بميادين تقرير المصير. نجح البوسطة في أن يكون صاحب رأي متفرّد، ويريد أن ينجح في أن يكون يساريا متصالحا مع أفكاره: "إنها الثورة بما تعنيه من تواجد في الساحات، عندما يكون الخيار صعبا لا بد أن تكون صعبا".