د.عبدالهادي خلف: حصيلة عشرين سنة من خديعة الإصلاح في البحرين: سنوات التكاذب «2 - 2»

رأى الملك حمد أنه استعاد البحرين كغنيمة غزو كما كانت في عهد أبيه وبقية أسلافه منذ 1783 بعد التدخل العسكري الخليجي (عبدالهادي خلف)
رأى الملك حمد أنه استعاد البحرين كغنيمة غزو كما كانت في عهد أبيه وبقية أسلافه منذ 1783 بعد التدخل العسكري الخليجي (عبدالهادي خلف)

2019-03-08 - 8:34 ص

د. عبدالهادي خلف*

في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2002 وفي ظل الدسـتور الملكي الجديد جرت أولى الانتخابات البرلمانية في البلاد منذ حلّ برلمان 1973. وفي مخالفة صريحة لرأي أعيان البلاد بمن فيهم رجال دين من ذوي النفوذ الشعبي دعت تنظيمات معارضة، وفي مقدمتها جمعية "الوفاق" الوطني الإسلامية الشيعية وجمعية العمل الوطني الديمقراطي "وعد" اليسارية، إلى مقاطعة تلك الانتخابات. في مقابل ذلك بذلت السلطة جهوداً كبيرة لإفشال حملة المقاطعة. شملت تلك الجهود تهديد المقاطعين بحرمانهم من خدمات الدولة كما شملت قيام الديوان الملكي بتمويل الحملات الانتخابية لعدد من المرشحين بمن فيهم بعض المحسوبين على أحد التنظيمات اليسارية.  رغم تلك الجهود فقد أدت حملة المقاطعة إلى تدني نسـبة التصويت في الانتخابات البرلمانية إلى 4 ,53 %. وهي نسبة باهتةٌ جداً إذا ما قورنت بنسـبة المشـاركة التي فاقت التسعين في المائة أثناء الاسـتفتاء على ميثاق العمل الوطني قبل ثمانية عشر شــهراً.

لقد عَكَس تدني نسبة المشاركة في انتخابات 2002 أيضاً خيبة الأمل في نفوس المواطنين من تراجع حمد عن وعوده الإصلاحية كما عكس قوة وحدة موقف تنظيمات المعارضة الرافض للدستور الملكي.  ونتيجة لرفض تلك التنظيمات تقديم مرشحين لتلك الانتخابات جاءت تركيبة المجلس النيابي دون المستوى المطلوب. فلم ينجح برلمان 2002، رغم الترويج الإعلامي له محلياً وخارجياً، في إعطاء "مملكة حمد الدستورية" واجهة برلمانية ذات مصداقية. من جهتها أدت القيود الدستورية والقانونية المفروضة على البرلمان إلى الحد من سلطاته وحصر مداولاته في الشكليات.  وقد أدى هذا إلى تعزيز الخطاب المعارض الذي يلخصه ما قاله القائد الوطني المرحوم الشيخ عبد الأمير الجمري، أبرز قادة انتفاضة التسعينات، قبل إعلانه اعتزال العمل السياسي: "ليس هذا هو البرلمان الذي ناضلنا من أجله".

رغم القوانين المقيّدة لأنشطتها، استمرت تنظيمات المعارضة في تنظيم مختلف الأنشطة الموازية في الداخل والخارج للتعبير عن رفضها للدستور الجديد وما يتولد عنه. وقتها تزايدت المؤشرات على قوة تماسك تحالف المعارضة واتفاقها على أهمية الحفاظ على ذلك التماسك وتأكيد إجماعها على رفض الدستور الملكي وما يتولد عنه. وبذلك الإصرار على رفض الدستور الملكي كانت تنظيمات المعارضة تحرم الملك من المباهاة الإعلامية بمملكته الدستورية. وفي نفس الوقت كان تماسك موقف المعارضة يدفع القوى الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا إلى تفعيل دوريهما الضاغط بهدف التوصل إلى تفاهمات مرضية لكل الطراف في البحرين.  

في تلك الفترة كثفت المعارضة أنشطتها التي شملت تنظيم المسيرات والاجتماعات الجماهيرية والندوات وإرسال الوفود إلى الخارج. وفي المقابل استمرت جهود الملك، وحلفاؤه في الداخل والخارج، لمحاصرة تنظيمات المعارضة ولإقناعها، وبخاصة جمعية "الوفاق"، وهي أكبر تلك التنظيمات، بإعادة النظر في موقفها الرافض لدستور 2002 والتخلي عن مقاطعتها للمشاركة في اللعبة البرلمانية. شملت تلك الجهود عدداً كبيراً من الإجراءات الحكومية التي تزامنت مع تشديد قبضة الأجهزة الأمنية. من بين أهم تلك الإجراءات كان إصدار عدد من المراسيم والقوانين بما فيها قانون الجمعيات السياسية ومشروع قانون أحكام الأسرة (الأحوال الشخصية).

أسهمت تلك الإجراءات، بالإضافة إلى تقديم الملك شخصياً عدداً من الوعود التطمينية، في خلخلة موقف تنظيمات المعارضة الرافض لدستور 2002. وشيئاً فشيئاً تمكن الملك، ومصادر الضغط الأخرى، من إحداث انشقاقات جدية وعميقة داخل تلك التنظيمات المعارضة وفيما بينها.  فلكي تتحاشى منعها من ممارسة نشاطها السياسي علناً ولمنع تصفيتها بقوة القانون الجديد قبلت قيادات أغلب تنظيمات المعارضة بشروط القانون الجديد وقامت بتقديم طلبات تسجيلها إلى وزارة العدل. وكان أول تلك الشروط هو القبول بدستور 2002. من جهة ثانية أسهمت التفاهمات غير المعلنة بين الملك وكبار رجال الدين الشيعة إلى حل أرضى الطرفيْن وأنهى الأزمة المحتدّة بينهما عبر إعفاء الشيعة في البحرين من تطبيق قانون الأحكام الأسرية.

أعطت تلك التفاهمات زخماً إضافياً لرافعي شعار "السياسة فن الممكن" للتشديد على أهمية التواصل الإيجابي مع الملك والعائلة الحاكمة بحيث "يؤكلُ العنبُ دون أن يُقتل الناطور".  وقتها راج الحديث عن الغطاء الشرعي لقرار تنظيمات المعارضة حول المشاركة في البرلمان التي ستمهد الطريق إلى مرحلة المشاركة في إدارة الدولة. في ظل أجواء التفاؤل السائدة آنذاك  لم يكن مجدياً التذكير بتفاهمات شبيهة مهدت في 1974 إلى إعلان مرسوم أمن الدولة الذي وضع البحرين تحت طغيانه لأكثر من ثمانية وعشرين سنة. بل ازداد تأثير الخطاب المتفائل عشية انتخابات 2006 بحيث راج الحديث في أوساط التنظيمات المرَّخصة وعلى ألسنة عناصر قيادية فيها عن قرب إزاحة هذا المسئول أو ذاك من كبار العائلة الخليفية الحاكمة من مناصبهم.  

بذلك الطموح المشروع أصبح كثيرون من قادة المعارضة المعروفين بتواضعهم وبتضحياتهم وبتاريخهـم الوطني، غير قادريـن على رؤية ما يحـدث بالفعل على أرض الواقـع. وهو أن "المشروع الإصلاحي" ـــ حسبما يراه الملك ـــ لم يكن هدفه تحويل البحرين إلى مملكة دستورية ديمقراطية كما يروِّج الإعلام الرسمي.  بل كان هدفه إعادة صياغة علاقة العائلة الحاكمة بالتعاضديات الطائفية والقبلية والمناطقية التي ضمنت استقرار الحكم منذ أن صادق البريطانيون على القواعد العامة لتنظيم تلك العلاقة.

ولم يبق خارج التفاهمات القائمة سوى عدد قليل من الشخصيات القيادية في المعارضة وشبكات النشطاء غير المعلنة. أصرّ هؤلاء على رفض دستور 2002 وما يتولد عنه بما في ذلك قانون الجمعيات السياسية.  وبهذا "الانشقاق" ظهر خطٌ فاصل بين "المعارضة المرّخصة" و"المعارضة غير المرّخصة".

 

ـــ لم يكن هدف المشروع الإصلاحي تحويل البحرين إلى مملكة دستورية بل إعادة صياغة علاقة العائلة الحاكمة بالتعاضديات الطائفية والقبلية (ع.خ)

في البداية تمثلت المعارضة غير المرّخصة بـ "تيار الوفاء الإسلامي" بقيادة الأستاذ عبدالوهاب حسين و"حركة الحريات و الديمقراطية - حق" بقيادة الأستاذ حسن مشيمع. (يقضي الرجلان الآن أحكاماً بالسجن المؤبد. وللرجليْن وكثير من رفاقهما تاريخ نضالي تعرضوا فيه للسجن لفترات طويلة ومتكررة. علاوة على ذلك فللأستاذيْن مكانة دينية وشعبية معتبرة بين مختلف الفئات بمن فيهم مناصرو "جمعية الوفاق" وغيرها من الجمعيات المعارضة المرّخصة). في خضم السجالات السياسية اللاحقة سيتحول الخط الفاصل بين الجمعيات المرّخصة وغير المرّخصة إلى خطٍ يفصل بين "تيار المسايرة" و"تيار الممانعة". أسهمت تلك السجالات، رغم احتدادها في أحيان كثيرة، في تنويع الخطاب السياسي وفي توسيع المجال العام. كما طرحت بدون مواربة تساؤلات حول دور الأغطية الشرعية التي يمكن لكل طرفٍ سياسي الاحتماء بها.  

في البداية وبسبب صغرهما لم يتوقع أحدٌ أن يؤثر بروز حركة "حق" وتيار "الوفاء" على ميزان القوى في البلاد. فعدا قادة هذيْن وجمهورهما، بدت جميع الأطراف الفاعلة راضية بما تحقق من تفاهمات وما أدت إليه من نتائج.  فلقد حقق كلٌ من الملك ورجال الدين وتنظيمات المعارضة المرّخصة مكاسباً تعطي لكلٍ طرفٍ منهم ما يكفي لتطمين جمهوره وإقناعه بأهمية استمرار التعاون القائم فيما بينهم. نعم، لم تؤد تلك التفاهمات إلى إقناع الملك ومن حوله بالالتزام بنصوص ميثاق العمل الوطني. ولكنها مهدت للتخفيف من حدة الاحتقان في البلاد.

 

الطريق إلى دوار اللؤلؤة

في أكتوبر/ تشرين الأول 2006 تم إجراء انتخابات نيابية وبلدية شاركت فيها جميع التنظيمات السياسية المرّخصة (أي التي التزمت بدستور 2002 وسُجلت طبقاً للقانون لدى وزارة العدل). حققت جمعية "الوفاق" نجاحاً ملحوظاً سواء من حيث عدد الأصوات التي حصلت عليها قائمتاها الانتخابيتان أو من حيث عدد ممثليها في البرلمان الذين شكلوا أكبر كتلة نيابية في مجلس 2006 وفي المجالس البلدية. وتكررت إنجازات "الوفاق" في انتخابات 2010 النيابية والبلدية.  أما تنظيمات المعارضة المرّخصة الأخرى فلم تنجح في إيصال أيٍ من مرشحيها إلى البرلمان في أيٍ من الدورتيْن الانتخابيتيْن.

 

ـــ عشية يوم الغضب نشأ تحالفٌ ظرفي بين مجموعات شبابية والتنظيمات السياسية غير المرخصة تمكن من فرض شعاراته  (ع.خ)

كانت كتلة "الوفاق" النيابية أكبر كتلة نيابية في برلمانيْ 2006 و2010، إلا إنها بقيت مكبلة بالقيود التي يفرضها دستور 2002 والمراسيم التي أصدرها الملكفي ذلك العام. إذ لا تتيح تلك المراسيم لأية كتلة نيابية مهما بلغت عدداً وجرأة أن تغيِّر حرفاً في نصٍ تشريعي مهما كان هامشياً إلا بموافقة أغلبية كلٍ من المجلس النيابي المنتخب ومجلس الشوري الذي يعينه الملك. وبعد ذلك يتطلب الأمر تصديق الملك نفسه على التغيير المقترح.  ولهذا لم يستغرب كثيرون تلميحات متشائمة أطلقها الأمين العام لجمعية "الوفاق" الوطني الإسلامية ورئيس كتلتها النيابية النائب الشيخ علي سلمان (الذي يقضي الآن حكماً بالسجن المؤبد). فبعد أقل من سنة على انتخابه لعضوية البرلمان تحدث الشيخُ عن ندمه على ترشحه للمجلس النيابي وأثار احتمال انسحاب كتلته مجلس النواب. إلا إن تلك التلميحات، كما أوضح الشيخُ لاحقاً (9 أكتوبر/ تشرين الأول 2007) كان هدفها توصيل رسائل إلى أطراف عدّة هي "الحكومة لعدم تجاوبها وإلى القوى السياسية لعدم تعاونها وإلى بعض القطاعات الشعبية".

بذلت كتلة "الوفاق" النيابية جهوداً ملحوظة طيلة فترة نشاطها البرلماني. إلا إنها لم تتمكن من تجاوز حدود الدور المرسوم لها، ولا أن تتغلب على المعيقات الدستورية والقانونية التي تجعل البرلمان عاجزاً عن القيام بدوريه التشريعي والرقابي. لذلك كله ورغم حسن النوايا ورغم المحاولات الدؤوبة لم يكن بالإمكان منع أن يصبح برلمان 2006 واجهة تزيينية يباهي الملك بها كما كان يفعل سابقاً ببرلمان 2002، وكما سيفعل لاحقاً ببرلمان 2010.

من جهتها لم تتوقف الأجهزة الأمنية عن وضع العراقيل أمام النشاط السياسي في المجال العام. فصدرت قرارات بمنع المواطنين، بمن فيهم النواب المنتخبين، من حضور "اجتماعات أو مؤتمرات أو ندوات في الخارج أو قيامهم ببحث الأوضاع والشؤون الداخلية المحلية مع ممثلي دول أو منظمات أو هيئات أجنبية" دون ترخيص مسبق.  كما صدرت قرارات تمنع تنظيم التجمعات والمسيرات في المنامة عاصمة البلاد وأكثر مدنها كثافة سكانية. ولم تتوقف الأجهزة الأمنية عن ملاحقة النشطاء الحقوقيين والنقابيين، بمن فيهم أعضاء "الوفاق" وأنصارها. وهنا تكمن مفارقة صارخة. فمن جهة لم ينقطع التواصل بين الملك شخصياً أو ولي عهده أو عبر مسئولي الديوان وبين رجال الدين السنة والشيعة من ذوي النفوذ. بل وحافظ الملك على تعهده بإعفاء الطائفة الشيعية من تطبيق قانون الأحوال الشخصية. وفي المقابل لم يترك الملك للمشاركين في التجربة البرلمانية فرصة أن يراهم جمهورهم شركاءً في القرار السياسي.

بلغ غرور القوة بالملك حداً جعله يرى أن من مصلحته إبراز أعضاء البرلمان المنتخبين، بمن فيهم المعارضين والموالين، عاجزين عن تمرير مشروع قانون أو مساءلة وزير. بل إن استخفاف الملك بممثلي المعارضة في المجلس النيابي وصل إلى درجة استخدامه بعضهم كأدوات لتمرير المكرمات الملكية إلى ناخبيهم. وبدلاً من أن يقدر الملك وأجهزته التضحية السياسية التي قدمتها تنظيمات المعارضة المرّخصة بتحولها من رفض دستور 2002 إلى الالتزام به والمشاركة في إقامة مؤسساته، عمل الملك على تهميشها ومحاصرة أنشطتها.  

لم تتوقف الأجهزة الأمنية عن منع التجمعات والمسيرات، وملاحقة نشطاء المعارضة، بمن فيهم نشطاء جمعية الوفاق، ولم تتوقف الجهود الحكومية لتغيير التركيبة السكانية في البحرين عن طريق التجنيس الجماعي، خاصة للأفراد المجندين من اليمن وباكستان وسوريا للخدمة في المؤسستَيْن الأمنية والعسكرية. من جهة ثانية، استمر الملك في استخدام أجهزة الدولة وأدواته البرلمانية والأمنية والقضائية لإحباط كل محاولات كتلة "الوفاق" البرلمانية تحقيق تقدم مهما كان شكلياً لإنجاز برنامجها البرلماني. في إطار تلك الأجواء تعمقت مشاعر الإحباط بين الناس، بمن فيهم أنصار وكوادر الوفاق وغيرها من تنظيمات المعارضة المرّخصة. فلم يعد ممكناً لهؤلاء المحاججة بأن المشاركة في البرلمان تحت القيود التي يفرضها الدستور الملكي ستؤدي إلى إرساء نظام برلماني سليم في البلاد. ناهيك عن الادعاء بأن إستمرار المشاركة سيضع البحرين على طريق التحول الديمقراطي وبناء الدولة الدستورية التي تحمي أبناءها وبناتها وتوفر لجميع مواطنيها أسباب الولاء لها.  

 

المفاصلة في دوار اللؤلؤة

في الفترة بين 2005 و2011 شهدت البحرين تحركات متوازية وأحيانا متزامنة تنظمها المعارضة المرّخصة وغير المرّخصة. وبطبيعة الحال كانت هذه الأخيرة هي الأكثر تعرضاً لقمع أجهز الأمن بسبب الشعارات التي ترفعها والتي تعتبرها السلطة تحدياً لشرعيتها.  ولهذا لم يكن مستغرباً أن تحتضن التنظيمات السياسية والشبكات الحقوقية غير المعترف بها الدعوة إلى "يوم غضب وطني" في 14 فبراير/ شباط 2011. فهذه الجمعيات تكفلت وبدأبٍ منذ نشأتها بتأطير الأنشطة الاحتجاجية وتوفير الغطاء الحقوقي والسياسي لها.

عشية يوم الغضب نشأ تحالفٌ ظرفي بين مجموعات شبابية وبين التنظيمات السياسية غير المرخصة، "حق" و"الوفاء". تمكن ذلك التحالف من فرض شعاراته طيلة الفترة التي دامت فيها انتفاضة دوار اللؤلؤة. وفوق ذلك استطاع  أن يجتذب إلى المشاركة فيها جمهور وقيادات الجمعيات السياسية المرخصة. وجاءت استقالة نواب "الوفاق" الثمانية عشر من المجلس النيابي إقراراً بفشل الخديعة السياسية التي دشّنها الملك في بداية عهده. في غضون الأسابيع الأربعة التي عاشتها انتفاضة دوار اللؤلؤة كسر الناس جدارَ الخوف و خيضت معركة تاريخية توحدت فيها صفوف أغلب أطياف المعارضة بمن فيها من كان سيكتفي بإصلاح النظام، ومن  كان يصرّ على تغيير النظام جذرياً بتحويله إلى مملكة دستورية حديثة، ومن كان لا يرى مخرجاً إلا بالعودة إلى الحل الذي طرحته "هيئة الاتحاد الوطني" في منتصف القرن الماضي، أي إزالة نظام الحكم القبلي واستبداله بنظام جمهوري.

في الطريق إلى دوار اللؤلؤة سقط الشهيدان علي مشيمع  وفاضل المتروك برصاص قوات الأمن. يومها اهتزت البحرين، كل البحرين. لم يتصور الناس أن يطلق الملك أيدي أجهزة الأمن لتقتل متظاهرين عزّل اعتقدوا أنهم بهتافاتهم سيحركون ضمائر سلطة طاغية تجاهلتهم وهمشتهم وداست على كراماتهم طيلة عقود. تفاقمت الأمور بحلول  الخميس الدامي 17 فبراير/ شباط الذي شهد سقوط أربعة شهداء وإصابة 250 جريح في دوار اللؤلؤة. بذلك العدد من الضحايا، شهداء وجرحى، انتشر الغضب من وحشية أجهزة الأمن ولم يجد الملكُ بداً من الخروج على أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة لتهدئة الناس. وسمّى الملك الشهداء شهداء لأول مرة في حياته. لكنه خرج مباشرة بعد ذلك إلى وزارة الداخلية وقوة الدفاع ليهنئ ضباط الوزارتيْن وجنودهم على أدائهم مهماتهم بنجاح وليؤكد لهم دعمه وامتنانه لما يقومون به لحفظ الأمن.

شكل الخميس الدامي نهاية مأساوية لخديعة استمرت أكثر من اللازم.  بل ما كان لها في الأصل أن تبدأ وتستمر. فلم تعد المسألة بعد الخميس الدامي مسألة يمكن تسويتها بتعديلات دستورية أو عبر مجادلات حول توسيع صلاحيات البرلمان أو جبر انتهاكات حقوق الإنسان. لقد تخطت السلطة، ملكاً وعائلة حاكمة وأجهزة، كل الحدود. ولم تعد القضية بالنسبة لكثيرين وأنا منهم، قضية إصلاحات في بنية السلطة بل تغييرها واستبدالها.  ولهذا عبر كثيرون في وسط دوار اللؤلؤة عن اقتناعهم بأن ليس ثمة مخرج لخلاص البلاد وأهلها سوى إسقاط النظام. لم تصل أقسام هامة في صفوف المعارضة إلى ذلك الشعار، كما لم يتسنَ لكثيرين فرصٌ لدراسته واتخاذ موقف منه رفضاً أو تأييداً. فلقد دخلت القوات السعودية والإماراتية في منتصف مارس/ آذار 2011 بعد أن استنجد بها الملك وكبار أفراد عائلته ولم يعد للملك ولا لعائلته حاجة للاستمرار في خديعة الإصلاح. فهو يرى أنه بذلك التدخل العسكري وباستمرار الدعم السياسي والمالي من أشقائه حكام الخليج، قد استعاد البحرين غنيمة غزو كما كانت في عهد أبيه وبقية أسلافه منذ 1783.

 

* كاتب بحريني أستاذ علم الاجتماع في جامعة "لوند" بالسويد

* للاطلاع على ملف "عقدان في الظلام" بصيغة pdf