مشهد من حياة طفلة بحرينية والدها معتقل

2017-07-01 - 11:25 م

مرآة البحرين (خاص): لسنا نقدّم هنا الرواية الأكثر إيلاماً، وليست أحداثها الأكثر إثارة، إنه روتين يومي يعيشه البحرينيون، وتعيشه عوائل السجناء السياسيين في البحرين. صار أمراً مألوفاً، لا لأنه كذلك، بل لأن تحويل شيء ما -مهما كان مهيناً أو مؤلما- إلى جزء من روتين حياة إنسان ما، يجعل التوقف عنده أقل، ومع طول الوقت والتكرار يبدو عادياً، وقليل الاستهجان.

هنا سرد بطيء، لتفاصيل بعض هذا اليومي الذي يعيشه البحرينيون، والألم الذي يتربّى في نفوس صغارهم. كل شيء قد ينساه الصغار إلا الألم، يكبر داخل وعيهم كلما كبروا، ويشحنهم بالغضب والسخط. تروي إحداهن تجربة الزيارة الأولى لأخيها المعتقل، وتروي خلالها حكاية طفلته الصغيرة التي دخلت حياتها مفردات جديدة وخطط لم تكن تخطر على بال أحد.

إنها الزيارة الأولى لأخي بعد اعتقاله. موعدنا الساعة الثانية عشر ظهراً. درجة الحرارة تتجاوز الأربعين. الشمس تستعرض قدرتها على تذويب الجماجم.

وصلنا قبل عشرين دقيقة من الموعد المحدّد، أمّي وزوجته وإخوتي وأنا، معنا طفلتاه؛ فاطمة لا تتجاوز الثالثة والنصف من عمرها، ومريم رضيعة في شهرها الثالث.

عند البوابات الخارجية شاهدنا عدداً من العوائل تتوافد، تُوقف سياراتها عند المكان الأقرب لكي تقلّل مسافة المشي تحت الشمس. عرفنا أن هذا هو المدخل، أوقفنا سيارتنا حيث أتيحت لنا المسافة من البوابة.

في الخارج، جحيم الشمس ليس مجازاً، كتلة ملتهبة لا ترحم. ستتوقف عند كابينة، تطرق نافذتها لكي يُفتح لك، وستقدّم لمن هم في الداخل بطاقات عائلتك عبر النافذة، كي يتم تسجيل الأسماء وصلات القرابة. سيستغرق الأمر وقتاً تظنّه ساعة من الذوبان. وإذا كان هناك من سبقك ستنتظر لينهي دوره أولاً، تكون حينها قد أوشكت على الهلاك. عند هذه النافذة أيضاً، سيتم إعطاؤك موعدا آخر للزيارة المقبلة.

ستنتهي من هذه الكبينة، لتتوجه إلى كبينة أخرى لا تتجاوز مساحتها غرفة حارس في بناية، هي الخاصة بتسليم الأمانات من الأهالي لإيصالها إلى السجناء، هذه المرة سيكون عملك داخل الكبينة لا خارجها، لكن ما إن تفتح بابها حتى تجد نفسك تبحث عن أثر نَفس، قبل أن تبحث لقدمك عن  أثر موطئ. متر مربع هي كل المساحة التي يقف عليها الجميع. الباب بالكاد يُفتح، الأجساد تعتصر والأنفاس تختنق. سيستغرق الأمر وقتاً أطول للتدقيق في ما يسمح إدخاله أو لا يسمح، الأموال والثياب والكتب التي سيتم تمحيص اسم مؤلفها ليسمح بها أو تُمنع، وكل شيء آخر..

في البحرين، يبدأ من يوم 1 يونيو سريان حظر العمل وقت الظهيرة من الساعة 12 ظهرا حتى الرابعة عصراً، يسري هذا على المنشآت التي تعمل في مواقع عمل مكشوفة، وهو قرار في محلّه تماماً، لكن  لا قرار يسري بحظر وقوف أهالي المعتقلين وقت الظهيرة، منتظرين الدخول على أبنائهم، ولا يهم ما يتعرّضون له خلال هذا الوقت من لهيب لا يرحم.  

كانت الطفلتان قد بدأتا تذوبان من الحر قبل أن نتوجه إلى كابينة الانتظار. دخلت وأمي وزوجة أخي والطفلتين بينما بقي أخواي في الخارج يكملان الإجراءات. الكبينة عبارة عن غرفتين صغيرتين بينهما مدخل، واحدة للرجال والثانية للنساء. مساحة الغرفة لا تتجاوز 3 أمتار مربعة. في كل غرفة مكيف واحد تصل برودته المتوسطة لجهة واحدة فقط. لا تكفي الكراسي لأعداد النساء المنتظرات، بقي قرابة نصفهن واقفات، ازدحمت الغرفة، صار التكييف برودة مجازية.

ظننا أن وقت الزيارة حلّ بعد أن استدعى أحد الرجال عائلته. خرجت النسوة جميعاً ووقفت العوائل في طابور تحت الشمس عند مدخل السجن. الدقيقة ثقيلة بالكاد تمرّ. كانت مريم طفلة أخي ذات الأشهر الثلاثة على كتفي، وضعت على رأسها لحافاً خفيفاً يحميها من الشمس، لكن ذلك لم ينفع. رأيتها تذوي مثل زهرة محترقة. أما فاطمة طفلته الكبرى فقد تبللت بالعرق وتبهدل كل شيء فيها، وهي التي اختارت ملابسها بعناية للقاء والدها، وبطبيعة الحال كنّت أذوب تحت عباءتي السوداء.

لم نكن نرتدي ساعات للتأكد من الوقت، فمن غير المسموح لنا ارتداء أي شيء (ساعة، ذهب، ..الخ) أو حمل أي شيء معنا غير بطاقات الهوية. الشرطي الواقف عند الباب قال إنها 11:50، وأنه لن يسمح لنا بالدخول قبل الساعة 12 بعد أن يخرج أصحاب الزيارة السابقة. لم نعد نحتمل الوقوف أكثر. عدنا جميعنا إلى كبينة الانتظار، بقي بعض الرجال خارجاً، حملت من فوري مريم وتوجهت بها ناحية المكيف، وقفت في وجهه مباشرة، كانت ذابلة وباهتة.

بقينا وأهالي المعتقلين داخل الكبينة، نصفنا جالسات والنصف الآخر واقفات، حتى تمت دعوتنا للخروج مرة أخرى من قبل بعض الأهالي، هذه المرة تأكدنا أن الوقت قد حلّ. خرجنا من جديد. أمسكت يد ابنة أخي الكبيرة ذات الأعوام الأربعة. خفت عليها أن تصيبها ضربة شمس. حشرتها بين الأرجل الكبيرة، لكنها اختنقت من شدّة الحرّ. كانت البوابة مفتوحة والعوائل مستنفرة نحوها. الجميع يريد الدخول سريعاً هرباً من حرارة الشمس التي أكلت الأجساد. يستلم رجل الأمن عند البوابة بطاقات العوائل ويستفسر عن القرابة ويتأكد منها بالوثائق قبل أن يسمح بالدخول. العملية بطيئة جداً تشعرك وكأن كل دقيقة لك في الخارج هي ساعة في جهنّم. أخيراً وصل دور عائلتنا. سلمنا رجل الأمن البطاقات. طلبت منه فيما هو يتأملها أن يسمح لزوجة أخي وطفلتيها بالدخول عند حدّ الباب من الداخل حيث بعض الظلال، أشرت لحالة الصغيرتين. تطلّع ناحيتهما وبدا متردداً ثم سمح لهن. نادى بأسمائنا واحداً واحداً وشعرنا بأننا أخيراً سوف نتنفّس. عبرنا البوابة : النساء من هذه الجهة. أشار.

بعدها انتقلنا إلى غرفة التفتيش. كانت العائلة التي سبقتنا للتو غادرت وإحدى الشرطيات ترش ملطّف الجو فقد أخذ العرق من الجميع مأخذه. طالعتُ الشرطية بنظرة مشحونة، كنت أريد أن أقول لها: نعم رائحتنا أصبحت كريهة. هل هذا ما تريدوننا أن نكون عليه؟ وكأننا في دولة لا تستطيع تهيئة مدخل السجن ليكون مكاناً محترماً؛ مسقوفاً ومكيّفاً. أردت أن أقول لها فيما هي تمرر يدها على كل أجزاء جسمي: هل ترشين معطّر الجو لتقولين لنا أن رائحتنا كريهة؟ هل هذا إذلال مقصود ومتعمّد؟ انتهى التفتيش. لقد تم تفتيش حتى الصغيرات بدّقة.

كانت فاطمة خلال كل ذلك صامتة مدهوشة ملتصقة بعباءة والدتها. أما مريم فقد داخت على كتف والدتها من شدّة الشمس ونامت سابحة في عرقها.

أخيراً وصلنا للمحطّة الأخيرة قبل لقاء أخي، كاونتر تجلس عليه شرطيتان، أعطيناهما اسمه فتأكدت من ورقة مسجلة أمامها ونادت اسمه عبر مكبّر الصوت ورقم الكابينة، وأشارت بيدها جهة الدخول. حملت فاطمة وركضت بها: يا الله الحين بنشوف البابا.. ابتسم وجهها أخيراً وسلمتني نفسها.

عند مدخل الكبينة، كنت أعرف أنني سأرى الحاجز الزجاجي يفصلنا عن أخي. حملت فاطمة ودخلت: هكوووو الباباااا.. هتف أبوها منادياً باسمها من خلف الحاجز.. ومد يده كمن ينتظر الاحتضان.. ركضت بها إلى الداخل.. وأوقفتها فوق الرف الملاصق للحاجز. كانت أول كلمة قالتها لوالدها: راحوا الشغب؟

التصق كلّها بالزجاج وهي تفتح يدها لاحتضان والدها، وكذلك فعل أخي، وقفت صامتة مبهوتة، وكأنها تقول: هل سأحتضن الزجاج؟! كانت والدتها قد هيأتها سلفاً أنها لن تتمكن من لمس والدها وأن هناك حاجزاً سيكون بينهما. فعلت ذلك تجنباً لصدمة طفلتها. لكن يبدو أن ذلك لم يخفف من هول صدمة الواقع. لقد انكسرت ابتسامتها ولهفتها التي دخلت بها. حاول والدها مداعبتها وممازحتها بكل طرقه التي اعتاد أن يفعلها معها في البيت. لم تغادرها الصدمة وغلبها الصمت. قال لها ضعي خدك لي هنا كي أقبلك، لصقت خدها بالزجاج، وقبّل الزجاج، طالعته بابتسامة مصطنعة، قال لها الآن سأضع خدّي وقبليني، لصق خدّه بالزجاج، بقيت تطالعه بنظرة ذات معاني كثيرة وكأنها تقول: هل أنت جاد؟ ثمّ قبّلت الزجاج، وظلت تصطنع الابتسام، أجلستها بعد ذلك على ذات الرف، وكان الانكسار قد تلبّس ملامحها كاملة وغزاها الصمت. تقول لها والدتها: اضحكي وي البابا. تجيب: بضحك وياه في البيت.

حبست والدتي في عينيها دمعة، جلست على الكرسي الملاصق للجدار، وبعد أن رحنا نسأله عن أحواله مالت أمي برأسها على جانب الرفّ وراحت في غصّتها. حاول بكل الطرق تأكيد أنه بخير وأن لا شيء يزعجه هناك وبدا في قمة مرحه ومعنوياته مرتفعة. نكاد لا نسمع صوته إلا عندما يرفعه ملياً، أو نلصق آذاننا على الزجاج. جهاز السماعات الموضوعة على الجهتين لا تعملان.  

بقيت مريم نائمة، لم تعد تقوى على النهوض، استغرق الأمر وقتاً حتى تمكنت والدتها من ايقاظها إعادة نشاطها ليتمكن والدها من رؤيتها ومداعبتها.

انتهى وقت الزيارة سريعاً، شعرنا بالغصّة، لم نكن قادرين على المغادرة ولم يكن هو كذلك، طفلته ما تزال غارقة في صمتها وبالكاد تجيب على والدها الذي بذل جهده كي يلهيها ويمازحها. غادر بعد أن جاءه التنبيه الأخير من الشرطي المسؤول، وضعنا أيدينا على الزجاج كمن يصافح أحدنا الآخر، وقبل أن يخرج من الكبينة التفت وراءه وألقى نظرة أخيرة على طفلته فاطمة التي كانت ما تزال ساكنة مكانها فوق ذات الرف، رأيتُ عيناه تلمعان.

طوال طريقنا إلى السيارة لم تكف فاطمة عن ترديد سؤال واحد: البابا وين راح عقب ما مشى من الدريشة (تعني نافذة الحاجز)؟ لم تكن لدينا إجابة. تردف: راح الحبس؟ لم نكن نعرف ماذا نقول.

عندما عادت إلى البيت تسألها جدتها لأمها: شفتين البابا؟

أجابت: شفت البابا، بس ما شفته زين، ما لمسته ولا حبيته!

قبل أسابيع من الزيارة، كانت فاطمة تشرح لأختها الرضيعة التي تناغيها من فوق فراشها على الأرض، كيف أن الشغب (قوات الأمن) أخذوا والدها.. تلتفت فجأة إلى والدتها التي تنظر إليها بتعجّب: لا تضّايقين ماما.. بهدّونه.

وقبلها بأيام تضع خطّة لتهريب والدها، توشوش والدتها: "لين رحنا إلى البابا  في السجن بنضرب الشغب وبنخشه تحت الدفّة وبنهرب".

مرّة أخرى تسأل والدتها: ماما شلون أصير قوّية؟ تجيبها: تشربين حليب. تقوم من مكانها: عجل بروح أشرب حليب عشان أصير قوية وأضرب الشغب.

لم يُعلّم الطفلة ذات الأعوام الثلاثة ذلك أحد. لم يحرّضها أحد. لكنّها رأت، عايشت، وامتلأت!


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus