إلى الشهيد زكريا العشيري.. عن رسالة ما زلتُ أنتظرك فيها

2012-04-11 - 11:40 ص




إلى الشهيد زكريا العشيري.. عن رسالة ما زلتُ أنتظرك فيها
علي أحمد الديري

صديقي،

كانت شهادتك اللحظة الحاسمة في قرار مغادرتي الوطن، وضعتني شهادتك في لحظة استثنائية، فقدت فيها الإيمان بإمكانية العيش في هذا الجحيم الذي يسمونه وطنا.

لم أكن مهيَّأً لفاجعة بهذه البشاعة، رحت أبحث عن لحظة جميلة أواسي بها نفسي بفقدك، فتحت في عجالة ملفاتي القديمة، بحثت عن رسالتي المطولة التي كتبتها لك قبيل أحداث التسعينيات التي هي فصل من فصول 14 فبراير، لقد سجلت فيها لك بداية لحظات تحولي الفكري، وسردت فيها لحظاتنا الجميلة في قريتنا الوادعة، كنت أنت لحظتها بالكويت تزاوج بين العمل والدراسة. لم يسعفني الوقت ولا الحظ لأجد الرسالة، ليس من عادتي أن أضيع شيئاً من أرشيف صداقاتي، وأنت تعرف أن لهذه الرسالة خصوصيتها، فقد كنت أبوح فيها لك بلحظتي المعرفية وقلقها وأعبر فيها عن صداقتنا المرحة وأسرد فيها شيئا من سيرتنا، سيرة تربيتنا الدينية حيث دروس المأتم الفقهية والفكرية والأخلاقية التي حضرناها معاً. كان أحدها مع أخيك علي العشيري الذي تحمل ربما أكثر البذاءات التي قالها له رجال السلطة في فقدك.

كنا معاً ضمن فضاء الدروس الدينية، كنت أنت في مجموعة وأنا في مجموعة أخرى، لم نلتق ولا مرة في مجموعة واحدة، لكنا التقينا ضمن الجو الديني نفسه في منتصف الثمانينيات، تربينا ضمن الثقافة نفسها، وتشبعنا الشخصية النموذجية التي كان يبشر بها أساتذتنا في المأتم (أحمد مهدي، عبدالنبي حميد، جعفر حميد، علي العشيري، حميد الشيخ). شخصية ملتزمة دينياً، تحمل هماً تغييرا لثقافة المجتمع،تؤمن أن التغيير الثقافي يسبق التغيير الثوري، لصيقة بالكتاب، متخلقة بالآداب الإسلامية، فاعلة في أنشطة القرية الدينية والخيرية.

لقد نمّت فينا هذه التربية علاقة وثيقة بالكتاب، وبهذه العلاقة سنذهب معاً في مطلع التسعينيات لمعرض الكتاب يرافقنا الصديقان حسن أحمد سلمان وجعفر إبراهيم الطعان، وسيدفعنا فضولنا الديني للتعرف على أحد المبشرين في أحد زوايا المعرض، ستتعز علاقتنا به وستكون أنت ضمن حلقتنا الحوارية التي ستتولى التعرف عليه في مجلس صديقنا حسن أحمد، ستغادر أنت مبكراً جلساتنا مع هذا المبشر، وسنستمر نحن بحس الشيطنة والإيهام المشوار معه، موهمينه أننا نكاد نتحول للديانة المسيحية تحت تأثير دعوته.

 
ما زال فقدي لهذه الرسالة يشكل حالة غريبة في مخيلتي، أشعر وكأن لحظة عثوري عليها، تعادل الالتقاء بك. ربما هذه تشكل عندي أجمل لحظات غياب هذه الرسالة.تعطيني أملاً منتظرا بفرح ربما يجيء.

مازالت ذاكرتي تحتفظ بالوصف المرح الذي أطلقته عليك في الرسالة، وهو (الشيخ السلفي). لا أدري لماذا كنت أمازحك بهذا الوصف، ربما مراهقتي الفكرية التي كانت للتو بدأت تظهر ملامحها، ربما تكون هي المحرض لمشاقاتك، وربما تكون روحك المرحة هي التي أغرتني بوضعك في مقام التشييخ السلفي.

لا شك أنك تعرف أن لحظة شهادتك قد أوجدت ساحة حرية في قريتنا، إنها تحمل اسمك، وكما رحلت للأبدية البيضاء، فستحمل هذه الساحة اسمك للأبد. لقد أقسمت أن يكون تراب هذه الساحة أول أرض أقبلها من هذا الوطن حين أعود حاملاً معي الحرية التي دفعت دمك عقدا لها.سأعتذر لك كثيرا عند قبرك لأني لم أتمكن من تشييع موكبك الأخير. لقد منحنا اسمك إلى مركز الدفاع عن الحريات في رابطة الصحافة البحرينية التي أسسناها خارج الوطن، كانت شهادتك وثيقة مصداقيتنا ونحن نخاطب روابط العالم الصحفية،كي تعترف بنا رابطة للصحافة البحرينية، جسدك المخطط بصنوف العذاب، كان دليلنا أمام المدافعين عن حرية الكلمة في العالم.

لقد بكيتك كثيراً وبكيتك أكثر حين وصلتني كلمتك الأخيرة عني قبل اعتقالك، نقلها لي لاحقا صديقنا مجتبى المؤمن الذي دفع ثمن غربته عن هذا الوطن مبكرا قبلنا كلنا، قال لي وهو يعتذر عن تأخر نقل رسالتك، لأنه لم يقوَ على أوجاعي بها "الله يحفظ دكتور علي منهم، أخشى عليه من الاعتقال" كانت قاتلة جملتك، دخلت في نوبة بكاء شديدة لحظتها، لم أتمالك حرقتي، كنت كأني أسمعها بصوتك ونبراتك، كنت تحمل القلق عليّ وأنا الآن أحمل الوجع عليك.كنت تخشى علي وأنا الآن أبكي عليك. مازالت جملتك تبكيني بحرقة، وكأنك تقولها للتو، أتحسس حرارتها في قلبك كما أتحسس آثار الهراوات على جسدك الطاهر. سأظل أحتفي بجملتك  كشهادة أطرز بها سيرتي معك.

صارت جملتك (أنا إنسان قبل أن أكون شيعيا) شعاراً جسدك المنتهكة حقوقه دليل صدقه. شعاراً يعطي لثورتنا هويتها الإنسانية. اليوم أنت ليس إنسانا فقط، أنت اليوم شهيد على كلمتك، وليس هناك أكثر من الموت بإرادة قدرة على أن يكون شهادة على صدق كلمتنا. الشهادة التي إلت إليها أعطت لك الإنسانية الكاملة. بشهادتك أنت شاهد على الكلمة التي صارت تساوي الموت في وطننا، وشاهد على الصحافة التي قتلتها هذه السلطة في وطننا، وشاهد على حقنا في البحث عن الحرية في غير هذا الوطن، وشاهد على رابطتنا الصحفية التي أنت أحد أسبابها.

وأنا أستعيد لحظاتي معك أحد الأصدقاء أرسل لي تعزيتك التي كتبتَها لي في تعليقك على مقالتي في فقد أبي (مدنية أبي): "عظم الله لك الأجر بمصاب الوالد العزيز في الحقيقة مشاعري تجاة الراحل العزيز إنه أب للجميع وكان مثالا للأخلاق العالية فما تراه إلا هاشا باشا يهتم لأمر الصغير والكبير ولكن هو ذا هادم اللذات وقد حان الأجل وساعة الفراق..نسأل الله أن يحشره مع محمد وآله الطيبين الطاهرين". كان وقعها شديداً علي، كأنك ترد على شهادتي فيك بشهادتك في أبي. بدت لي كلمات تعزيتك التي نسيتها لأحفرها الآن في ذاكرتي، وكأنها مدخرة لهذه اللحظة، هي تشبه الآن لقية نادرة. أبكتني بحرقة مضاعفة، بكيت فيها صوتك وبكيت فيها سيرة أبي التي سردتها. كنت أكاد أسمع صوتك تنطق كلماتها لفرط ما استحضرتك في سياق تلقيها.

رسالتك يا صديقي وصلت، وما زالت رسالتنا في ضجيج الطريق الطويل للديمقراطية التي ستجعل منا إنساناً قبل أن نكون طائفة.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus