محمد سهوان… لن تشعر بعد اليوم بألم شظاياك

2017-03-18 - 5:54 ص

وأبي قال مرة

حين صلّى على حجرْ:

في حوار مع العذاب

كان أيوب يشكرُ

خالق الجرحُ لي أنا

لا لميْت .. ولا صنمْ

فدع الجرح والألم

وعيوني تفكِّرُ

برسوم على التراب

وأبي قال مرة:

الذي ما له وطن

ماله في الثرى ضريح!

محمود درويش

مرآة البحرين (خاص):

كان قد بقي للشهيد محمد سهوان أقل من 5 سنوات، ليستطيع احتضان طفله الصغير، الذي أبعد عنه رضيعا، لكنّه خرج إليه جثّة هامدة.

متّشحا بالسواد، وقف الطفل وعيناه مشدوهتان أمام جثمان أبيه، ليلقي عليه نظرة الوداع الأخيرة. لم يعرف ماذا يفعل، قال له أحدهم قبّل رأس أبيك، وقل له "بابا سامحني"، ثم مسح عليه مسحة اليتم.

 

طفل الشهيد محمّد سهوان في نظرة الوداع الأخيرة

 

بعد 5 سنوات في المعتقل، استشهد محمد سهوان أخيرا. سيقابل الله ورصاصات الشوزن التي أصيب بها وهو يتظاهر ضد الظلم والطغيان عام 2011، عالقة في رأسه. لقد رحل إلى الله، شاهدا وشهيدا.

توسد سهوان ثرى السنابس ضريحا، هي وطنه الذي يهوى. يقول أحد أبناء القرية إن لكل شخص في السنابس حكاية مع محمد، هو أول من يدفن بجوار قبر الأستاذ أحمد الإسكافي، الشخصية الرفيعة والمؤثرة جدا في تاريخ السنابس.

فصول كثيرة مرت في حياة الشهيد محمد سهوان كسائر أفراد عائلته من إخوته وأبنائهم، كان كافيا أن ينتمي إلى عائلة "سهوان" ليكون مستهدفا، فكيف وهو رجل المجتمع البارز في قرية السنابس.

كان سهوان أحد معتقلي انتفاضة التسعينات، وفي ثورة 14 فبراير، أصيب برصاص الشوزن الانشطاري في رأسه وبدنه، ثم اعتقل من الحدود القطرية حيث غادر لتلقي العلاج. لفّقت له قضيّة من الأدراج، وبعد دورة تعذيب انتهت باعتراف زائف، حكم عليه بالسجن 10 سنوات.

 

 

 

 

قصّة سهوان مع 14 فبراير بدأت مبكّرا. تظهره لقطات الفيديو التي أخرجها الناشطون من الأرشيف، وهو يحمل علم البحرين باكيا على دوار اللؤلؤة، مع أوائل المتظاهرين الذين رجعوا إلى الدوّار منتصرين، في 19 فبراير/شباط 2011.

17 أبريل/نيسان 2011، في خضم مرحلة الطوارئ القاسية، كان سهوان بالقرب من منزل والده، عندما قامت قوات النظام بإطلاق رصاصات "الشوزن" نحوه فأصيب في رجله ورأسه وأجزاء أخرى من جسمه، سقط على الأرض لفترة ثم نهض وركض خوفاً من القتل أو الاعتقال، لاجئا إلى أحد المنازل وهو ينزف.

كانت حالته خطيرة جداً بعدما انتشر الرصاص الانشطاري في جسمه، وقد تم إسعافه وقتها من قبل أطباء من منظمة "أطباء بلا حدود"، داخل شقة صغيرة بشكل سري. استخرجت شظايا الشوزن من ساقه فقط، في حين بقيت الشظايا في رأسه.

لم يستطع سهوان إجراء الأشعة التي يحتاجها على رأسه كي تزال طلقات الشوزن، و لم يتسن له الذهاب للمستشفى خوفاً من الاعتقال حيث كانت المستشفيات كلها تحت سيطرة الجيش وقوات الأمن في فترة الطوارئ، كما كان يجري اعتقال وتعذيب المصابين من المستشفيات بشكل غير إنساني.

في أكتوبر/تشرين الأول 2011 وبعد معاناة استمرت شهورًا سافر سهوان عبر جسر الملك فهد إلى السعودية باحثاً عن علاج. لم يحصل على مشفى يشعر فيه بالأمان بسبب التعاون الأمني بين السعودية والبحرين، حينها قرر الذهاب إلى دولة قطر، لكنه اعتقل ورفاقه عند الحدود القطرية.

في قطر زجّ بسهوان ورفاقه في السجن، لتبدأ رحلة العذاب الجديدة. وضعوا في غرفة مراقبة بالكاميرات، وكانوا تحت رصد كاميرا المراقبة حتى في دورة المياه. كان التحقيق معهم مطولاً، وخلاله هُدد سهوان بأنه لن يرَ أهله مجدداً، ولن يعلم أحد بمكانه أبداً، وأنه سيغيب "كما غُيب موسى الصدر في ليبيا"!

بعد 32 يوماً من الاعتقال في قطر "أخبرهم الضابط بأنه سيذهب بهم إلى المطار، كي يذهبوا إلى إيران لمعالجة سهوان، وبالفعل تم  نقلهم إلى المطار ولكن إلى البحرين حيث كان عناصر جهاز الأمن الوطني في انتظارهم عند وصولهم".

نُقل سهوان ورفاقه من المطار إلى مبنى إدارة التحقيقات الجنائية في البحرين، هناك تعرضوا لتعذيب وحشي بإشراف الضابط الأردني سيئ الصيت "عيسى المجالي".

ذكر سهوان في إفادته أن المجالي قال له "نحن فحصناك بالمشفى ونرى في رأسك أكثر من 50 رصاصة شوزن وكلها جهة اليمين، سأضربك بكل أداة على رأسك جهة اليسار حتى ترى الشوزن يخرج من رأسك جهة اليمين وحتى يتناثر من رأسك الدم، أو أن توقع على هذه الافادة".

لم يخضع سهوان في البداية، ورفض التوقيع على إفادة تحوي اتهامات غير صحيحة ضده، ولذا عُذب كثيراً ولكنه أصر على موقفه.

انتقل المجالي إلى تهديد سهوان بالاعتداء جنسيا على زوجته "سأجلب زوجتك هنا أمام ناظريك نعتدي عليها ونفعل بها ما نشاء، وأنت مقيد تنظر إليها ولا تستطيع فعل شيء لها، أو أن توقع على هذه الافادة"،  فـ"وقع محمد سهوان على ورقة أعدت مسبقاً من قِبَلهم من دون أن يعرف ما كتب فيها".

مصحوبة بفرقعات إعلامية، زعمت السلطات أن سهوان ورفاقه الأربعة، شكّلوا خليّة خطّطت لتنفيذ عمليات مسلحة في البحرين ضد شخصيات ومنشآت بينها جسر الملك، وأنّهم تآمروا في ذلك مع الحرس الثوري الإيراني، وحزب الله اللبناني.

جميع المتهمين في القضية نفسها (خلية قطر) تعرضوا للتعذيب. وعلى الرغم من تقديم المحامي محمد الجشي تقريراً طبياً من مئة صفحة إلى المحكمة، يثبت تعرض موكّله الشيخ علي المسترشد للتعذيب، وهو المتّهم الرئيس في القضيّة، إلا أن المحكمة تجاهلت جميع الادعاءات من دون التحقيق فيها، وأوقعت أحكامها الظالمة بالمتهمين الخمسة الذي كان من بينهم سهوان بالسجن 15 عاماً استناداً إلى اعترافاتهم فقط ودون أية أدلة أخرى.

بعد أشهر من اعتقاله، عرض محمد سهوان من سجن الحوض الجاف على الطبيب في عيادة وزارة الداخلية وأجريت له الأشعة، ومنها تبين أنه يحتاج لإجراء عملية جراحية لاستخراج شظايا الخرطوش (الشوزن)، والتي كان منها 80 شظية في الوجه والرأس والرقبة فقط، والباقي منتشرة في ظهره وقليل منها في إحدى الساقين.

أُخذ سهوان إلى المستشفى العسكري الذي تديره قوة دفاع البحرين (الجيش)، وهناك أخبره الطبيب الجراح بأنه لن يستطيع إجراء العملية الجراحية له لأنها خطيرة، وأنه سيظل يعيش باقي عمره معتمدا على المسكنات فقط، كي يتفادى الألم المزمن الذي يعانيه بسبب الشظايا الموجودة في رأسه.

ظل محمد يعاني الألم طوال عدة شهور حتى ساءت حالته، وأخذ مجددا للمستشفى العسكري، وهناك كان بانتظاره الرد نفسه "العملية الجراحية خطيرة، لا نستطيع إجراءها لك"،  أصّر هو على إجرائها كي يتخلص من ألمه، وأصروا هم على خطورتها.

وبعد مناشدات أهله العديدة، وافقت إدارة سجن "الحوض الجاف" على نقله إلى مستشفى السلمانية الطبي، هناك أخبره الطبيب بأنه يستطيع إجراء العملية الجراحية له، لكنه تعذر بعدم وجود مواعيد فارغة!

بعد الحكم على سهوان نقل إلى سجن "جو" المركزي ليبدأ فصل آخر من العذاب. مُنِع من الذهاب للمشفى برغم تحديد مواعيد له، وامتد المنع ليشمل عيادة السجن، والحرمان من الأقراص التي وصفها له الطبيب لتخفيف الألم.

محامية سهوان ريم خلف طالبت بعلاجه أو عرضه على أطباء آخرين أكثر من مرة، إلا أن إدارة السجن والنيابة العامة لم تستجب لكل المناشدات.

قضى الشهيد سهوان من مدة حكمه أكثر خمس سنوات في المعتقل، ذاق فيها صنوف العذابات، شهد أحداث سجن جو، مارس/آذار 2015 وكان ممن اتهموا بتحريض السجناء، تجرع آلام الإصابة ومنع العلاج، ورحل شهيدا في 16 مارس/آذار 2017.

لقد بكت السنابس اليوم، ربما كان هذا عام بكائها. 3 شهداء في بداية العام، وشهيد رابع اليوم. منذ الصباح اكتظّت السنابس بالمشيّعين، لوداع فقيد القرية الكبير، ذي الخمسة وأربعين ربيعا. سيقبل رأسه الأشقّاء ورفاق الدرب: هنيئا له.

 

 

"فالسجن وسيلة يستخدمها النظام لقتلنا، ويجب استغلاله لتنميتنا داخلياً لننتصر على الظلام والجدران والسجَّان، فكّر كيف تكسر طغيانهم بدلاً من التفكير فيما فعله طغيانهم"، كانت تلك كلمات الشهيد سهوان التي سجّلها صاحب رواية جو.

لقد كسر اليوم طغيانهم!    

 


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus