سيناريو الموت الطويل
2017-01-16 - 7:25 م
مرآة البحرين (خاص): سيناريو طويل من السادية والتعذيب النفسي، والإهانة، وإيصال الإثارة والتوتر النفسي نحو الذروة، ثم القتل البارد، والإشاعات، ثم الاستعراض بموكب أمني ضخم يحمل ثلاث جثث، ثم فرض مكان الدفن على الأهالي، فيلم كئيب تمت كتابته ليرضي أكثر من ديكتاتور.
بالأمس الأحد وقبله السبت، رأينا فيلماً سودواياً تم تدمير السيناريو الخاص به على يد أهالي الشهداء، والمتظاهرين الذين خرجوا للصراخ في الشوارع، ليتأكدوا من أن العالم ليست له آذان، الأصدقاء قليلون قليلون، والأعداء كثر، والأنذال أكثر.
لقد قتل النظام أشياء كثيرة منذ ليل يوم الجمعة مساء، قبل ساعات قليلة من دخول يوم السبت، انطلقت المعلومات عبر مجموعات الواتساب، عن خطر يحدق بالسجناء الثلاثة المتهمين بقتل ضابط إماراتي وشرطيين، أحدهما من باكستان، تتالى المعلومات والتحليلات والإشاعات، يُصدم أهالي السجناء، تنخلع قلوبهم رعبًا، تمر الساعات بطيئة، لا شيء مؤكد، تكرار ممل، ومن لديه معلومات فضّل عدم التسرع ربما.
الساعة السابعة والنصف، تدق هواتف ثلاث أسر بحرينية، عائلة مشيمع يقال لهم إن ثمة زيارة غير مجدولة لابنهم الساعة الواحدة ظهراً، وعائلة السميع يقال لهم هناك زيارة لعباس وحده فقط دون بقية أشقائه السجناء عند الساعة الثانية بعد الظهر، وعائلة علي السنكيس يقال لهم الزيارة عند الثالثة.
يبدأ الرعب والقلق يأكل في القلوب الخائفة على الأبناء المعتقلين الثلاثة، الخوف وحش سادي لا يرحم يجلب معه شياطين الأرق، والسوداوية، والتوتر العالي، ومع الدقائق البطيئة، بات الظهر بعيداً، ذهب الأهالي وعادوا، عائلة تلو الأخرى، الصدمة أن المعتقلين الثلاثة كانوا متفاجئين من هذه الزيارة أيضاً.
أم عباس السميع عبرت عما حصل للعوائل خير تعبير، ذهبت العوائل ببعض الأمل، وببعض التماسك، عادت العائلات مهانة من تفتيش حقير لم يستثن شيئاً في أجسام النساء والرجال، تعرضوا له مرتين في سجن جو. والأكثر ألماً أن العوائل عرفت أنها ودّعت أبناءها وداعاً أخيراً، عادت العوائل وسيناريوهات الرعب السوداء تتقافز في مخيلاتهم، سيساق الأبناء إلى الموت غصباً، وتزهق أرواحهم زهقاً.
ساعات الليل مرت ببطء، كسائل جليدي تقبض برودته على الأطراف، لم ينم الآلاف وليس فقط عوائل السميع، ومشيمع، والسنكيس، عند العاشرة يخرج النائب البرلماني السلفي خالد المالود الذي فاز في الانتخابات التكميلية في 2011، ليعلن أنه «قضي الأمر»، ويخرج بعدها المسؤول في مكتب رئيس الوزراء إبراهيم الدوسري، ليعلن هو الآخر بأسلوب أقرب للصبيانية أن الإعدام قد تم تنفيذه، وتتالى شلة المغردين المؤجرين مثل عبير الجلال وغيرها بأسلوب شامت ودنيء.
يعلن بعدها أنه تمت محاصرة مقبرة الحورة، وأنه تم استدعاء قيّم المقبرة، وبين التأكيد والنفي، تطل ساعات الصباح بقناعة لدى الجميع أن المسألة باتت مسألة وقت، ليعلن النظام أن الإعدام قد تمّ تنفيذه بالمعتقلين الثلاثة الأبرياء.
كل ساعة تمر كان يموت معها شيء فينا، شيء من الأمل، شيء من الصبر، شيء من الهدوء، شيء من الاستقرار النفسي، مات النوم. بقية الساعات كانت انتظاراً، ودعاءً، وطلبات، وأمنيات.
في الساعة التاسعة وخمسين دقيقة من صباح 15 يناير/كانون الثاني 2017، يعلن رئيس نيابة الجرائم الإرهابية أحمد الحمادي، أن الإعدام قد نفذ بعد أن أصبح "واجباً وباتاً»، لكنه لم يشر ضمن ما عدد من إجراءات أن الملك حمد بن عيسى آل خليفة قد وقع على مرسوم الإعدام. قام النظام بجريمته فجراً، الأكيد أن وفداً من عائلة الضابط الإماراتي طارق الشحي حضر البلاد، ولكن من غير المعروف إن كانوا حضروا ساعة تنفيذ الإعدام أم لا، السؤال المنطقي هو: لماذا تم إحضارهم للبحرين أصلاً؟ لا شيء غير التشفي والأخذ بالثأر وإشباع غرائز الانتقام، وربما شيء من المشاركة في التنفيذ، تحقق هذا الإشباع البدائي، لقد تعهد رأس العائلة الحاكمة لعائلة الشحي في 16 مارس/آذار 2014 خلال لقائه معهم، بأن المتهمين في القضية سينالون جزاءهم.
بعد قليل فقط من إعلان أحمد الحمادي الخبر، تنتشر صور لموكب أمني ضخم يسير ببطء بطريقة شبه استعراضية من جنوب البلاد حتى العاصمة، تتوسطه سيارة إسعاف ذات لون رمادىّ مصفرّ (بيج) يبدو أنها تابعة للجيش، تحط السيارات عند مقبرة الماحوز، يتلقى الأهالي اتصالات مفادها: احضروا إلى مقبرة الماحوز، يرفض أهالي المعتقلين الثلاثة الذي صار اسمهم شهداء منذ الفجر.
انفجرت المشاعر، صرخت الأمهات المفجوعات، والعمات، والخالات، الآباء، والخيلان، والأعمام، والأصادقاء، والجيران، وعشرات الآلاف.
ذهبت العوائل للمقبرة، أبدوا شجاعة استثنائية وسط أفواج المرتزقة وأفراد المخابرات الذين يقفون بقربهم، تم تسليم الشهداء جثة تلو جثة.
سامي مشيمع
الأول كان الشهيد سامي مشميع، انتشرت صوره بسرعة، فلقد جهز الأهالي كاميراتهم، ليروا العالم ما جرى على جثث الشهداء، أربع رصاصات في القلب، فتحات صغيرة من الأمام، تبدو كأنها ثقوب بسيطة، لكن عندما تمّ قلب الشهيد، لتغسيله بدا المشهداً أكثر قسوة وإيلاماً، فتحات كبيرة في الظهر توضح أن الرصاصات تفجرت عند خروجها من جسده محدثة فتحات كبيرة.
بدت كلمات والدة الشهيد مشميع كالرصاص، حين تم سؤالها إن كانت لديها كلمة، قالت: كلمتي كزينب، ما رأيت إلا جميلا، وسأطالب حمد بدم ابني.
علي السنكيس
التالي كان جسد الشهيد الشاب الغض ذي الواحد وعشرين عاماً علي السنكيس، بدا الوضع أكثر حزناً، أربع رصاصات أخرى في قلب الشاب الصغير، من الظهر فتحات يجري الدم منها كالميزاب، يسيل غليظاً، أحمر، باتت بركة صغيرة تحته، تعب المغسل وهو يحاول أن يوقف النزيف، وكأنه ينزف على وقع صرخات الأب: لم يهنأ في حياته أبداً. لم يفوت والد الشهيد علي السنكيس الفرصة ليوجه رسالته، أمام الكاميرا تحامل على نفسه، وقال لابنه الصغير وهو يشير بيده لقلب ولده الشهيد: انظر لأخيك صار شهيداً، انظر لآثار الرصاص الذي أطلقوه على قلبه، انظر يا ولدي.
عباس السميع
الجسد التالي، كان عباس السميع، أربع رصاصات كالبقية، فتحات أكبر من الخلف، تهرّأ ظهره تماماً، كأنه شق بسكين لا برصاص، كانت الأنفة والعزة في محياه، عيناه مفتوحتان، كأنه أبى أن يغلقهما ساعة إطلاق النار، ساعة لقاء الموت، انطفأ النور، لكنهما ظلتا مفتوحتين تحدقان في وجه القاتل.
والدة الشهيد عباس السميع، قالت لجحافل الجنود والمخابرات، أربعة من أولادي في السجن وأحدهم صار شهيداً، اسمعوني أنا مستعدة لتقديم المزيد.
الأكثر ألمًا شفاه الشهداء الثلاثة، كانت ذابلاتٍ، بياض وجفاف خفيف، هي لحظة الموت، ربما لم يُعرض عليهم ماءً للشرب، وتمّ ترويعهم وإذلالهم، للتشفي الغرائزي، لكي يموتوا خائفين في ظلام ما قبل الفجر، كانت الشفاه ذابلة مبيضة، بيد أن ملامحهم ظلت هادئة، ربما هي طمأنينتهم الصادرة عن إيمانهم أن رسالة دمهم لن تسقط.
تم اعتقال منير مشميع شقيق الشهيد سامي مشيمع، وذلك عند خروجه من المقبرة، تهمته أنه ظهر في تصوير مرئي لحظة تلقيه الخبر الفاجع وهو يبكي، ويلطم صدره ورأسه وداعياً على الملك الذي قتل أخيه.
انتهت عملية الدفن عند أول المساء، عادت العوائل إلى بلدة السنابس حيث ظل أهلها يجددون العهد بشعاراتهم وأجسادهم التي طافت الشوارع، تهتف بسقوط الملك الذي وقع على حكم الإعدام فأصبح قاتلاً.
القمع كان الرد الوحيد من قبل قوات النظام في المناطق كلها، جرحى كثر، صراخ لا يتوقف، أنفاس لاهثة، صمت رسمي، توجيهات مباشرة وغير مباشرة للصحف بنشر الخبر الرسمي والصمت دون تعليق. سيناريو ثقيل سوداوي، أعده النظام بحرفية جزار، أو مريض نفسيّ سيكوباثي حاقد.
المواقف حول البحرين كانت صمتاً عالمياً، امتد من البيت الأبيض في واشنطن، ونيويورك حيث الأمين العام الجديد للأمم المتحدة الذي لم يحفظ أحد شكله ولا اسمه، وصولاً للموقف البريطاني الذي لا يقول شيئاً ولا يدين النظام، أوروبا تكلم اتحادها دون إدانة أيضاً رغم انسحاب بريطانيا منه، لا موقف رسمي عربي من أي أحد، أغلبهم كان مؤيداً لكنه صامت، إيران أدانت، العراق أدان، حزب الله، نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان، رئيس تكتل ائتلاف دولة القانون في البرلمان العراقي نوري المالكي أدان جريمة الإعدام هو أيضاً، المجلس السياسي لأنصار الله في اليمن، في داخل البحرين لم يجرؤ أي تجمع رسمي على الإدانة.
انتهى يوم الأحد 15 يناير 2017، بداية دموية، وحزن عميق يلف البلاد، تم إنزال الستار، لم يصفق أحد، ربما ارتاح الآن ذلك القاتل المريض من بعض سوداويته، وربما كان على البحرينيين القلق بصورة أشد على بقية المحكومين بالإعدام.
تواجد لآلاف النساء في السنابس مسقط رأس الشهداء الثلاثة
منعت السلطات شعب البحرين من تشييع شهدائه فتوجه الآلاف إلى السنابس مسقط رأس الشهداء الثلاثة