أوراق 2016: الحاج صمود في تجربة المعتقل: من يقفل علينا باب السجن اليوم، سيفتحه لنا غداً..

2017-01-01 - 5:38 ص

مرآة البحرين (خاص): بعد ثورة 14 فبراير 2011، تعرّض لأكثر من 15 حالة اعتقال، 3 مرات منها حُكم بالسجن لمدة 6 أشهر قضاها في سجن جو المركزي. والقضية في كل مرّة ذاتها: تجمهر غير مرخّص. 

عمره 66 عاماً، لكن لحيته البيضاء لم تُعجز يوماً حماسة الشباب فيه، وهو الذي لا يترك مسيرة احتجاجية في قرية أو منطقة إلا ويتقدمها. من المؤكد أنكم عرفتموه جيداً، إنّه الحاج مجيد المشهور بـ(الحاج صمود)..

يخرج المعتقلون السياسيون من السجن فيتجنّبوا ما يعرّضهم للاعتقال من جديد، ويتواروا عن المشاركة في الفعاليات التي تسببت في سجنهم ومحاكمتهم، ويخرج الحاج صمود ليعاود المشاركة في ذات الفعاليات الاحتجاجية السلمية التي يراها حقّاً مشروعاً. يخرج من السجن لا ليرتاح، بل ليعود مرّة أخرى، وبعد كل خروج ينتظر اعتقال جديد.

لم تكسر الـ 15 حالة اعتقال حماسة (الحاج صمود) وإصراره، ولم يجعله يتردّد عن طريقه أن مجموع القضايا التي لديهم ضدّه هي 38 قضية حتى الآن، وما تزال حكمته التي يردّدها دوماً للشباب المعتقلين الذين ينتظرون أحكاماً طويلة: من يَقفل علينا باب السجن اليوم، هو من سيقوم بفتحه لنا غداً.

يروي الحاج صمود لـ «مرآة البحرين» شذرات من تجربته مع السجن الذي صار أشبه ببيت آخر له، كيف يتعامل الوكلاء الأردنيون مع السجناء السياسيين ومع سجين في مثل عمره؟ كيف هي علاقته بالشباب في السجن وكيف ينظرون إليه وماذا يستلهمون منه؟ ما هي اللحظات الأكثر مرارة وإذلالاً التي عايشها في السجن؟ وقبل كل هذا يخبرنا عن جانب من طفولته التي عايشت الاستعمار البريطاني وما بعدها من انتفاضات..

حجي صمود

الوعي بالحياة الوعي بالمطالب


يقول الحاج صمود: نشأت في منطقة الرأس رمان وتربيت فيها وتعلمت في مدرسة "رأس رمان الابتدائية للبنين" في ستينات القرن الماضي. كنت في نهاية المرحلة الابتدائية وأنا أرى الشباب يقرؤون المنشورات التي توزع عليهم، كانت المسيرات والمظاهرات تخرج مناهضة للاستعمار البريطاني في البحرين، أتذكر أني كتبت حينها ورقة: "من أراد أن تفقده أمه، فليقدم الاختبار"، لم تكن تهديداًِ بالطبع لكنها تهويشاً طفولياً، وكنت أول من طبق ذلك ولم أذهب إلى المدرسة لتقديم الامتحان. ورغم صغر سني حينها إلا أنني كنت متيقظاً للكتابات التي تُخطّ على الجدران، أتذكر بعضها عن 5 مارس، وبعضها تحذّر من الهجرة وتقول لا تهاجر عن بلدك، وأن الثورة قادمة.
منذ وعيت إلى الحياة والبحرين في حراك سياسي ومطلبي مستمر. كان الاستعمار في بلدي، وكنا نريد طرد الاستعمار، وكان الرئيس جمال عبدالناصر الذي نراه رمزاً للنضال.
في المرحلة الإعدادية انتقلت إلى مدرسة الحورة، هناك خرجت مظاهرات داخل المدرسة، أتذكر أن شباباً أسقطوا علم البحرين ووضعوا علم جمهورية مصر العربية، بعدها كسروا باب المدرسة وخرجنا جميعا، كانت شعاراتنا " يسقط يسقط الاستعمار"، وهتافات أخرى عن جمال عبد الناصر والجيش في القاهرة رغم أننا لم نكن ندرك هذه الأشياء.
تركت المدرسة بعد الصف الثاني الإعدادي، لم أكمل. توجهت إلى العمل. عملت في أكثر من مهنة، ومن ضمنها العمل في قوة دفاع البحرين، وجدتني غير راغب في العمل هناك فتغيبت 21 يوما، فكان أن أُلقي فقاموا القبض علي ذات ليلة، هذه المرة الأولى التي أتعرض فيها للاعتقال، كان ذلك في العام 1971، بقيت شهراً كاملاً في الحبس الانفرادي، وبعدها تسلّموا مني العدّة (الملابس والأسلحة والذخيرة) وأخرجوني من السجن.
في السبعينات خرجت في مسيرات احتجاجية على الرواتب والغلاء المعيشي، لكن لم أتعرض للاعتقال. وفي الثمانينات وبالرغم من صعوبة خروج المسيرات، فقد كنت أشارك فيها، أتذكر أني رفعت صورة أحد الشباب المعتقلين في المكان المقام به حالياً (مجمع الدانة) في السنابس. وأنه جاء لي أحد الضباط وسألني لم تحمل صورة هذا؟ هل هو ابنك؟ فأجبته نعم هذا ابني. سألني عن اسم صاحب الصورة فقلت له لا أعرف، وحتى هذا اليوم أنا لا أعرف صورة من الذي كنت أرفعها.
في العام 2011، أهداني أحدهم صورة لي من تلك المسيرة، وكنت أرفع فيها صورة ذلك الشاب. للأسف صودر الهاتف الذي احتفظت فيه بتلك الصورة.
في التسعينات، كنت أعمل في ميدان للكابلات وأسمع عن المسيرات، لكني لم أشارك فيها، لا أعلم لماذا لم أكن متفاعلا، أو ربما انشغالي بالعمل لإعالة عائلتي وأولادي السبعة. تقاعدت عن العمل العام 2010.
في العام 2011، كنت في الميدان، في دوار اللؤلؤة، كنت أول المتواجدين، منذ فتح الدوار وحتى يوم ضربة، أنام هناك ولدي خيمة صغيرة، أتواجد من الصباح وحتى ساعات الليل الأخيرة، كان تواجدي في الدوار شبه كلي، أعود إلى البيت للاستحمام فقط، كنت أشارك في المسيرات التي تخرج من الدوار.

 

لماذا أنا في كل مسيرة؟


في السجن كثيرا ما يستوقفني الشرطة ليسألوني ما جنايتك، يكون جوابي أن لا جناية لي، ربما كبر سني هو ما يثير استغرابهم، بعضهم يعتقد أني جنائي مخدرات، هذا يؤلمني كثيراً ويحز في نفسي، بعضهم كان يقول لي أنت معتقل هنا لأنك كنت تتعامل مع " الشبو" ؟ أنا لا أعرف معنى الشبو، عندما أخبرهم أني مسجون على قضية تجمهر يضحكون علي، يستهزؤون بي، كيف أسجن بسبب تجمهر، كانت إجاباتي هي: تجمهر، مطالب، أنا أخرج في الشارع وأطالب بحقوقي، وهذا ما اعتقلت بسببه. كانوا يعيبون علي سني الكبير ولجوئي إلى المشاركة في المظاهرات: أنت كبير في السن وعيب تسوي هذه الحركات. عليك أن تلزم المسجد والمأتم فقط.
في مركز شرطة الخميس، استوقفني أحد الضباط وقال لي: أنت محترم لدينا لكبر عمرك، لكني أتساءل لماذا تفعل ذلك؟ لماذا أنت دائما في كل مسيرات القرى وفي مقدمتها؟ لماذا لا ترتاح؟ لماذا تتبع هؤلاء الصغار من الشباب؟ أنت يجب أن يكون مكانك المسجد والمأتم؟
أجبته: من حقك أن تستغرب، لكن لو أخبرتك ماذا حدث لي من المحتمل أنك لا تقبل ذلك، ستعرف لماذا أنا أشارك وبقوة في كافة المسيرات؟
سألني الضابط عن السبب، فأجبته: في فترة السلامة الوطنية، عند الساعة الثالثة فجراً، هجمت قوات الشرطة قسم الأمن الوطني علي في بيتي، فتحت عيني فإذا بهم داخل غرفة نومي، كنت نائما مع زوجتي ومعنا طفلتنا الصغيرة، أخرجوني من غرفة نومي إلى الصالة وقاموا بتفتيشها، كنت مذهولاً، كيف يدخلون غرفة نومي وأنا نائم مع زوجتي؟ عيب عيب.. تذرعوا بأنهم يبحثوا عن مطلوبين، لكنهم كانوا يفتشون في أدراج الخزائن الصغيرة، هل يمكن أن يختبئ مطلوب في الأدراج الصغيرة؟ لقد غادروا بيتي قرابة الساعة الرابعة فجراً بعد أن استولوا على ما قيمته 4000 دينار بين مبالغ نقدية وذهب.
سأل الضابط: ولماذا لم تتقدم بشكوى؟ أجبت: لمن أشتكي يا حضرة الضابط، لمن؟ من دخل بيتي جميعهم من قسم الأمن الوطني، لا أستطيع الشكوى، ولو ذهبت لأدخلوني السجن وقالوا لي بأنك كذاب.
أحسست بالخجل يعتري ملامح الضابط فسألته: هل تقبل يا حضرة الضابط هذا التصرف؟
أجاب: هذه التصرفات ربما من أفراد. قلت: كيف يكون تصرّف أفراد وبيتي كان محاصراً من جميع الجهات؟ لم يستطع الضابط الرد. أردفت: لهذا السبب أنا لا أستطيع ترك الساحات، والميادين، أنا لدي مطالب. مطالبي ليست النقود التي فقدتها. لكن محاسبة من هتك عرضي داخل غرفة نومي.

حجي صمود2


عندما ضحك الظهراني


في العام 2013، أخذوني إلى المحكمة الكبرى الجنائية الرابعة برئاسة القاضي علي الظهراني. المحامية الموكّلة بالدفاع عني تعجبت المحامية يأتون برجل كبير السن إلى هذه المحكمة التي لا تصدر عنها إلا أحكام تزيد عن 10 سنوات.
في الجلسة الأولى ألقى علي القاضي التهم المنسوبة إلي: أنت متهم بأنك حرقت سيارتين للشرطة، وأنك رميت على الشرطة أسياخ من بعد 300 متر، وأنك شاركت في مسيرة غير مرخّصة. في الجلسة التالية أُحضر شهود من الشرطة ادّعوا أني ألقيت عليهم أسياخ من مسافة 300 متر، وأني قمت بإحراق سيارتين للشرطة في السنابس.
قال الدفاع: هل من المعقول يا سيادة القاضي أن يحرق رجل كبير في مثل هذا السن سيارتين، ويصوب من مسافة طويلة؟
في الحقيقة لقد ضحك الظهراني، ونطق بتأجيل الجلسة للحكم. في جلسة الحكم أسقطوا عني جميع التهم عدا التجمهر وحكمها ستة أشهر. من كانوا بالقاعة جميعهم تعجبوا، كيف يحكم الظهراني بستة أشهر فقط.

لقد اعتقلت مرات بسبب خروجي في مسيرات المنامة، أتذكر في 2013 في مسيرات المنامة، أمسك أحد الشرطة برجل كبير في السن فذهبت لأخلّصه من أيديهم، خاطبتهم: هذا رجل كبير عيب، هو لم يفعل شيئا! رد عليّ رجل الأمن: إن لم تبتعد سنعتقلك معه. قلت: اعتقلني معه. وكان نتيجة ذلك تلك الصورة التي انتشرت لي وأنا أُجرُّ على الأرض. لقد أسقطوني على الأرض ثم قاموا بسحبي مسافة 3 أمتار أمام الناس، رفعني الشرطة من حزام البنطلون، نُكّل بي وتم ضربي وإهانتي بسبب دفاعي عن الرجل، أُخذت للمركز ووضعت في السجن.


القصاصات الورقية


في سجني الأخير كنت في مبنى 4 عنبر 6. التواصل مع العنابر الأخرى ممنوع ونتعرّض لمضايقة ضخمة. مبنى 4 يحتوي على ستة عنابر مقسمة إلى قسمين " 1، 2، 3" والقسم الثاني "4، 5، 6"، كل هؤلاء لا نتقابل معهم، أنا فقط أتقابل مع عنبر 6. هناك صعوبة بالغة عندما تكون أنت في عنبر وتتلاقى مع سجين من عنبر آخر. هم يمنحونا في اليوم 4 ساعات للخروج إلى الفنس للنشاط والرياضة، على سبيل المثال نحن لدينا ساعتان في الصباح من 7-9 ، بعدها يتم إدخالنا ويقفل الباب علينا الباب ثم يُخرجون عنبر 5 إلى الفنس، وبالتالي يستحيل علينا ملاقاتهم، وهذه معاناة صعبة جداً. مرة واحدة فقط سُمح لنا بتعزية أحد السجناء من عنبر آخر عندما توفى والده، هو من نفس منطقتي (رأس الرمان)، سُمح لي مع اثنين آخرين بتعظيم الأجر له لمدة عشر دقائق فقط.

أوجدنا طريقة للتواصل بيننا عن طريق القصاصات الورقية، نمررها عبر ثغرات صغيرة جداً في الباب. نوصلها للعنابر الأخرى عندما نريد توصيل خبر أو تعميم إعلان. كانت وسيلة مهمة خاصة إذا كان هناك دعوة للإضراب عن الطعام بسبب تعرض أحد السجناء للانتهاك مثلاً، نقوم بتعميمها على عنبر 4، 5، 6 أما العنابر1،2،3 فلا نستطيع الوصول إليهم.
أذكر أني شهدت انتهاكا صارخا لأحد الشباب في عنبر 6 الذي كنت متواجداً فيه، كان ذلك شهر أغسطس الماضي، هذا الشاب لديه موعد زيارة، تأخرت الشرطة في أخذه، وعندما وصل إلى أهله كان لديه من وقت الزيارة 15 دقيقة فقط. رجع المعتقل غاضباً ممتلئاً بالقهر ولم يدخل زنزانته، عندما جاء وقت إدخالنا إلى الزنازين رفض، أمره الشرطي بالدخول لم يقبل وجلس في ممر العنبر، فوجه الشرطي ركلة قوية إليه، وفي رد فعل من الشاب بسبب شدة الضربة التي تعرض قام بضرب الشرطي على وجهه قريب من عينه وسالت الدماء على وجهه، بعدها جاء الوكلاء الأردنيون (أكثرهم أردنيين) يتراكضون وأخذوا الشاب ومعه 3 آخرين كانوا قد تجمعوا لمساعدة زميلهم.
في الإدارة شهد الشباب أن الشرطي هو من أخطأ بحق السجين، وقالوا للإدارة: نحن لدينا كرامة فلماذا يركل هذا الشرطي الشاب بحذائه الغليظ بهذه الطريقة، هذه إهانة، وقال الشاب: أنا نزيل عندكم ولي حقوق وعلي واجبات، ولا يحق معاملتي بهذه المعاملة. بعد يوم واحد نُقلوا إلى السجن الانفرادي وبقوا فيه حوالي أسبوع واحد. وبعد انتهاء المدّة أحضروهم إلى العنبر لدقائق قبل أن يقوموا بتفريقهم، أحدهم أخذوه لعنبر 13، وآخر لعنبر 12. عندما دخلوا علينا رأينا آثار الضرب واضحة على وجوههم. لقد كان ضربا مبرحا كما بدا على وجوههم.

كرِهتُ حتى الزيارات


أكثر ما يشعرني بالإذلال في السجن هي طريقة التفتيش المذلة والمهينة التي أتعرض لها وأنا في مثل هذا العمر. علينا أن نخلع جميع ملابسنا، تكون هذه العملية أمام الشرطة وأمام بقية السجناء، فقط يعطونا إزار، ثم يقومون بفحصنا بواسطة جهاز كاشف، هذه الطريقة في تفتيشنا وخلع ملابسنا نخضع إليها باستمرار: من يذهب إلى الزيارة، المحكمة، المستشفى، دكان السجن، عيادة السجن، الجميع يخضع إلى هذا النوع من التفتيش إضافة إلى تفتيشنا المستمر في أنصاف الليالي.
صرت أتمني أن لا يزورني أهلي بسبب ما أتعرض له من تفتيش مذل، كرهت الزيارات، كرهت عيادة المستشفى والذهاب إلى المحكمة، أنا في مثل هذا العمر وعلي أن أخلع ملابسي بالكامل أمام الجميع، ليس هذا فقط، بل يطلب مني الجلوس والوقوف عدة مرات. بعد أحداث 10 مارس 2015 صار التفتيش مضاعفاً، وازداد في شهر سبتمبر الماضي.
ذات مرة أثناء التفتيش وضع الشرطي يده على جرح قديم لعملية "فتاق" وصار يسألني ماذا تخبئ هنا!

حجي صمود3

إرهاب منتصف الليل


لست أنسى إذلال تفتيش يوم 8 أغسطس 2016، دخلوا علينا الساعة الثانية صباحا ونحن غارقون في النوم، فتحوا الزنازين واحدة واحدة فاستيقظنا مذعورين. أخرجونا جميعاً من الزنازين ووضعونا في مكان يطلق عليه "اللنجري" وهي مساحة يوجد بها التلفزيون، ثم قاموا بإلقاء كل ما في الزنزانة من وجبات خفيفة يشتريها السجناء من كانتين السجن مثل العصيرات، ورقائق البطاطا، والكعك، كلها رموها على الأرض وقاموا بإتلافها وداسوا فوقها، ولم يسلم القرآن ولا الترب الحسينية ولا الكتب الدينية جميعها داسوا عليها بأحذيتهم، نحن هناك نستخدم علب الكارتون نلصقها على الجدران حتى نحفظ فيها أغراضنا، هذه كلها قاموا بانتزاعها وحطموها، وأمام كل هذه المشاهد ليس من حقنا التكلم.
كان تفتيشهم بحجة أنه ربما يوجد لدينا هاتف نقال. أتذكر أني خاطبت أحد الضباط يدعى " أبوشيخة" وهو يتكلم اللهجة البحرينية لكني لا أعرف إن كان بحرينيا أم لا، قلت له: يا بو شيخة هل هذه معاملة إنسانية، قمتم بالدوس على كل شيء حتى القرآن، ألا يوجد احترام للقرآن حتى تدوس عليه بحذائك؟ أجابني: هذه أوامر عندنا. قلت له: أغراضنا نشتريها من دكان السجن ونتعب في التحصل عليها وهي تكلفنا الكثير، كيف يتم إتلافها بهذه السهولة؟
الزنزانة بعد انتهاء التفتيش وخروجهم تصبح لا تطاق، وعلينا أن نقوم بتنظيفها ورفع العصائر التي سكبت على الأرض والطعام الذي دُهس على الأرض، وبالنتيجة هم لا يتحصلون على شيء، ربما بعض الأحيان عصاة صغيرة بطول قدم واحد فقط يصادرونها، وهذه يستخدمها الشباب كمسطرة. تخيلوا كيف نقوم بعملية رفع الأنقاض وتنظيف المكان ومسحه في هذا الوقت المتأخر من الليل، معاناة من الألم من الإرهاب.
التشديد ليس في التفتيش فقط، بل أن الزنزانة يتم قفلها منذ الساعة التاسعة مساء وحتى صلاة الصبح. كنا نتسلى بالنوم أو بالقرآن أو قراءة كتاب. في مبنى 4 بالذات المعاملة سيئة جداً، وهذا ما اكتشفه عندما تكون لدي زيارة، ألتقي في الباص مع سجناء من المباني الأخرى ويدور الحديث حول أوضاع السجن في كل مبنى فاكتشف أن مبنى 4 هو الأصعب.
في كل أسبوع ليس أقل من مرة يحدث فيها تفتيش ليلي مفاجئ. إحدى المرات، حصل تفتيش ووجدوا جهاز "إم بي ثري" لدى أحد السجناء. ورغم أنه مسموح للسجين اقتناؤها، إلا أنهم قاموا بمصادرته وبدؤوا بسيل من الأسئلة: من أين لك هذا؟ وكيف أدخلته؟ أخبرهم أنه حصل على الجهاز عن طريق المسؤول، وأنه جهاز مسموح به في السجن. صرختُ على الشاب بقوة، لكنهم لم يقبلوا كلام الشاب ما جعله يغضب بشدة ويندفع نحو حد الحائط يريد أن يضرب رأسه. كنت أريد منعه من ضرب رأسه بالحائط، كانت ليلة كئيبة جدا، هؤلاء الأردنيون يتلاعبون بأعصابنا، وفي نهاية المطاف أعطوها إياه لكن بعد الإهانة والإذلال وتعكير صفو جميع من في الزنزانة.

الوكلاء الأردنيون والغلاظة المهينة


بشكل عام كنا نعاني كثيراً من معاملة الوكلاء الأردنيين، ذات يوم بعد صلاة الصبح وبينما كنت أقرأ القرآن في الممر بين الزنازين، جاءني الوكيل الأردني وكلمني بفظاظة: قم ادخل زنزانتك. كنت اخترت الممر حتى لا أزعج زملائي في الزنزانة فهم نيام والمصباح مغلق. قلت للوكيل: سأجلس هنا فقط لقراءة القرآن، الممر مفتوح، لن أقوم بأي عمل آخر. وبصوت حازم أجابني الوكيل: أدخل وإلا حملتك أنت وقرآنك ودخلتك بالغصب إلى الزنزانة، كان جوابي له: شكراً رحم الله والديك. شعرت بإهانة كبيرة، لا حرمة لي ولا احترام لكبر سني، لا يوجد في سجن جو احترام للكبير أو الصغير، رغم أني لا أطلب منهم أي شيء ولا ألح في طلباتي، حتى وإن احتجت الذهاب إلى العيادة، فأنا أحاول تجنب الطلب منهم، من لديه كرامة وعزة نفس لا يقبل أن يرضخ لمن يذله ويهينه.
كثير من السجناء مُنعوا من الزيارة والأسباب تصرفات شخصية من الشرطة، وهي كثيرا ما تحدث. لكل عنبر متحدث باسمه من السجناء يجتمعون مع الضابط بشكل يومي، هؤلاء يشكون للضباط سوء تعامل الوكلاء الأردنيين معنا ووقاحة اللغة التي يستخدمونها معنا. الضابط البحريني لا يدخل إلى الزنازن ولا يرى ما يحدث ليكشف مأساتنا، وعندما نشكو إليه يقول إن شاء الله.
سأعطيكم مثال: لو طلبت الذهاب إلى العيادة، يقول لك الوكيل الأردني انتظر. في حين أنت مريض، وهو لا يشعر بمرضك، تلح عليه بأنك محتاج للعيادة للضرورة، لحالة طارئة لا تحتمل التأجيل، فتكون إجابته: لا يوجد الآن عيادة لك، هذا ليس وقتك، عليك أن تنتظر حتى يأتي وقتك. فإذا كانت لك حاجة طارئة لزيارة العيادة في العاشرة صباحا عليك أن تنتظر وقتك الذي سيكون الرابعة مساء، لا يوجد استثناء للحالات الطارئة، لا يعطيك أي مجال، حتى لو وصلت لمشارف الموت من شدة الألم عليك أن تنتظر دورك في الوقت المحدد لك.

حجي صمود8


أهرب قبل أسبوع من انتهاء محكوميتي!


أنا كبير في السن وأشكو من البروستات كما أشكو من مرض السكر، لذلك احتاج الذهاب إلى المستشفى بشكل يومي. في أحد الأيام طلبت من الشرطي أخذي إلى المستشفى، قلت له بأني أشكو من البروستات ولا أستطيع التبول. قال: انتظر وسنأخذك. سألته: منذ البارحة وأنا أعاني حتى متى الانتظار؟ بعد ساعة من الإلحاح مني ومن المعتقلين الذين رجوه الرأفة بي وبعمري الكبير، سمح لي بالذهاب إلى عيادة السجن. لكن ما احتاجه لا يوجد في العيادة. أعطاني الطبيب أدوية وطلب مني استخدامها، لكن هذا الدواء لا يصلح لي، أحتاج الذهاب إلى مستشفى السلمانية.
في اليوم التالي زادت حالتي سوءاً لدرجة أن الطبيب المصري المتواجد في العيادة طلب نقلي إلى السلمانية، وقال بأن حالتي لا يجب السكوت عنها، لا أعرف كيف تحمّلت كل هذا الألم لمدّة يومين. قام الطبيب بالاتصال بالإسعاف ونقلوني مباشرة، رافقني اثنان من الممرضين إلى قسم الطوارئ بالسلمانية، حدث ذلك قبل انتهاء مدة محكوميتي بأسبوع أو أسبوعين، لكن تصورا كيف نقلت إلى المستشفى، لقد كبلوني بالحديد من اليدين إلى الرجلين! وأنا لا أقوى على الحراك من المرض أصلاً فكيف بقدمين مكبلتين. اعترضت على الشرطي وقلت له أنا مريض، لماذا تكبلني بهذه الطريقة، أجابني بأن هذا قانون، قلت له طيب، تجعلني أمشي في الطوارئ بين العالم وأنا مكبل، وأنا كبير في السن، والله عيب! هذه خجالة! أحسست بالإهانة والذلّة، لم يحترموا كبر سني، رغم أني كنت محاطا بأربعة من رجال الأمن، كنت أمشي بصعوبة، والأنظار في الطوارئ كلها تحدق بي، كانت واضحا علامات الاستفهام والتعجب على وجوههم، ما الجرم الذي يمكن أن يكون ارتكبه هذا الشيخ الكبير ليقيد بهذه الطريقة. عندما وصلت إلى طبيب الطوارئ طلب منهم أن يفكّوا قيودي، فكّوها لكن قيدوا رجلي بالسرير، لا أعرف لماذا أُعامل هكذا، كان كل ما تبقى لي في السجن مدة أسبوع أو أكثر بقليل، هل يمكن أن يتصور أحد أنّي سأفكر في الهروب؟!

ليتنا نعامل مثل الجنائيين


هناك في جو جميع الضباط بحرينيين، أما الوكلاء فهم أردنيون، أما الشرطة فهم من الباكستانيين واليمانيين، والبلوش، والأردنيين والسوريين، وجميعهم يتعاملون مع السجناء بالطريقة نفسها من السوء والإذلال والكلام المهين. هذه المعاملة تطبق فقط على السجناء السياسيين، أما الجنائيون فلا، الجنائي له احترامه وتقديره، ورغم أنهم يقولون عنا إننا لسنا سجناء سياسيين، وأنه لا يوجد سجين سياسي وأننا جميعاً جنائيين، إلا أنه في المعاملة يتضح الفرق، وليتهم يعاملوننا كالجنائيين، فهؤلاء لهم إعفاء ثلاثة أشهر في السنة، لكن نحن ليس لنا، ومع ذلك نسمى جنائيين.
السجناء الجنائيون طلباتهم مجابة دائما، في أي وقت يريد الذهاب إلى المستشفى يأخذونه، حتى وإن لم تكن هناك سيارة متوافرة يقومون بإيجادها، أما السياسي فكل شيء بعد مطالبة مذلة وملحة، لا مستشفى ولا عيادة، ولا توفر له مستلزماته الضرورية، حتى دكان السجن لا تستطيع الذهاب إليه سوى مرة واحدة في الشهر. نحن نحتاج إلى مستلزمات النظافة وهي غير متوافرة وعلينا أن نشتريها بنقودنا، لكن لا يمكنك الذهاب غير مرة واحدة في الشهر وفي يوم مخصص لك وعليك انتظار ذلك اليوم مهما كانت حاجتك ملحة.
أحياناً يتصادف ذهابي إلى الزيارة أو المستشفى مع دوري في الشراء، فأخسر بذلك فرصة التسوق، لا يتم تعويضي، وعلي أنتظر للشهر القادم، وبذلك أكون قد انتظرت شهرين متتاليين.
في العنبر 6 يوجد 14 زنزانة، حجم كل منها 3 متر ونصف في 5 متر، في كل زنزانة حوالي 10 إلى 8 من السجناء، جميع من كان معي في الزنزانة أحكامهم طويلة تمتد إلى 15 سنة فما فوق، أتذكر منهم مهدي محسن العصفور، أحمد صالح عبدالله، يونس حبيل، جاسم أحمد.

بإمكاني أن أقتلك وأمشي..


بعد خروجي من السجن وصلتني عن طريق المساجين، قضية السجين الشاب الذي تعرض إصبعه لحادث بليغ، وسبب الحادثة أن الوكيل الأردني كان يصيح بأعلى صوته في الممر: "أي واحد طالع من ظهر أبوه يقابلني"؟ الزنازين كلها مقفلة، لا يوجد سوى فتحات صغيرة في أعلى الباب. وقف أحد السجناء من خلف الزنزانة وقال له: يا وكيل عيب تسب، تسب أمي أو أمك هذا عيب. أثناء حديث الشباب خرج إصبعه بين الفتحات الصغيرة في الباب، فجاء الوكيل وأغلق النافذة عليها بالقوة حتى تطايرت الدماء. ظل الشاب يصرخ من الألم وأُخذ إلى العيادة. صارت أبواب الزنازين الـ 14 في العنبر كلها تهتز غضبا لما حدث لزميلهم فصراخه خرق أسماع وقلوب الجميع. سيقولون فيما بعد بأنه تصرّف شخصي، لكن السؤال من أعطاه الضوء الأخضر؟ دائما يهددنا الوكلاء: " أنا بإمكاني أقتلك، وأمشي عنك"..
ذات مرة، أراد أحد السجناء نشر غطاء سريره الذي غسله للتو، كان يريد أن ينشره في الباحة صباحاً، كي يجف تحت أشعة الشمس في المساء. كان الباب مغلقا. ذهب إلى الوكيل الأردني: حضرة الوكيل أريد أن أنشر ملابسي وغطاء سريري في الباحة. الإجابة المعتادة من الوكيل: "اخرس وادخل زنزانتك ولين صار وقت خروجك اطلع". أوضح له السجين بأن وقت خروجه في المساء ولن تنشف ملابسه، حاول التوسل إليه بأن يتركه ينشرها وكانت الإجابة: اخرس وإلا قمت بضربك، وبإمكاني أن أقتلك وأمشي عنك، ولن يحاسبني أحد! كان هذا أقل ما يهدد به السجين السياسي وعليه أن يصمت ولا ينطق بكلمة.
بعض الأوقات نحتاج لتحقيق مطالب ملحة مثل: كولر للماء الحار لعمل الشاي، سطل لغسل الملابس، صابون، ديتول، مشكلة توفير كولر الماء امتدت لثلاثة أشهر، نريد شرب ماء بارد، إما أن توفروه لنا أو دعونا نشتريه. ذهبنا إلى الوكيل الأردني وطلبنا منه أن يسمح لنا بمقابلة المسؤول لنبلغه بحاجتنا إلى الكولر وأننا مستعدون لشرائه على حسابنا الخاص، بعد مماطلة طويلة استمرت 3 أشهر، سمح لنا بشرائه على حسابنا الخاص.
في السجن ممنوع علينا الملح، وكذلك ممنوع إدخال المحارم الورقية منذ العام 2012، تخيلوا أننا نعيش بدون محارم ورقية. هل يصدّق أحد هذا أو يتخيله؟ يضطر السجناء إلى تقطيع (الشرشف) إلى قطع صغيرة من القماش لاستخدامها كمناديل، كلما اتسخت واحدة يقوم بغسلها، هذه مأساة خاصة عندما يصاب السجين بالرشح والزكام، سألناهم مراراً عن سبب عدم إدخال المحارم الورقية، كانوا يقولون هذه قرارات من إدارة السجن.
كان الشباب يصنعون من علب الماء البلاستيكية أثقال للرياضة بعد ملئها بالرمل، لكن إدارة السجن منعت هذه العلب، خوفا من أن تصبح لدى السجناء عضلات قوية.

حجي صمود4

 

الحاجة إلى الرياضة

بالنسبة لي عانيت في بادئ الأمر من الوجبات الغذائية المقدمة من قبل إدارة السجن، لم يكونوا يوفرون لي وجبة مريض، ولم يكن الطعام يناسبني، كبار السن وعدد من السجناء مصابون بمرض السكر، والشاي الذي توفره إدارة السجن به كمية كبيرة من السكر، لا نستطيع شربه، ذهبت إلى العيادة أكثر من مرة وطلبت من الطبيب رفع توصية لإدارة السجن لتوفير وجبة مريض لي، كان معدل السكر عندي دائما مرتفع بداية دخولي السجن، وبالرغم من أن الطبيب أخبرني أنه أوصى بتوفير وجبة مريض لي، إلا أن هذه الوجبة لم تتوفر إلا بعد مضي ثلاثة أشهر، اعتمدت خلالها على شراء بعض الأغذية الخفيفة من دكان السجن. بعد توفير وجبة المريض تحسن معدل السكر في جسمي. 

أكثر ما عانيت منه هو ممارسة الرياضة، أنا أكبر سجين في العنبر عمري 66 عاما، وأشكو من عدة أمراض لذا أحتاج ممارسة الرياضة بشكل مستمر، عندما تكون ساعات الخروج للباحة صباحا أستطيع ممارسة الرياضة لكن عندما تكون ظهراً لا أستطيع لتعارضها مع صلاة الظهر وحرارة الشمس المرتفعة. تقدمنا بعدة رسائل للإدارة باسم كبار السن (حوالي 5-6 نزلاء) ممن يشكون من أمراض السكر والضغط والذين يحتاجون لساعة رياضة بشكل يومي، طلبنا الاستثناء لكي يسمح لنا بالانتظام بمزاولة رياضة المشي، لكن لم نحصل على أية نتيجة، لا احترام لكبار السن في السجن، تحتاج أن تذلّ نفسك للوكيل الأردني وأنت في هذا السن.
في حياتي الطبيعية أخرج كل صباح من بيتي بعد صلاة الفجر وأمارس رياضة المشي لمدة ساعة ثم أعود، بينما في السجن أظل 12 ساعة بلا حركة وهذا صعب. إذا كانت الزنزانة مفتوحة، أقوم بالمشي في الممر "طوله حوالي خمس متر"، هذا الممر الصغير يتشارك فيه جميع السجناء، بما فيهم الشباب. وهو ليس للمشي فقط بل التدخين أيضاً.

دكّان السجن: كل شيء مضاعف


معظم الشباب داخل السجن يدخّنون، حتى الشباب الذين لم يكونوا يتعاطون مع التدخين أصبحوا كذلك. البعض استمع لنصائحنا وترك التدخين. العوائل تتحمل تكاليف توفير التدخين بأسعار مضاعفة في السجن، دكان السجن كل سلعة فيه تباع بسعر مضاعف عن سعرها الأصلي. أنت تضطر للشراء من دكان السجن لأنه لا بديل لديك. يسمح للأهل بإدخال بعض الملابس كل ثلاثة أشهر، لذلك يضطر البعض للشراء من دكان السجن بأسعار باهظة. هذا الدكان أرباحه كبيرة جداً بسبب اعتماد السجناء عليه خاصة في التدخين، في كل مرة نذهب إلى الدكان يكون سعر مشترياتنا بين 45-40 دينارا، هذا السعر يكون لشراء علبة سجائر، عطور، مزيل عرق، بعض الحلويات.

كانت زوجتي تدخل لي 40 دينارا شهريا، أنا لا أدخن، فقط أشتري شامبو، صابون، وبعض الأحيان اشتري بعض الثياب للشباب وملابس داخلية أخزّنها للاحتياط، هذه تكون من نصيب الشباب الذين يدخلون حديثا إلى العنبر ولا يوجد لديهم ملابس ولا نقود. السجين أول اعتقاله تكون عليه بدلة السجن فقط، يخلعون جميع ملابسه حتى الداخلية منها ويضعونها في الأمانات حتى الحذاء، ويعطونه بدلة السجن فقط، لذا يدخل الزنزانة ولا شيء لديه. عندما يدخل يحتاج إلى السباحة وتبديل ملابسه، لذلك نحن نكون مستعدين بتوفير أدوات وملابس ضرورية، هناك لا فرق من جهتنا بين سجين سياسي وجنائي نحن نساعد الجميع.

كنت أحاول أن أساعد السجناء الجدد بتوفير ملابس داخلية وسراويل، حتى يسمح له الذهاب إلى دكان السجن، وهذه العملية تأخذ وقتا طويلا، فمنذ انتقاله إلى سجن جو، يقوم أهل السجين بإدخال مبلغ نقدي له، وعليه بعد ذلك انتظار دوره حتى يسمح له بالذهاب إلى الدكان، هذا السجين يظل طوال شهر كامل على بدلة واحدة وبدون حذاء.

تكاثر القضايا تكاثر الأحكام


اعتدنا على تناول وجباتنا في الزنزانة، في إحدى المرات وبينما كنا نتناول وجبة الغداء جاء أحد الشباب إلى (مهدي العصفور) وأخبره أن الوكيل يريده، قام مهدي وذهب إلى الوكيل، هناك طلب منه التوقيع على ورقة، تفاجأ مهدي بصدور حكم قضائي جديد عليه وصل إلى 15 سنة، وبذلك أصبح مجموع أحكامه 30 عاماً. هذا الشاب عمره 24 عاماً، ومجموع أحكامه 30 عاما. لكنه رغم ذلك لم يجعل الحزن يسيطر عليه، فلديه أمل أن تنفرج الأمور وتتغيّر الأحوال.

هناك من تصل أحكام سجنهم إلى 200 عام، في العنبر هناك خليط من هذه الحالات، نقوم بالتزاور عندما تفتح الزنازين، معظم السجناء من فئة الشباب، عندما تسأله ما هي قضيتك ومدة حكمك، بعض الأحيان كنت أتعجب، بعضهم حكمه 60 سنة وما تزال تنتظره قضايا أخرى لم يصدر الحكم فيها.
ابني محسن، على سبيل المثال كان حكمه 5 سنوات، وهو معتقل معي في نفس العنبر لكننا لسنا في نفس الزنزانة. عادة كنا نتناول الإفطار معاً في (اللنجر) يوم الجمعة صباحا. ابني مثل بقية السجناء الآخرين، طلبه الوكيل وعندما ذهب إليه، طلب منه الوكيل التوقيع على حكم 5 سنوات أخرى، تهمتان بالتجمهر في المنامة، التهمة الثانية لم يمسكوه في مكان المسيرة أصلاً.
عندما عاد من عند الوكيل وأخبرني ظننته يمازحني، لم أتوقع صدور حكم ثان عليه، لا أُخفى عليكم أنني توجّعت كثيراً، تغيرت نفسيتي وشعرت بحرارة في جسمي، كان قد تبقى من مدة محكوميته سنتان ونصف. كان يسعى للزواج قبيل اعتقاله، اعتقل قبل موعد زواجه بثلاثة أيام.

بعدها جلست مع ابني وحاولت أن أدعمه نفسياً بأنه ما زال في أول شبابه وأن الأمور لا بد ستنقضي إلى خير. وعندما أفاق من الصدمة، استجمع قواه وطمأنني بأنه بخير وأنها صدمة وقتية.
شهدت حالات شباب كثيرة مشابهة لابني، تتم دعوتهم عند الوكيل فقط للتوقيع على الحكم. لكنهم بشكل عام يحاولون التأقلم مع وضعهم، يتألمون في بادئ الأمر ويتأثرون ثم يتجاوزون ذلك.

حجي صمود5

إحضاريات السجن: إما الدفع أو السجن


لقد تم تسليمي 4 إحضاريات وأنا داخل السجن، كانوا ينادوني إلى الإدارة للتحقيق، أتذكر مرة جاؤوا ينادوني بالاسم " عبد المجيد عبدالله" فأجبتهم، أخبروني أن إدارة السجن تطلبني، توجهت إلى الإدارة وكنت لا أدري ماذا يريدون مني، أنا اعتقلت هذه المرة في 26 يونيو 2016، وفي شهر يوليو جاءتني أول إحضارية، هناك في إدارة السجن أخذوني إلى الضباط، أعطوني ورقة وأخبروني بأني كنت مشاركا في مسيرة غير مرخصة في 22 أبريل بمنطقة الدراز، وأني كنت أحمل صورة الشيخ محمد المنسي. أجبته بأني أذهب إلى الدراز، وفي يوم الجمعة ومن بعد انتهاء الصلاة، أقوم بالمشاركة في المسيرة التي تخرج بعد الصلاة، أما بالنسبة لحمل صورة الشيخ المنسي فأنا لا أتذكرها.
سألني: هل أنت تخرج في المسيرات؟ قلت له نعم، مسيرات سلمية أشارك فيها باستمرار ولا أنكر ذلك، لك حق عليّ، إذا شاهدتني استخدم طريقة عنف، أما أني أخرج في مسيرة سلمية أطالب بحقوقي، فهذا حق مشروع حتى في الدستور، وهو مكتوب من حق المواطن أن يخرج في مسيرة سلمية، سألني إن كان لدي كلام آخر، أجبته بأن لا يوجد لي كلام، أقفل المحضر بعدها.

في المرة الثانية جاؤوا لي بإحضارية وأنا في السجن، قال لي الضابط أني مررت على نقطة تفتيش وقمتُ بسب الشرطة ولم أقف لهم. نفيت ذلك وقلت بأنه تم إيقافي في نقطة تفتيش لمدة نصف ساعة وأخذوا بطاقتي الشخصية، ثم سُمح لي بالمغادرة وأُرجعت بطاقتي. قلت لهم أنا لم أسب الشرطة وهذا عيب، أنا في هذا العمر، ديني لا يسمح لي بالسب ولساني لم يتعود عليه، هذا ليس من أخلاق أهل البيت. طلب الضابط مني في نهاية الأمر دفع 50 ديناراً. تعجبت وقلت للضابط: لماذا أدفع هذا المبلغ؟ ما السبب أنا لم أُهن أحدًا، ولم أكلم أحدًا. رفضت. قلت له أنا متقاعد ولدي راتب محدود، وأُعيل عائلة كبيرة، وأنا الآن في السجن، لن أدفع، وأُقفل المحضر.

وفي سبتمبر 2016، تسلمت إحضاريتين. كانت التهمة الأولى تتعلق بالمشاركة في مسيرة في العام 2013 في العاصمة المنامة. خلاصة القول إن عليك أن تدفع 100 دينار أو تحكم بستة أشهر جديدة بالإضافة إلى تلك التي تقضيها حالياً. قلت للضابط: افعل ما تريد. أنت ضابط، وبإمكانك أن تفعل أي شيء، أما المبلغ فلن أدفعه، لا يوجد لدي ما أدفعه. ثم قلت مستنكراً: فلستوني .. في كل مرة تأتيني إحضارية يتم تخييري بين الدفع والسجن، أستطيع القول بأني دفعت أكثر من 1200 دينار. كنت أدفع وبعدها يقومون بسجني. وفي نهاية الأمر طلب مني الضابط التوقيع على المحضر فوقعت.

ابتزاز لا ينتهي


كنت متأكداً أنهم سيعاودون سجني، في الحقيقة توقعت أن يسلموني عندما تنتهي محكوميتي، عندما انتهت مدّتي هذه المرة وأخذوني إلى المركز، كشفوا أن لا حكم جديد علي، لذا أطلقوا سراحي والحمد لله، لكني الآن أتوقع أن يعتقلوني في أي وقت.
قبل اعتقالي في مايو 2016 كنت أنوي السفر، كان موعد سفري الثانية صباحا، وجهتي جنيف لحضور المؤتمر هناك، في المطار سألني الضابط: حجي مجيد وين بتروح؟ أجبته: مكتوب في بطاقة السفر وجهتي إلى جنيف. أخبرني بأن مكتب الشرطة يطلبني في المطار. وهناك تم تقييد يدي مع الكرسي، حقق الضابط معي حول وجهة سفري، وأخبرني بأن عليّ أمر قبض. تعجبت وسألت لماذا؟ أجابني: مكتوب بأن عليك أمر قبض وحكم 6 أشهر. استفسرت عن التهمة فنفى أن يكون له علم. وخلال حديثي معه، جاء رجال الأمن وأخذوني. طلبت منهم أن أسترجع حقائبي التي تم إدخالها الطائرة. انتظرتها حتى تعاد لي وسلمتها إلى صديق كان معي في المطار لإرجاعها إلى البيت، وأخبرته بأني مطلوب في مركز الشرطة.
أخذوني إلى مركز شرطة النعيم، هناك بت ليلة واحدة، وبعدها نقلوني إلى النيابة العامة، وخيروني أن أدفع 100 دينار أو أقضي الحكم بالسجن 6 شهور، أجبتهم سأدفع. قاموا بإزالة كل القضايا حتى حظر السفر رُفع عني، كررت السؤال عليهم، خلاص لا تهم عليّ؟ أجابوا نعم، وأخبروني بأنه بإمكاني السفر لأي مكان.

بعد حوالي شهر من حادثة المطار، تحديداً في شهر رمضان ليلة وفاة الإمام علي، انتهيت من مشاركتي في عزاء المنامة وتوجهت إلى قرية الدراز، وتم توقيفي في نقطة التفتيش في الدراز، تعجبت لأني كنت متأكد من أن لا قضايا علي وهو ما أخبرني به وكيل النيابة، قال لي الشرطي في نقطة التفتيش بعد أن أخذ بطاقتي السكانية: حجي مجيد عليك أمر قبض وأخذوني إلى مركز البديع، بت ليلة في المركز، بعدها نقلوني إلى النيابة وهناك أخبرت الضابط بأني قبل شهر دفعت 100 دينار فكيف يكون علي أمر القبض، تعلل وكيل النيابة بأن الأمر صادر من المحكمة وهي قضية تعود إلى العام 2012، ومن بعدها مباشرة نقلت إلى سجن جو.
عندما نُقلت إلى سجن جو جاءتني إحضارية إلى نفس القضية، كانوا يطلبون أيضاً أن أدفع 100 دينار لكي أخرج من السجن، زملائي في السجن نصحوني بأن أدفعها، أرادوا أن يجمعوها لي، لكني رفضت. أحسست أنني أتعرض لابتزاز لن ينتهي. ففي كل فترة يأتي أمر القبض مصاحبا بدفع 100 دينار كي أتحاشى دخول السجن، هذه لن تنتهي. قلت لزملائي من الشباب سامحوني سأبقى معكم في السجن وليفعلوا ما يريدون، كرروا الاتصال مرتين لإدارة السجن كانوا يطلبون مني دفع المبلغ وفي المرتين رفضت، الآن أكملت مدة حكمي ستة أشهر، لكني انتظر قضايا أخرى يعود بعضها للعام 2013.
الوكيل في النيابة أخبرني بأن مجموع القضايا التي لديهم عليّ 38 قضية، بمعنى في أي وقت سيتم القبض علي، نعم أنا أشارك في المسيرات لكني رجل سلمي ومعروف بسلميتي، لم أُهَن في التحقيق لكن في سجن جو تعرضت لإهانات كثيرة جداً.

في ممارسة شعائر محرّم


في شهر محرم نتعرض لمضايقة شديدة. عندما نريد إقامة مجلس العزاء، علينا كتابة رسالة للإدارة نحدد فيها الوقت والساعة، يأتي توقيع الإدارة بأن مراسم العزاء يجب أن تنتهي الساعة التاسعة مساء. نبدأ من بعد صلاة المغرب، نقرأ أبيات شعر رثائية، وإذا كان بيننا رجل دين، يقوم بالقراءة، وبعدها العزاء. كنا نقوم بتنظيم مضائف بسيطة للمعزين بما يتوفر لدينا من طعام، قبل محرم سمحوا لنا الذهاب إلى دكان السجن لشراء الطعام، طبعاً هناك فائدة كبيرة لهم بسبب أسعار الدكان المضاعفة. يقوم الشباب بابتكار وصفات جديدة بالمكونات المتوفرة. كما نستعين بالأكياس السوداء لتغليف الجدران بالسواد، نستخدم رغوة الصابون كي تلتصق الأكياس بالجدران، نفعل ذلك لكي نشعر بطقوس محرم. نستخدم ماء (الكوفي) في كتابة الشعارات الحسينية مثل: لن نركع إلا لله.. هيهات منا الذلة.. الخ. كل هذه الطقوس لا تسلم من الشرطة والوكلاء، فهم يدخلون علينا في كل وقت يقومون بالتصوير أولاً ثم يخربون كل شيء. يقومون بالدوس عليها أمامنا. وعندما نقول لهم بأنه مكتوب في لوائح السجن أن للسجناء الحق في إقامة الشعائر الدينية الخاصة بهم، يجيبونا: لدينا أوامر بعدم السماح لكم بهذا.
في السجن نحن نعيش التطبيق الفعلي لمقولة " إخوان سنة وشيعة"، لا يوجد فرق بين السجناء، الجنائيين والسياسيين والسنة والشيعة كلنا نحاول أن نتعاون ونتعايش مع بعضنا ونتشارك مع بعضنا في إحياء المناسبات الدينية.

من أين لصق بي اسم "الحاج صمود"؟


حقيقة لا أعرف تماماً، لكنه أطلق علي بسبب مداومتي على الحضور في مسيرات المنامة، ذات مرّة أوقفني أحد الشباب وقال: أنت صمووود.. والتقط صورة لي ووضعها على وسائل التواصل الاجتماعي وكتب عليها الحاج صمود، ومن يومها صرت أرى التسمية ملازمة لصوري. حتى بعض الشرطة في السجن ينادوني الحاج صمود أحياناً..

لا أمتدح نفسي، لكن أشعر أني أشيع الصمود بين الشباب في السجن، وكأنهم يستمدون طاقة مني. دائماً يخاطبوني: إذا أنت كبير في السن وما زلت في الساحة وما زالت هذه مطالبك، فيكف نكون نحن؟ نحن نقتدي بك. أشعر أنهم يرتاحون معي، لهذا عندما يعتقلوني لا أحزن، أعرف بأني مقبل على شباب يحترمونني ويقدرونني.عادة ما يتجمع الشباب في الزنزانة التي أكون فيها، يشعرون بأني أمدهم بالطاقة. دائما أوصيهم: لا تهتموا لأحكامكم الطويلة، لا بد أن تُفرج ومن يقفل علينا باب السجن اليوم، هو من سيقوم بفتحه لنا غداً..

حجي صمود7


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus