» رأي
البحرين : الشيعة ، السنة ، النظام . . أين المشكلة؟
يوسف مكي - 2012-02-12 - 12:32 م
يوسف مكي*
لن ندخل في جدل بخصوص من هم سكان البحرين الأصليون عشية الاحتلال الخليفي للبحرين سنة 1783، فذلك ليس مهما إلا بقدر ما يثير من مشكلات تتعلق بالحاضر وملابساته، وخاصة بالمسألة الطائفية بمعناها السياسي وكيفية إثارتها وتوظيفها في صراعات الحاضر وشرذمة المجتمع وتأبيد الحكم الخليفي.
بداية يمكن القول أن السنة كانوا دائما موجودين في البحرين على امتداد التاريخ، كما أن الشيعة كانوا أيضا دائما موجودين على امتداد التاريخ في هذا البلد. إذن كان هناك سنة، وكان هناك شيعة في هذا البلد، والأمر لم يتعدَ ذلك، أي المعنى المذهبي العقائدي الثقافي والانثروبولوجي بين مجموعات السكان في البحرين، وكان التعايش ولا زال قائما بين المكونين الأساسيين لهذا الشعب.
أما قضية الشيعة والسنة في البحرين كقضية سياسية والتوظيف السياسي لهذين المكونين فقد بدأت من الناحية التاريخية بالاحتلال الخليفي للجزر قبل أكثر من قرنين 1783 وهذا واضح من خلال تعبير (الفتح الخليفي للبحرين) واستخدام وصف للمحتل الأول من آل خليفة بـ احمد الفاتح ، وليس الغازي، أو المحتل.
فتح ماذا؟ فمفهوم الفتح إسلاميا هو قيام المسلمين بغزو بلد آخر، سكانه غير مسلمين (كفار) بغرض هدايتهم، ووصف تلك العملية بالفتح، من قبيل الفتح الإسلامي مثلا، وعليه لا يجوز من الناحية الدينية لمسلم أن يفتح بلد مسلم آخر، وإذا حدث ذلك فهذا: احتلال واعتداء وبغي وطغيان، وليس فتحا وفقا للإسلام نفسه.
لذلك، فالقول بالفتح للبحرين بدلا من الغزو، وبوصف المحتل الأول بالفاتح، وتأكيد ذلك من خلال مجموعة من الرموز والمسميات والمعالم المادية من قبيل مدرسة احمد الفاتح، وشارع الفاتح، ومركز الفاتح الإسلامي، وجائزة الفاتح وغيرها من المسميات، إنما يدل على منطق ونظرة آل خليفة ليس فقط للأرض التي احتلوها، بل لمن يسكنون هذه الأرض، عشية الغزو الخليفي، وهم الشيعة في هذه الحال، فهم (السكان الشيعة الذين وقع عليهم الغزو) من منظور آل خليفة حتى لو لم يقولوا بذلك ليسوا طائفة إسلامية، بل كفار، وآل خليفة فاتحون لبلاد الكفار، وليس لبلاد يسكنها مسلمون شيعة وان الفرق شاسع وليس مجرد اختلاف في المذهب ضمن الاسلام ، ومن هنا جاء مفهوم ومدلول الفتح الخليفي بدلا من الاحتلال الخليفي، واحمد الفاتح بدلا من احمد الغازي.
بناء على ذلك فإن المسألة الطائفية في البحرين بدأت بالاحتلال الخليفي للبحرين، وباتت الكيفية التي تم التعامل من خلالها مع السكان (الشيعة) الذين تم غزو بلادهم في غفلة من الزمن وفي لحظة فراغ سياسي محلي وإقليمي وصراع دولي في الثلث الاخير من القرن الثامن عشر. حيث عوملوا كالعبيد وتمت مصادرة أراضيهم وممتلكاتهم في البر والبحر من قبل الغزاة الجدد، على اعتبار أنهم حسب الوصف المسكوت عنه (كفارا) وبالتالي فهم يعتبرون من غنائم الفتح ومن أسلابه وأسراه، وهكذا سارت الأمور حتى الآن.
وبدخول قبائل وجماعات حليفة ومساندة لآل خليفة في أثرهم إلى البحرين على امتداد القرن التاسع عشر أخذت المسألة الطائفية تتبلور شيئا فشيئا، وقد بلغت أوجها في عهد عيسى بن علي 1869- 1932 الذي وزع أملاك وأراضي الشيعة في البحرين على أفراد عائلته كإقطاعيات وكل فرد له مطلق الصلاحية في إقطاعيته يتصرف فيها كيفما يشاء بالبشر والحجر، وهنا عرفت الجزر ربما لأول وهلة النظام الإقطاعي القائم على السخرة الأقرب إلى العبودية.
لذلك فإن تاريخ الطائفة الشيعية في البحرين مليء بالغبن الطائفي والطبقي، فالفاتحون سنة (مالكيون) والمهزومون شيعة (جعفريون)، هذا فضلا عن أن مفهوم الفتح الخليفي يسلبهم من كافة حقوقهم لأسباب كثيرة أهمها أنهم ليسوا على دين (مذهب) الغزاة فهم بمنطق الفتح كفار كما سبق القول ، لذلك أطلق آل خليفة على الشيعة تسمية (حلايل) بمعنى يحل مالهم ودمهم وعرضهم، وقد تم التعامل معهم هكذا بالفعل، والذاكرة الجمعية للشيعة تؤكد ذلك .
بلغ التشطير الطائفي بين مكونات السكان – شيعة – سنة - في البحرين ذروته في العشرينات من القرن الفارط باستخدام الشيخ عيسى بن على الورقة السنية ضد الشيعة فيما يتعلق بالإصلاحات السياسية حيث تقدم بعريضة إلى البريطانيين بتواقيع من السنة يعترض فيها على الإصلاحات السياسية وهي إصلاحات مطلوبة من الشيعة وضرورية، وإظهار الأمر وكأن السنة ليسوا مع الشيعة في المطالب السياسية، التي كان مطلوبا منه أن ينفذها، وخاصة تجاه رعاياه من الطائفة الشيعية باعتبارها المكون الأكثر تضررا من جراء الغزو ورفع الغبن والسخرة عنهم، لكنه لم يفِ بوعوده التي طالما وعد بها الشعب والانكليز حينذاك (بداية العشرينات).
ولأنه بسياسته الطبقية والطائفية والمذهبية الضيقة تجاه مواطنيه عموما والشيعة خصوصا أصبح عائقا أمام التطور السياسي والاجتماعي للبلاد، وأمام مصالح البريطانيين في خطتهم الأمبريالية، وباتت الأوضاع تنذر بالانفجار فقد تم عزله من قبل الانكليز استباقا لأي حدث شعبي، وتعيين ابنه وولي عهده الشيخ حمد مكانه كنائب لحاكم البحرين ابتداء من سنة 1923 حتى سنة وفاة والده سنة 1932.
بهذا الحدث الذي حاول فيه الشيخ عيسى بن علي (في العقد الثاني من القرن الماضي) تجييش الطائفة السنية لصالح قبيلته وحكمه الاستبدادي ضد مطالب الإصلاح السياسي المرفوعة من أعيان الشيعة بدأت المسألة الطائفية في البحرين تطل بقرونها في الشأن السياسي، وتتخذ طابعا سياسيا. وفي الغالب ما يقوم النظام بتخويف السنة من الشيعة ويقوم بتحشيدهم وخلق حالة رعب لديهم من إخوانهم الشيعة من أجل الاستمرار في حكم البلاد بالنار والحديد وتطييف أي محاولة إصلاح سياسي، وإبرازها وكأنها خاصة بطائفة دون أخرى، وتصوير الصراع الساسي وكأنه صراع شيعي سني، وأن دور آل خليفة هو إصلاح ذات البين، أو فوق الصراعات الطائفية والطبقية، وأنهم يقومون بحماية الشعب من نفسه ومن الاحتراب الطائفي، في حين أن الحقيقة الجلية أن الحكم الخليفي وعلى امتداد تاريخه هو المشكلة في كل الصراعات وفي اختلاقها وإذكائها، حتى ولو بدت وكأنها بين الطوائف في الظاهر، حيث يقوم بافتعالها للتشويش على أي حركة جماهيرية شعبية ذات مطالب سياسية، كما يحدث الآن في حركة 14 فبراير.
بهذا المعني فإن النظام ومنذ بداية حكمه، كانت الورقة الطائفية هي الورقة الرابحة بالنسبة إليه يستخدمها وبمهارة في تمييع الصراع السياسي بينه من جهة وبين الشعب من جهة أخرى، ليشغله في دهاليز ومتاهات من شأنها تضييع نضال الشعب من أجل الإصلاح السياسي وإقامة الملكية الدستورية.
ولم يكن خلفاء الشيخ عيسى بن علي من أولاده وأحفاده من الحكام يختلفون عنه في شيء في إدارة الصراع بين مكونات الشعب، فقد ساروا على نفس الخطى في تشطير المجتمع بين شيعة وسنة والرقص على الأجناب، وهذا ما حدث في عهد سلمان بن حمد (1942- 1961) عشية حركة هيئة الاتحاد الوطني 1954- 1956، حيث قامت هذه الحركة في أعقاب تشطير طائفي سني شيعي لعب فيه النظام دورا ليقطع الطريق على الحركة السياسية الديمقراطية المطالبة في الإصلاح عندما كانت أوضاع المجتمع تنبئ بانفجار شعبي كبير وقد حدث ذلك بالفعل.
لكن الحركة الشعبية في الخمسينات كانت أقوى من ألاعيب النظام حيث كان السنة والشيعة على قلب رجل واحد ولم يستطع النظام طأفنتها، فما كان منه إلا أنْ تحالف مع المستعمر البريطاني وبعض القوى الإسلامية (الإخوان المسلمين) هذه المرة لضرب الحركة وقمعها بشكل دموي، وسجن وتسفير قياداتها إلى أقاصي الأرض.
ولا تختلف الحالة في البحرين الآن فيما يتعلق باللعب بالورقة الطائفية عن الفترات السابقة، فالأمر يكاد يكون متشابها إلى حد كبير في طريقة تعامل النظام، وما أشبه الليلة بالبارحة. فالنظام لم يتزحزح قيد أنملة عن أسلوبه القديم/الجديد في معالجة الحراك السياسي فكلما ووجه باستحقاق سياسي وبمطالب جماهيرية ملحة ركب المطية الطائفية وحشد طائفة ضد أخرى، وعادة ما تقع الطائفة السنية فريسة سهلة لإرادته في قبالة المطالب السياسية المشروعة التي لم تكن طائفية في يوم من الأيام لا في الماضي ولا في الحركة الأخيرة، ومحاولة إبراز تلك المطالب السياسية العامة وكأنها مطالب شيعية فقط، أو مطالب سنية فقط وليست شعبية، والإيحاء من قبل النظام إنها ستجلب في حال تحققها الويل والثبور وعظائم الأمور للسنة أو للشيعة، أو أن الشيعة يريدون الانقضاض على الحكم.
ولأن حركة 14 فبراير قد وصفت بأنها شيعية (حسب النظام) ودرءاً لذلك ما عليهم (السنة) إلا الوقوف مع النظام بكل قوة وهو الذي سيحميهم من بطش إخوانهم الشيعة ومن (حكم ولاية الفقيه والجمهورية الإسلامية ) بعد استلامهم للحكم حسب مزاعم النظام.
هذا بالضبط ما يقوم به الآن النظام من حرف وتحريف وتشويه وتشويش للحركة الشعبية التي بدأت في 14 فبراير، إذ يحاول جاهدا أن يجعل من الحركة الجماهيرية العامة حركة خاصة بطائفة دون أخرى مع الاستماتة من خلال الإعلام والأقلام إدخال الرتوش والبهارات المذهبية عليها من خلال اتهامها بادعاءات من قبيل حكومة ولاية الفقيه وجمهورية ولاية الفقيه وحكم الملالي .. إلى آخر معزوفات النظام وذلك لطبع الحركة السياسية بطابع طائفي غير موجود، وكل ذلك بهدف تحييد وتخويف السنة عن الانخراط مع الشيعة وتخويفهم دون وجه حق، وإظهار النظام نفسه وكأنه حامي البلاد من الانزلاق إلى الحرب الطائفية.
بتقديري لا توجد مشكلة طائفية في البحرين بين الشيعة والسنة لا في الماضي ولا في الحاضر، لقد كانوا دائما محافظين على العيش المشترك وسيظلون. ولكن إزاء ذلك كان هناك دائما النظام الذي يوظف الطائفية كنهج سياسي لأغراض سياسية تخدم العائلة الحاكمة فقط، تهربا من استحقاقات الإصلاح التي طال أمدها، أما الطوائف كجماعات دينية وثقافية فقد كانت موجودة على امتداد تاريخ البحرين وكان التعايش والتفاهم والتفهم هو الحاكم لهذ للعيش المشترك، أما الطائفية كنهج سياسي فهي من صنع النظام الحاكم في البحرين وارتبطت به منذ احتلاله للجزر.
بتقديري فإن المشكلة في البحرين تكمن هنا، في النظام نفسه في سياساته الطائفية وليس في الشيعة كطائفة، ولا في السنة كطائفة. لذلك فإن تطييف الحركة السياسية التي تشهدها البحرين تمثل سياسة ونهجا قديما للنظام يلعب فيه على الوتر الطائفي، ليستمر في تأبيد حكمه القبلي والاستبدادي، وأن الطائفية هي إحدى صناعات النظام.
والمشكلة في البحرين هي مشكلة النظام وليس مشكلة الطوائف. فبالتطييف للحركة السياسية يحاول تجاوز أزماته المستمرة والتاريخية، وبهذا فالمشكلة ليست في يكون في البحرين سنة وشيعة، إنما في ان النظام ببنيته القبلية ولعبه الدائم على الطائفية والقبلية، خاصة في اللحظات التاريخية المصيرية لهذا البلد، كما يحدث الآن.
* باحث بحريني في علم الاجتماع.