سنة أولى انتفاضة ما لها وما عليها
2012-02-05 - 8:32 ص
أنور الرشيد*
وتستمر الأيام وتتوالى الشهور ويستمر نزيف الدم كما يستمر المعتقلون قابعين بين أربعة أركان كنكوريتية وتستمر معهم معاناتهم من إهانة وتحقير إنساني ومذهبي، وها نحن نقترب رويداً رويداً نحو السنة الثانية ولا زال الوضع مستمراً على ما هو عليه. لم تستطع القوة الغاشمة أن تحقق الأمن والشعب مُصر على مطالبه، والواضح بأنه مستمر بهذه المطالب إلى ما لا نهاية أي أننا في مرحلة عض الأصابع من يصرخ أولاً. لذلك وبالرغم من استخدام كل انواع الأساليب الترهيبية، لم تستطيع الأسرة المالكة أن تحل الأزمة، ولم تصل معاناة أهل البحرين لحل. هذه هي الحقيقة الوحيدة اليوم الماثلة أمامنا بعد انطلاق انتفاضة الرابع عشر من فبراير للمطالبة بحقوق مشروعة.
المتتبع للتاريخ سيجد أن الأسرة المالكة البحرينية لها تجربة طويلة وخبرة تمتد لعشرات السنين بصراعها مع شعبها، إلا أنها مع الأسف الشديد لم تستثمر تلك الخبرات التي اكتسبتها طوال تلك الفترة بما يخدم مشروعها ومشروع شعبها، فما زالت تستخدم نفس الأساليب التي استخدمتها قبل خمسة أو ستة عقود ماضية، غير مدركة بأن كل مرحلة من مراحل الصراع تحتاج إلى استراتيجية تتواكب مع مستجدات تلك المرحلة، لا بل أجزم بأنها مدركة ولكنها تتعامى عن هذا الإدراك، لذا فإن الانسداد الحاصل في آلية الصراع بين الأسرة المالكة البحرينية وبين شعبها هو انسداد سيفضي لمرحلة ستكون بها الغلبة أو الكفة ستميل نحو الشعب كنتيجة حتمية لصراع دام وطويل. ولنا في بطون التاريخ القريب والبعيد والمتوغل بعمق التاريخ دروس ومواعظ وعبر يمكن الاستفادة منها، ولكن هناك من لا يريد أن يرجع للتاريخ لا القريب ولا البعيد وهنا الحتمية التي يجب أن يصل لها أي صراع في الكون طالما أن اللاعب الرئيس يغمض عينه عن حقائق ولا يريد أن يراها أو يستفيد منها، وبالتالي سينصدم مع الواقع الذي يعتقد بأنه بمنأى عن إرهاصاته.
بعد أقل من شهرين ستعبر مملكة البحرين سنتها الأولى بعد انطلاق شرارة الرابع عشر من فبراير، ومن الإنصاف التاريخي أن يتم عمل جرد حساب لمجريات أحداث سنة أولى انتفاضة والتي لا زالت مستمرة ولن تتوقف بكل تأكيد ومن يعتقد بأن انتفاضة الرابع عشر من فبراير ستتوقف فهو واهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، ويجب أن تدرس بشكل محايد بعيداً عن الانحياز لمصلحة أي من طرفي النزاع لكي نخرج بنتيجة قابلة للتطبيق على الأرض وترضي طرفي النزاع، ويمكننا أن نعدد بعض الجوانب وليس كلها بكل تأكيد لأنها كثيرة جداً وقد أثرت على مصداقية أى خطوة يمكن أن تتخذها الأسرة المالكة البحرينية كنوع من التطمين أو الإصلاح.
أولاً:
العدد الكبير الذي سقط كشهداء للحرية والديموقراطية وقد فاق الخمسين ولا زال يسقط يوميا شهداء وقد اختتم عام الثورات2011 بشهيد (السيد هاشم سعيد).
قد يرى البعض بأن هذا الرقم بسيط لا يعتد به، أقول لهم إن أهل البحرين من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها يعرفون بعضهم البعض بشكل متداخل وذلك نتيجة لصغر حجم المجتمع بشكل عام فلا تستغرب عندما تسأل من يمشي بأي شارع من شوارع المنامة أو المحرق عن اسم شخص إلا وتجده يقول لك انه يسكن في المنطقة الفلانية وابن عمه فلان الفلاني، لذلك عندما يسقط شهيد في هذا الصراع تجد كل أهل البحرين يحضرون تلك الجنازة من سنتهم وشيعتهم.
ثانيا:
عدد الذين تم اعتقالهم بلغ عدة آلاف من شباب وفتيات ورجال وأطباء ومدرسين وطلبة وعمال وصحفيين، أي أن الأسرة المالكة لم تترك أي مجموعة إلا وأصابها نوع من الاستبداد والقهر، ففئات المجتمع كلها لحقها أذى بشكل مباشر من الأمن واستخدام القوة بقمع كل صوت يظهر على السطح، حتى الطائفة السنية التي وقف من وقف من أبنائها ضد تلك الممارسات زج بهم بالمعتقل، ولا زال البعض منهم حتى الساعة يرزح في المعتقل يواجه كل انواع الذل والمهانة والتعذيب، لذا لم توفر الأسرة المالكة أحداً إلا وأصابه ما أصاب الجميع من ذل ومهانة.
ثالثا:
لاشك بأن الأسرة المالكة اليوم تشعر بامتنان عظيم تجاه الأسر الحاكمة الخليجية وبالأخص الأسرة المالكة السعودية، التي دفعت بكل قوتها لمساعدة الأسرة المالكة البحرينية لقمع تلك المطالبات المشروعة التي رفعها الشعب البحريني، وهي مطالبات كادت أن تتحقق في الأسبوع الثالث تقريبا، عندما كلف ولي العهد بفتح حوار مع المعارضة للاتفاق على الخطوات المقبلة لتحقيق مطالب المعارضة. ولكن هناك من أجهض هذا التوجه في مهده وتم القضاء عليه بالقوة العسكرية، مما فوت على الأسرة المالكة الفرصة الثمينة والتاريخية التي كان يمكن بها أن تُجسر بها الهوة بينها وبين شعبها الذي تعايشت معه طوال عقود طويلة، وكان يمكن أن تختم هذه العلاقة الطويلة بخاتمة طبيعية وصلتها كل الأسر المالكة في العالم المتحضر، إلا أن حساب البيدر دائما ما يختلف عن حساب الدفتر. فمن المؤكد بأنه حينما تنحو الأسرة المالكة هذا المنحى في ظل ظروف الربيع العربي سينتقل بكل تأكيد لبقية المجتمعات المحيطة وعلى الأخص المجتمع السعودي، الذي يعتبر مجتمعاً مهيئاً للانفجار طال الزمن أو قصر، لأنهم يتعاملون بنفس العقلية التي تعاملوا بها مع شعبهم منذ عشرات السنين، مغمضين العين عن حجم المتعلمين والذين احتكوا مع الثقافات الأخرى خلال على الأقل الأربعين سنة الماضية، ويقدر عددهم بالملاين من الشباب المتعلم في أرقى الجامعات الأجنبية، مما يجعل منهم قنبلة موقوته يمكن أن تنفجر نتيجة للاحتقان الداخلي بأي فرصة تتاح له.
رابعا:
قد يكون العالم الغربي اليوم غير مهيئ للانتقال بمنطقة الخليج بشكل عام من أنظمة أسر مالكة إلى أنظمة ديمقراطية على غرار ما حصل في دول شمال أفريقيا: تونس وليبيا ومصر والجزائر (بكل تأكيد سيأتي عليها الدور) واليمن وسوريا، وهذا الأمر معقول ويدعمه الواقع على الأرض فالغرب يريد كما هو واضح أن يرتب أوراقه في تلك الدول التي تعتبر دولاً خطيرة ومحورية وعدد سكانها يبلغ بالملاين ويريد أن تترتب الأمور بها قبل أن يشرع باستكمال مشروع الربيع العربي، ولكن ماذا لو تم استكمال مشروع الربيع العربي والتفّ الغرب على أسرنا المالكة وطلب منها أن تتحول لممالك دستورية؟ كيف ستواجه الأسرة المالكة البحرينية استحقاق تلك الدماء التي سالت وعذابات المهجرين والبيوت التي انهارت على رؤوس أصحابها نتيجة لفقدانهم معيلهم؟ هل ستنفع هنا وثيقة أخرى أو عفو عن من ارتكب جرائم بحق الإنسانية مثل ما حصل مع سيئ الصيت فليفل ربيب هندرسون؟
أنا لا أعتقد بأن الشعب البحريني يمكن أن ينحو هذا المنحى فيما لو تغيرت الظروف وأجبرت الأسرة المالكة على فتح صفحة جديدة بعلاقتها مع شعبها، فالجرح اليوم أعمق من أن تستطيع الأسرة المالكة أن تحاول تنظيفة وعلاجه لذلك ستواجه مصيبة ومعضلة، يمكن أن لا تستطيع أن تجد لها حلولاً مناسبة مهما تكن تلك الحلول، فالمجتمع البحريني اليوم هو الذي دفع ثمن إصراره على امتلاك الحرية والديمقراطية، ومن يدفع هذا الثمن الغالي الذي تجسد على أرض الواقع لا يمكنه أن ينسى شهداءه من شبابه ونسائه ورجاله وأطبائه ومدرسيه وعماله، فالكل شعر بمرارة الجرح فمن الصعوبة بمكان أن يتغاضى شعب كامل عن كرامته التي أهدرها مرتزق جلب من بلده لكي يقمع أبناء البلد. لذلك فالوضع بالنسبة للأسرة المالكة البحرينية سيكون صعباً جدا، خصوصا، مع استمرار المطاردات اليومية التي تجرى في مختلف القرى.
خامسا:
هنا تتجسد مأساة شعب البحرين في أوضح صورها، فالشعب لا يستطيع قبول مرور تلك السنة بدون أن يرى الثمن مقابل ما دفعه من أرواح وجرحى ومفصولين، ثمناً ترضي به الأم الثكلى والطبيبة المفصولة والمدرس الذي أهين أمام طلبته والعامل الذي فصل من عمله لا لسبب سوى أنه عبر عن رأيه بما يراه كفرد من أفراد المجتمع الذي تأثر برياح الربيع العربي، والابنة التي رأت أباها يسحل أمامها من قبل قوة غاشمة خجلت لا بل خشيت من أن تتعرف عليهم طفلة فوضعوا على وجوههم أقنعة يتوارون وراءها خوفاً من أن تتعرف عليهم طفلة صغيرة، وهم يدركون بأن مشهد الاعتقال من المنزل وأمام كل أفراد الأسرة الصغيرة لن يمحى هذا المشهد من ذاكرتهم، لا بل سيحفظون أشكالهم واحداً تلو الآخر، ولا يستطيع أحد أن يمحي تلك الذاكرة، لذا يتوارون خلف أقنعة خوفا من طفلة، لذلك فإن استمرار تلك المأساة ستكون هي الفيصل بين تاريخين سينجر على كل الأسر الخليجية الحاكمة بكل تأكيد، فالتاريخ يتغير والذي لا يستطيع أن يتواكب مع التاريخ ويُجمد نفسه عند نقطة معينة من ذلك التاريخ يكون قد كتب نهايته بكل تأكيد والشواهد التاريخية أكثر من أن تحصى.
سادسا:
الدمار الذي ألحقته الأسرة المالكة البحرينية في النسيج الاجتماعي البحريني يصعب اندماله، خصوصا وأن هناك من هو مستمر بتغذية ذلك الخرق الواضح، والتمزيق المتعمد لهذا النسيج الذي تعايش مع بعضه البعض عشرات القرون، دون ذكر لصراع بين تلك الطائفتين الكريمتين، ولكن السياسة ومتطلباتها هي التي تحث تلك الأسرة على سلوك هذا النهج لكي لا تتفق تلك الطائفتان عليها وخوفا من أن تنقلب عليها الطاولة ولا تستطيع أن تفرض سيطرتها على المجتمع، لذلك لابد من خلق هذا الصراع والقاء تبعاته على الخارج وما الصفعة التي وجهها تقرير بسيوني بهذا الجزء إلا دليل واضح على أن هناك من يتبع سياسة فرق تسد، ومن المؤكد بأن الأسرة المالكة بحد ذاتها لا ترتكب هذه الحماقة بشكل مباشر ولكن عن طريق أتباعها من كتاب وممثلين بالبرلمان ومجلس الشورى فهم الذين ينفخون بالكير بإيعاز وتنسيق بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، والمصيبة أن معالجة هذا الأمر يحتاج إلى سنوات طويلة لكي تمحى هذه الحماقات التي ترتكبها الأسرة المالكة بتفكيك مجتمعها لتسهل السيطرة عليه، و على ذلك لذلك فإن المسئولية التاريخية تقع على تلك الأسرة التي مزقت نسيجها الاجتماعي بيدها وعن سبق الإصرار والترصد، فكيف يمكنها لاحقاً أن تطلب من مجتمع ممزق حتى شحمة أذنية الصفح وفتح صفحة جديدة هذا ما لا أتوقع حدوثة بعد تجربة عام 2001 عام الميثاق.
سابعا:
العشرات لا بل المئات من الرسائل التي تصلني عبر الإيميل الكثير منها يقدم الشكر والثناء على ما أطرحه من رأي حول أحداث انتفاضة الرابع عشر من فبراير، والقليل منهم بكل صدق وإخلاص يطلب مني عدم التدخل بشأن داخلي، لذلك و كنت دائما أرد عليهم ويهمني أن ارد عليهم ولعلني أكشف ذلك للمرة الأولى للقراء، بأن الشأن الخليجي اليوم لم يعد حكراً على شعب هذه الدولة أو تلك، فكلنا اليوم كشعوب خليجية بقارب واحد، وعندما تحاول إحدى الأسر الحاكمة أن تخرق هذا القارب بحجة أنها أدرى بشئون شعبها؛ فهذا أمر غير مقبول وأسمح لنفسي أن أتدخل وبشكل مباشر محاولاً أن أوقف تلك الأسرة عن خرق مركبنا الخليجي. فما تتبعه من سياسات خرقاء وعمياء لا ترى مدى الضرر الذي يصيبنا كمجتمعات خليجية منها، يتحتم علينا الواجب أن ننبه لهذه المخاطر وأخطرها التمزيق الطائفي الذي تتبعه فهو يؤثر على كل المنطقة وهناك من يتربص بها من كل جانب ولكي تتخلص الأسرة المالكة البحرينية من متطلبات واستحقاقات شعبها تحرق علينا المنطقة طائفياً، لن نسمح لها وسنعري سياستها الخرقاء وهذا أقل واجب علينا القيام به، فبالدرجة الأولى هو حفظ المجتمع البحريني، والثانية هي عدم تصدير ذلك الشرر للمجتمعات الأخرى. فالمصيبة التي ترتكبها الأسرة المالكة البحرينية لن يقف ضررها عليها فقط، وإنما ستحرق كل الخطوط وكل المراحل؛ لذا أسمح لنفسي أن أتدخل وأبين الضرر الفادح الذي ترتكبه بحق نفسها وبحق شعبها.
ثامنا:
ما أتمناه في هذه الجردة أن تتحول البحرين لمملكة دستورية حقيقة لكي تقود الإصلاح بمنطقة الخليج كلها، فلا زال في الوقت متسع لكتابة تاريخ جديد لهذه المنطقة التي أعطت الأسر الحاكمة كل شيء، وحان الآن دور الشعوب، فقد كتبتم تاريخاً طويلاً امتد ببعضكم ثلاثمائة سنة، وحان الوقت الذي تترجلون فيه عن صهوات جيادكم، وتركبون صهوة المجد والتاريخ معززين مكرمين، لا نريد فتح جراح الماضي الذي دفعت به الشعوب الخليجية الكثير من دماء أبنائها وحان دورها الآن لتمتلك ناصية قرارها.
تاسعا:
لقد ذكرت فيما سبق ما لانتفاضة الرابع عشر من فبراير، ومن الإنصاف والموضوعية أن أذكر ما عليها، فخلال المتابعة اليومية وما يحصل في مختلف القرى من صدامات بين متظاهرين وقوات الأمن وقوات مكافحة الشغب. فأني أرى بكل شفافية بأن من يحاول أن يحول ذلك الحراك الاجتماعي السلمي الذي لازال يذهل العالم بسلميته ويستمد منها الشعب البحريني تعاطف العالم والمجتمعات المحيطة به ويحصل يوميا على تأيد من مختلف المشارب رغم التعتيم الإعلامي، إلى صدامات دامية مع قوات الأمن، يجب أن نقول له توقف عند هذا الحد، ولا تدمر ما بناه أبناء البحرين بدماء شهدائهم وعرقهم وسجونهم وفقدانهم أعزاء من ذويهم، فلا تعسكروا هذا الحراك السلمي مهما كانت ردود الفعل من قبل قوات الأمن، فهم يجرونكم لمثل تلك المعارك السخيفة، لكي تلقون عليهم قنابل المولتوف، ليجدوا لهم حجة ليسحقوا بها هذا الحراك.
فهذه الظاهرة التي اتسم بها الحراك الأخير في البحرين يجب أن يتوقف ومن يخرج عن سقف وثيقة المنامة يجب أن تتخذ اتجاهه كل الجميعات السياسية المعارضة دون إبطاء موقف واضح وجلي لا لبس فيه. أطلق الشيخ علي سلمان زعيم جمعية الوفاق تصريحا يطالب بعدم استخدام تلك القنابل الحارقة، ولكني أعتقد بأنه تصريح غير كاف للجم تلك المجاميع التي تحاول أن تسيء للحراك في مملكة البحرين، أكثر من أنها تريد أن تحقق نصرا قد لا يكون لا بل من المؤكد بأنه لن يكون بصالح شهداء انتفاضة الرابع عشر من فبراير خصوصا، ونحن مقبلون على عيد ميلاد تلك الانتفاضة الباسلة التي ستحقق مبتغاها، طال الزمان أو قصر، ففجر الحرية قريب والثمن الذي دُفع غال، لذا فإن ضبط النفس مطلوب في هذه المرحلة و بلا شك ستقوم قوات مكافحة الشغب بكل أنواع الاستفزازات الممكنة، لكي تجد لها ذريعة تقدم لها على طبق من ذهب، قد لا تحلم بها.
Zwayd2007@gmail.com
*الأمين العام للمنتدى الخليجي لمؤسسات المجتمع المدني.