والدة الشهيد محمد عبد الجليل: يا وطن إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى
2015-12-12 - 6:54 ص
مرآة البحرين (خاص):
"ولدي محمد.. وأنت في عالم الملكوت، لا تنس الدعاء للشباب والمستضعفين، أن ينصرهم الله".
والدة الشهيد عبد الجليل عند قبره في ذكرى أربعينيته.
لقد رحلت "منى فلاح" سريعاً كما رحل ولدها الشهيد محمد عبدالجليل سريعاً. رحلت وهي ما تزال في بداية العقد الخامس من عمرها، كما رحل وهو للتو يفتتح العقد الثاني من عمره. اجتمع عليها مرض السرطان، وشهادة ابنها الأصغر محمد، واعتقال ابنها الأكبر علي، وما يتعرض له زوجها الحقوقي عبد الجليل يوسف عضو الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان من مضايقات، واجتمعت هي على همّ الوطن ووجع الناس المسكون في قلوب أهل هذا البلد. تقول لابنها عند رأس قبره "لم أتوقع أن أجلس على قبرك بهذه السرعة"، ثم تتدارك: "أسأل الله أن يرزقني الشهادة كما رزقك". هل كان يتوقع الشهيد محمد أن أمه ستلحق به بهذه السرعة؟
يبكيها بوجع كبير الشهداء الشباب الذين يتساقطون مثل أوراق شجرة خضراء، يتساقطون في غير أوان ذبولهم ويرحلوا سريعاً، يؤلمها أنهم لم يذوقوا من طعم الحياة غير مرارة الظلم. ويفجعها خبر استشهاد معتقل تعرض للتعذيب المفضي إلى الموت داخل المعتقل. يبكيها ذلك كثيراً جداً. تنقل أختها: "كانت تخشى على الشباب عندما يخرجون للتظاهر، تخشى ذهابهم في غمضة عين، لكنها ترى أن دماء هؤلاء هي ما ترتوي به أرض هذا الوطن، أنها ما تطهر الأرض: "يا وطن إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى".
يقول زوجها عبد الجليل: "بدأت معاناتها عندما اعتقل ابننا الشهيد محمد عندما كان طالبا في الثانوية العامة، تم اعتقاله من المدرسة، ومنذ ذلك اليوم لم تعرف الراحة رغم إيمانها وصبرها وقوتها".
يكمل : "في 2010 وبالتزامن مع الحملة الأمنية التي شنتها السلطة في شهر أغسطس، وفي إحدى الليالي كانت زوجتي برفقتي مع ابني الأصغر والساعة تشير لحوالي الثامنة مساء. أردنا حينها التوجه إلى منزلنا عن طريق إشارات السنابس، فتفاجأنا بنقطة تفتيش هناك مكونة من قوات مدنية وعسكرية، أوقفوني وقاموا بتفتيش سيارتي، وكانت سيارتي تحتوي على كتيبات وتقارير خاصة بـ«الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان» بصفتي عضواً فيها ورئيساً للجنة الرصد. اعتبروا أن ما حصلوا عليه شيء مهم جداً، إذ كانت بحوزتي تقارير بها صور المعتقلين، قلت لهم إن هذه الأشياء تخص الجمعية وليست لي".
يردف: " كل هذه المشاهد كانت زوجتي إلى جانبي وشهدت الحدث، وحتى بعد تحويلي إلى مركز القضيبية ظلت ترافقني، فقد تم اقتيادنا جميعاً، وبقت تنتظرني بكل صلابة حتى انتهى التحقيق معي في وقت متأخر من الليل". يضيف "الموقف الثاني الذي شهدت فيه صبرها وصمود كان بعد استشهاد ابننا محمد نهاية العام 2013 عندما تم اقتحام منزلنا في منتصف الليل لاعتقال ابننا علي. عندما اعتقل علي خرجت من البيت وكان الوقت قريباً من الفجر وأخذت تصرخ بأعلى صوتها. كان الفرق بين استشهاد محمد واعتقال علي قرابة 40 يوما فقط، صراخها العالي أخرج أهل الحي من بيوتهم. كانت تقول " أنا قمت بالصراخ لأني أريد أن أرسل رسالة بأني سأدافع عن بلدي وعن الآخرين وليس ابني فقط، صراخي هو لفضح الانتهاكات". يردف عبد الجليل، كانت قوية وصامدة وصبورة ودائماً تردد "حتى لو استشهد ابني واعتقل الآخر نحن لسنا بأفضل من الآخرين".
يؤكد عبد الجليل أنه كان لزوجته دور كبير في دعم عمله الحقوقي واستمراره، يقول: "كانت معظم أوقاتي في الجمعية، وكنت كثير السفر، لكنها لم تمل يوما بل كانت تحفزني، من النادر أن تقبل الزوجة أن يكون زوجها مشغولا عنها طوال الوقت وأيضا كثير السفر، وللأمانة كانت تدافع عني حتى أمام أولادي عندما يرون انشغالي الدائم، كانت تقول لهم: والدكم يخدم الناس وما يقوم به عمل إنساني نتاجه الجزاء الكبير من الله".
أصيبت منى بسرطان الثدي منذ العام 2008 وأجريت لها عملية جراحية، لم يمنعها مرضها من العمل ومشاركة الناس همومهم ومشاكلهم، "كانت داعمة قوية للناس، لديها علاقات اجتماعية واسعة جدا، تدعم الناس اجتماعيا ونفسيا، كانت محبوبة ولديها كرم كبير تجاه الناس. الآن أتفاجأ بالكثير من الناس الذين يعزوني فيها، لم أكن أعرف أن أم علي تتواصل مع كل هؤلاء الناس، تفاجأت بعدد الناس الذين يفتقدونها، لم أتصور أن منى زوجتي كانت تقوم بكل هذا الدور، أحسست أن الدور التي كانت تقوم به مع الناس والضحايا أكبر من دوري أنا عضو الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان".
تنقل اختها: "كانت تعتبر كل الشباب أولادها، كل الشهداء أولادها، كل المعتقلين أولادها. وحين أصبح لديها ابن شهيد وآخر معتقل، صارت تشعر بالراحة أكثر أنها تشترك مع الأمهات البحرينيات في التضحية والعطاء".
تضيف: "عندما بدأت ثورة 14 فبراير 2011 كان محمد يدرس في ماليزيا، لم تكن تعلم بان ابنها سيعود من دراسته لكي يواكب الثورة وأحداثها، وبالرغم من ذلك لم تمنعه يوما من الخروج والمشاركة في التظاهرات والاحتجاجات، أبدا لم تمنع ابنها يوما عن المشاركة في الاحتجاجات، عندما تسأل عن سبب قبولها بخروج ابنها الشهيد للاحتجاجات تجيب: هو ليس بأفضل من غيره".
تردف الأخت: "كانت تشارك في المسيرات والفعاليات بروح قوية، كان ذلك قبل أن يستشهد ابنها محمد، وعندما استشهد ابنها حمدت الله وأثنت عليه، لقد أطلق عليها محمد كنية "أم الشهيد" قبل استشهاده بفترة بسيطة، وكأنه أراد أن يهيئها لذلك عبر طلبه الجلوس معها لمناقشة الوضع الراهن حينها، وحين أعربت له عن قلقها عليه أجابها: "أولسنا على الحق؟"، وجدت نفسها لا تملك إلا أن تدعو له، وتودعه بعين الله. وكأنها كانت ترى أنه لن يطول بها المقام، حتى تلحق به عند "عين الله".
في فترة مرضها الأخيرة، أخبرها الطبيب الاستشاري بأن العلاج سيعطيها فترة نقاهة تصل لمدة 6 أشهر. لكن الموت لم يعطها هذه المهلة. يقول زوجها عبد الجليل: "الهم هو من أنهى حياة زوجتي وليس المرض كان قلقها كبيراً على الشباب، وقلبها مشحون بالحزن على الوطن والناس، ولا شيء يقتل مثل حزن يقبض على قلب مكسور، ولا يغادره".