استشاري جراحة الدماغ والأعصاب طه الدرازي: عندما تُجري جراحة في المخ بينما كلب بوليسي يشم قدميك!
2012-01-05 - 11:06 ص
الروح الإنسانية تحتاج للجمال الحقيقي أكثر من حاجتها للخبز.
ديفيد هربرت لورانس
ديفيد هربرت لورانس
مرآة البحرين(خاص): حين يوسم نصف الشعب بالخيانة، ليس هناك فرق بين أن تكون استشارياً جراحاً أو عامل نظافة، الجميع متساوٍ أمام الانتهاك، الجميع في لا إنسانية الواقع القبيح. لكني أقدم هنا مقتضباً عن سيرتي المهنية، لأنها جزء من شهادتي التي لا بد أن أسردها على أرض هذا الواقع.
استشاري جراحة دماغ وأعصاب. أستاذ مساعد في كلية الطب - جامعة الخليج العربي. خريج جامعة البصره - العراق عام 1980. أحمل بالاضافة إلى شهادة الباكالوريس شهادة المجلس العربي للاختصاصات الطبيه في الجراحة، شهادة الكلية الملكية للجراحين في ايرلندا، شهادة الكلية الملكية للجراحين في أدنبره، دبلوم إدارة الرعاية الصحية من الكلية الملكية للجراحين في إيرلنداووزارة الصحة في البحرين.
كُرمت في العديد من المؤتمرات التي شاركت فيها، لكنني لم ألق تكريماً داخل البحرين التي عملت فيها لمدة 30 عاماً. التكريم الوحيد الذي تلقيته هو توقيفي عن العمل ابتداء من 5 مايو الماضي وحتى تاريخ كتابة هذه الشهادة في نهاية ديسمبر 2011.
داخل الحدث..
لم أكن داخل البحرين عندما بدأت حركة 14 فبراير، كنت أزور أبنائي في بريطانيا، قرأنا جميعاً الدعوات التي انتشرت في الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ظننا أن الأمر لا يعدو حماساً سيفضّه الأمن سريعاً، لكن الأمور تطورت إلى ما هو أبعد وأخطر. أحداث تونس ومصر، يبدو أنها لم تحرك حماس الشباب فقط، بل ألهبت شجاعتهم وتصميمهم وإرادتهم، زادتهم إيماناً أن لحظة التغيير قد حانت، وأنه لا بد من التضحية.
فاجأتني الأحداث المتسارعة والمتصاعدة، كنت أتابع التطورات عن طريق الإعلام ووسائل الاتصال، توقعت أن يتم تفريق المتظاهرين لكن صدمت من القوة المستخدمة التي وصلت حد القتل. عدت البحرين يوم السبت 19 فبراير، بعد الهجوم الأول على الدوار، وصلت على أعقاب عاصفة ذلك اليوم الأسود، من فوري ذهبت إلى مستشفى السلمانية لتقديم ما يمكنني من مساعدة طبية، كانت الأمور قد تم السيطرة عليها، وتم سحب الجيش من الشوارع، والناس عادت إلى اعتصامها في الدوار.
لسنا سياسيين، نحن مهنيون، لكن الطب بلا إنسانيه كالصلاة بلا وضوء، دورنا المهني والإنساني كان هو ما جعلنا في قلب ثورة 14 فبراير. كتبت على صفحتي في تويتر منذ أيام بأن الأطباء الذين من لم يشاركوا في علاج الجرحى خلال هذه الأزمة يجب أن يراجعوا قَسَمهم. كاستشاريين كنا نتواجد داخل المستشفى لأيام متواصله لمتابعة الإصابات والحالات البليغة، ونتوقع وصول حالات طارئة في أية لحظة، ولأنني استشاري جراحة أعصاب، كنت أشعر خلال الأزمة أن تواجدي في المستشفى هو الأهم، خاصة أن معظم الضربات كانت توجه للرأس. في العادة ننتهي من عملنا الساعة الثالثة ونغادر، لكن في الأزمة حرصنا على التواجد 24 ساعة.
وطن أجمل..
شاركت مع الكادر الطبي في المسيرات والاعتصامات والأنشطة التي أقيمت عند الدوار، ووقفت ضد موقف وزير الصحة، وشاركت ضد العريضة التي طالبت بإقالته.
كانت مشاركتنا في غير أوقات دوامنا الرسمية، نحن مواطنون قبل أن نكون أطباء، ولنا حق الحلم بحياة جميلة، ليس من أجل الخبز وحده تثور الشعوب، بل من أجل كل الأشياء الجميلة التي يفتقدها إنسانها: الحرية والعدالة والكرامة والعزة والمساواة والديمقراطية والسيادة. فـ"الروح الإنسانية تحتاج للجمال الحقيقي أكثر من حاجتها للخبز". نعم، شاركنا في الحلم بوطن أجمل. كنت ألغي بعض من أوقات عيادتي الخاصة أحيانا لأشارك في بعض الفعاليات، لكن ليس على حساب وقت دوامي الرسمي.
إدارة المستشفى كانت سلبية طوال فترة الأحداث، لم تتمكن من إدارة الأزمة، صارت شكلية. كنا نريد ككادر طبي أن نخلي المسؤولية عن أنفسنا، لكن ماذا تفعل إن لم يكن لديك إدارة، لابد أن يخرج البعض ليقوم بتنظيم العمل ولو من الناحية اللوجستية، كان هذا ما حدث، كان لا بد من التعامل مع الحالات الطارئة التي ترد المستشفى.
الأيام الصعبة..
عندما تمت مهاجمة الدوار من قبل الأمن في 16 مارس، خرجت من البيت الساعة السادسة والنصف، فوجئت أن جميع الشوارع مغلقة برجال الجيش والأمن، لن أتمكن من الوصول إلى السلمانية، توجهت من فوري إلى مركز البديع الصحي، حيث هو الأقرب بالنسبة لي. وصلت وقد سبقتني بالوصول إصابات كثيرة عن طريق السيارات الخاصة التي نقلت الجرحى والحالات، بعضها لم يكن ممكناً علاجها في المركز حولناها لمستشفى الدفاع، لم يُسمح لمستشفى السلمانية باستقبال أي حالة. بعض الجرحى تمكنا من علاجهم وصرفهم سريعاً، وبعضهم نصحناهم أن لا يذهبوا السلمانية لأنهم قد يعتقلون من هناك. الأشخاص الذين كانوا ينقلون الجرحى إلى الدفاع يتم اعتقالهم هناك والجرحى أيضا. لم أغادر المركز إلا اليوم التالي، قضينا ليلة عصيبه هناك، حيث كنا ننام في الليل على الأرض وأحيانا على المقاعد المعدنية المعدة لجلوس المراجعين.
إذلال أقبح..
في اليوم التالي تمكنت من الذهاب لمستشفى السلمانية، تم غلق جميع المداخل الرئيسية، ما عدا مدخل الطوارئ، بحيث لا يتمكن أحد من الدخول إلا من خلاله. هناك وقف العسكر، وجهاز أشعة، جميع موظفي المستشفى كان عليهم أن يمروا من خلال هذا الجهاز، وتفتيشهم واحداً واحداً، صرنا طوابير انتظار. التفتيش يتم على مرحلتين: الاولى من قبل جنود أجانب من السعودية والامارات وباكستان، يرتدون الازرق، يدققون في المقتنيات الشخصية وبطاقة الهويه والتلفون النقال ولديهم قوائم بأسماء وصور أشخاص مطلوبين. والثانيه مرورك حافي القدمين عبر جهاز الأشعة. عايشنا إذلالاً حقيقياً جعلني أستحضر معاملة هتلر لليهود عندما كان يوقفهم في طوابير الموت، وتذكرت عندما كنا نقف في طوابير عند معبر رفح من أجل الدخول إلى غزة. ستتعرض داخل بلدك ومحل عملك لأصناف من السخرية والاستهزاء أثناء التفتيش والعبور. ستعبر الجهاز حافي القدمين صامتاً فيما العساكر تركلك بأحذيتها الغليظة. سيسألك أحدهم ما هذا الذي في جيبك؟ يشير إلى مصباح صغير تستخدمه لفحص عين المرضى، يقول لك: هذا شنو حامل لك صاروخ؟ يعثر آخر في جيب أحدهم كتاب دعاء صغير، يسخر: هذا ربك اللي تعبده؟ أصناف أخرى من الإهانات تتعرض لها لأول مرة في حياتك، تسمعها كلها ولا تجيب، ولا يحق لك أن تجيب.
عندما دخلت باحة الطوارئ ذهلت بما رأيت من مشهد، كانت العساكر تكتظ بالمكان وآلات الجيش التي لم نألفها من قبل حتى في شوارعنا العامة، كلها داخل الحرم الصحي، كان كل شيء مبعثراً، الأرض مليئة بركام الخيام التي كانت منصوبة من قبل وكأن زلزالا قد عاث في المكان خراباً. ومنذ دخولي ذلك اليوم لم أخرج إلا بعد 3 أيام في 20 مارس.
بمعية الكلاب..
منذ أن سيطر العسكر على إدارة مستشفى السلمانية لم يُسمح بإحضار المصابين والجرحى من الخارج، جميع الحالات تنقل إلى المستشفى العسكري كي لا يُعرف عنها شيء. لم يسمح لنا بالنزول الى قسم الطوارئ. كنت خلالها أعاين المصابين الموزعين على الأجنحة والذين كانو يتعالجون في المستشفى قبل 16 مارس. تم نقل جميع المصابين جراء الأحداث في جناح 63، وتمت محاصرتهم فيه. أغلق المدخل الشرقي له، وأُبقي على المدخل الجنوبي فقط، وضبط تحت حراسة مشددة، لم يسمح للأهالي أن يزوروا مرضاهم، ولا يمكن لأي من الكادر الطبي أن يدخل هذا الجناح إلا إذا كان مسؤولا عن متابعة مريض. سيكون عليك في كل مرة أن تكتب اسمك ورقمك الشخصي واسم المريض. المكان الآخر الذي تم منع الزيارة عنه نهائياً وشددت عليه الحراسة هو قسم العناية المركزة والذي يضم عددا من المصابين في حالات خطيرة.
الجرحى ممن تسمح حالتهم بالكلام يخبروننا صباحاً عما يحدث لهم في ظلام الليل في الجناح الذي سُمي بجناح الرعب 63، كيف يقتحمهم العسكر برفقة الكلاب البوليسية، ويخرجونهم من الغرف، ثم يضربونهم في أماكن إصاباتهم وأماكن جروحهم ويهينوهم بكلمات عنصرية. كنا نتحرك في المستشفى بمحاذاة الكلاب، تدخل علينا غرف المناوبة وغرف المرضى، بل صارت تقتحم علينا غرف العمليات، تلك الغرف التي لا تدخلها إلا معقّماً ومختصاً، صارت موطئاً للكلاب. هكذا سأجد نفسي يوماً، وفيما أجري عملية جراجية في المخ، أفاجأ بركل العسكر لباب الغرفة ودخولهم علينا، وسأجد كلباً يشمشم قدماي وأنا منهمك في عملية جراحية بهذه الخطورة. تكرر هذا لكثيرين، ينتهي الحال في كثير من الأحيان بالتهابات في الدماغ. كنا في ثكنة حرب.
لا يمكن أن ننسى كيف عشنا هذه الأيام، لن ننسى ما كنا نتعرض له من الركل والإهانات، وكيف كان يتم حصر مجموعة من الأطباء من مختلف التخصصات في واحدة من غرف الطوارئ لمدة ليلة كاملة، هكذا بلا سبب، لا يسمحون لهم بمغادرة الغرفة ولا العمل ولا معاينة المرضى، حتى إذا صار الصباح يُسمح لهم بالمغادرة.
ثم يختفون..
كنت أفاجأ باختفاء بعض مرضاي حين آتي لمعاينتهم، أسأل الممرضات الأجنبيات: أين فلان، يقال لي: أُخذ البارحة لا نعرف إلى أين. ينقل مرضانا دون استشارتنا ودون الرجوع للطبيب المتابع.
لدي جرحى أقوم بمعالجتهم، بعضهم كانوا في حالة غيبوبة مثل محمد عبد المهدي (19 عاماً) لديه كسر ونزيف يضغط على الجهة اليسرى من الدماغ، مما أدى إلى شلل في الجهة اليمنى من الجسم، مع فقدان النطق، اختفى من سريره فجأة. مريض آخر هو عبد الأمير غانم (37 عاماً)، لديه نزيف في المخ بسبب الشوزن والضرب المباشر على الجمجمة، أجريت له عمليتان، بعد أن نقل من العناية القصوى، أخذ إلى جناح 63، اختفى بعدها. مريض ثالث هو عزام عواجي، أجريت له عملية، وحين طاب جرحه، وسمحنا له بالمغادرة، اختفى عند بوابة الخروج.
الشهيد الشاب مجيد عبد العال (30 عاماً)، أصيب في 14 مارس بشوزن في الرأس، مما أدى إلى كسر في الجمجمة جهة اليمين مع تلف وأنزفة في الدماغ، وتجمع لقطع الشوزن في الدماغ، تعرض لإلتهاب شديد في الدماغ، أجريت له ست عمليات جراحيه لتفريغ الصديد من الدماغ، كان في حالة غيبوبة على جهاز التنفس الصناعي حين اختطف. لم نعلم عنه أي شيء حتى أعيد لنا بعد شهرين جثة هامدة في 30 يونيو.
تمكنا من إنقاذ العديد من الجرحى ذوي الإصابات البليغة في الرأس وكانوا على وشك الموت. هناك من انتهى به الحال بإعاقة دائمة مثل السيد حسين العلوي (45 عاماً) من قرية الغريفه وهو رجل دين فاضل، فقد القدرة على النطق والمشي بسبب ما تعرض له من ضرب مباشر على الرأس بأعقاب البنادق والركلات وغيرها، أصيب بنزيف في الجهة اليسرى من الدماغ. عملت له جراحة قبل أن يختفى 5 أشهر منذ مارس ويُعاد إلينا في أغسطس. رفضت وزارة الصحة إرساله للعلاج. تم أخذه من قبل عائلته للتأهيل في مدينة الأمير سلطان للخدمات الإنسانيه في السعودية، وهو بصدد العودة بعد إكمال 3 أشهر، فيما يحتاج إلى 12 شهراً للتأهيل.
ثم أُوقفت..
موقوف وواقف |
أطباء موقوفون! |
حصلت على عروض عمل من دولتين خليجيتين لن أذكر اسمهما منعاً للتحسس، ولدي عرض عمل آخر من البرازيل عندما ذهبت هناك في سبتمبر الماضي، وعرض آخر من المملكة المتحدة، وآخر من أمريكا في بوسطن، رفضتها جميعها. هذه العروض تتلقاها أنت كاستشاري لغرضين، الأول هو تعاطفاً مع وضعك الذي صرت فيه في بلدك، والآخر هو الاستفادة من خبرتك المهنية في مجال تخصصك. العروض أفضل بكثير من هنا من حيث المستوى الوظيفي والمادي، فضلاً عن كونها فرصة للعيش بعيداً عن التوتر والغبن السياسي، لكني رفضت بلا منّة على وطني، وقلت أن كسرة خبز أغمسها في الماء وأتقاسمها مع أبناء شعبي، لا تعادلها العروض السخية التي قدمت لنا للعمل في الخارج، وطني هو ما تحتاجه روحي أكثر من حاجتها إلى الخبز أو أي شيء آخر، وهذا الشعب هو الجمال الحقيقي الذي أفتخر أن أكون جزءاً منه وفيه وبه ومعه.