عن الشاب الراحل محمد المخوضر: قاسٍ غيابُكَ .. للبقـاءِ بجـانبـي ما زلتُ أسعى جاهداً كي أقنعَكْ
2015-06-04 - 6:37 م
مرآة البحرين (خاص): لم يكن الشاب محمد المخوضر (27 عاماً) شخصية بارزة إعلامياً، ولم يكن رمزاً سياسياً أو مناضلاً معروفاً، لكن خبر وفاته المفجع إثر حادث أليم في 31 مايو/ آيار 2015، أحدث زلزالاً في مواقع التواصل الاجتماعي.
بدا وكأن له علاقات ممتدة وغير محدودة مع المغردين والناشطين والشعراء والمهتمين. سوادٌ كبير منهم راح ينعاه بكلمات مفجوعة وبصدمة غير مستوعبة. هذا الزلزال ألهب مشاعر من لم يكونوا يعرفوه ليتساءلوا من هذا الشاب الذي استحوذ على قلوب كل هؤلاء بهذا القدر، وراحوا يبحثون عنه ليتعرفوا إليه. وكانت صفحته باسم (أبو مقداد) على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، والتي يتبعها أكثر من 10 آلاف متابع، مزاراً لمن أراد التعرف إليه.
على صفحته في الفيس بوك ترك العشرات من الأصدقاء ختم صدمتهم برحيله، وضعوا صورهم التي تجمعهم به، وبعض محادثاتهم الأخيرة معه، وكلماته، وراحوا يشكون قسوة الموت وصلافته، ويناجون محمد: أرجع يا محمد.. قل لنا أن موتك ليس حقيقة.
"يالتشيعوني.. يالتهيلون التراب.. لحظة خلوني.. وارحموا جسمي المصاب.. أمي نادوها.. خل تودعني.." هي كلمات خطّها الشاعر الفقيد محمد المخوضر، نعى بها نفسه قبل أن ينعيه أحد آخر. في اليوم التالي جاء تشييعه حاشداً؛ مفجعاً وصاخباً، ارتمت جموع كبيرة من الشباب على نعشه ضاجة بالبكاء والعويل. المشهد الذي أذهل حتى ذويه؛ تفاجؤوا بحجم الشعبية الكبيرة التي يحظى بها محمد. بل دفعهم إلى محاولة معرفة ابنهم من جديد: من أين حصد محمد كل هذه الشعبية الاستثنائية؟
والد محمد كرر على مسامع الحشود التي جاءت تعزيه بفقد ابنه الأكبر: "راح اللي رفع راسي". كان محمد خلوقاً هادئاً، باراً بوالديه، لا يسمع له صوتًا في حضرة من هم أكبر منه سنًا، وشاعرًا كوالده. والدته المتحسرة على شبابه لم تصدق حتى الآن أن ابنها أصبح تحت التراب ولم تستوعب بأن الطفلة "غدير" التي لم تكمل العامين أصبحت يتيمة الأب. جدته التي كانت حريصة طوال عمرها أن لا يرى أولادها دموعها صارت دموعها شلالا متدفقا لا يتوقف. جده لم يعد يقوى على سماع اسمه حفيده، جميعهم لم يتصوروا يومًا بأنهم سيشهدون جنازة " محمد"، بل كانوا يتهيئون لأن يشيعهم هو إلى داخل قبورهم يوماً ما.
يصفه أصدقاؤه بأنه شخصية اجتماعية سريعة التآلف مع الآخرين. مستقل برأيه. لديه طموحات مستقبلية. يتميز بروحه المرحة وصدره الرحب وعلاقاته الحميمية التي تجمعه بهم. كما يعرف في أوساط الشباب بأنه خلية نشاط، فبالإضافة إلى حضوره كمغرد في «تويتر» فهو ناشط في «الفيس بوك»، وله حضوره النشط في الفعاليات الدينية والسياسية والاجتماعية. وقد شارك بإلقاء قصائده وأشعاره في عدد من المناسبات الدينية، وكتب قصائد لعدد من رواديد المواكب الحسينية. بالإضافة إلى مساهمته بمقالات رأي خاصة به في مدونة ارتقاء ، التي يقوم عليها مجموعة من الشباب يعبرون فيها عن آرائهم وأفكارهم في فضائهم خاص، بعد أن ضاق بهم الفضاء العام.
الحضور الكثيف الذي شهدع عزاءه اضطر عائلته لتمديد مجلس العزاء ليوم آخر. مديره الكندي بمستشفى " ابن النفيس" عندما حضر مجلس العزاء، لم يتوقف عن مدح محمد، مبديًا إعجابه بهذا الشاب الذي استطاع أن يكسب محبة جميع الموظفين.
في تغريدته الأخيرة قبل رحيله بساعات كتب محمد: "كل ما هنالك، أن عصر الجاهلية عاد بغطاء إسلاميّ شرعي من جديد في هذا العصر، وكل أمة تظن أنها الوحيدة التي لم تحمل معها أوساخ الجاهلية!". أتت تغريدته في خضم الأحداث الارهابية الدامية التي طالت مسجدين في الدمام والقديح، كان يؤكد على ضرورة ملء المساجد بالمصلين، إخافة للعدو المتربص، بدلاً من الاستسلام لإرهابه.
ثورة 14 فبراير كانت محل الوجع في قلب محمد. الوجع الذي لم يسكن ولم يبرد حتى مات دونه. في الذكرى الرابعة لثورة 14 فبراير كتب مغرّداً:
ننزف يا وطن قــدّ الدما اشجون
والآلام فيــــنا تــواســي لالام
معقولة الجرى في شعبك ايهون؟
وينعاد الوجع هالعام، وكــل عام؟
تأثر كثيرا بصاحب الرأس المُفجَّر، قتيل قوات الجيش، الشهيد "أحمد فرحان". يرى فيه رمزاً للشجاعة والإقدام والتضحية، الضرورية لأي تغيير حقيقي. في الذكرى الرابعة لمجزرة سترة كتب متسائلا " ماذا تبقى لنا من مارس أكثر من ذكراه؟". وطالب الشعب البحريني الإيمان بالقضية فقط والابتعاد عن الصراعات حول سقف المطالب "التي لم يعلم أي أحد كيف ستحقق".
وعن المشاركة في انتخابات نوفمبر 2014 التي أطلقت السلطة وإعلامها عليها اسم (العرس الانتخابي)، كتب معتذرا لوطنه:
عذرا بعرسك لم ألبس سوى كفني
كي ما أوقع ذبح الشعب يا وطني
وكل مرتزق قد عدّ عدته
في مجلس العار هذا لا يمثلني
وقد برر مقاطعته للانتخابات بأن القضية لا تكمن في مقاطعة المعارضة فقط وإنما " بقناعةٍ تامةٍ في عدمِ إنجاحِ مشاريع السلطة .. اليوم .. وغدا .. وحين أبعث حيا!"
الشاعر علوي الغريفي، أحد أقرب الأصدقاء للفقيد محمد المخوضر، كتب ينعى صديقه الذي يلتقيه بشكل شبه يومي، ولم يستوعب صدمه فقده المفاجئ بعد:
قبل الرحيل.. تعالَ لي.. لأودّعَكْ
أو قبل أن تمضي أخي.. خُذني معكْ
عُدْ لي وأسمعني القصائدَ كُلَّها
ما زلتُ في شغفٍ أتوقُ لأسمعَكْ
قاسٍ غيابُكَ .. للبقـاءِ بجـانبـي
ما زلتُ أسعى جاهداً كي أقنعَكْ
يا راحلاً وكأنَّ أنفاسي مشتْ
خلفَ الجنازة تبتغي أن تتبعَكْ
أبكيكَ أم أبكي عليَّ.. فأدمعي
للآن ما رجعَت.. تصرُّ لتُرجِعَكْ
هذا شريطُ الذكرياتِ يمرُّ بي
وأقولُ يا موتُ احترِسْ.. ما أسرعَكْ
كذِّبْ مماتَك.. للـ"غديرِ" تعالَ عُدْ
حيّاً.. لتُشبِعها الحنانَ.. وتُشبِعَك
"الموت ليس نهاية، الموت ليس هزيمة، بإمكان أعمالك أن تنتصر لك بعد الموت وللأبد، وبامكان أعمالك أن تكون شر هزيمة ولعنات بعد موتك". هكذا كتب محمد في صفحته في تويتر ذات يوم. هل كان يعرف كم ستنتصر له أعماله بعد موته؟ الانتصار الذي ترجمه زخم فقده بين الناس، وصدمته التي خلّفها رحيله فيهم.