هكذا شاهدتم صورته قبل وبعد.. "سفروت" المثخن بجراح المطاردة: لا أستطيع التنفس خارج وطني
2015-05-11 - 1:36 م
مرآة البحرين ( خاص): في 27 ابريل، أعلنت وزارة الداخلية عن القائها القبض على 28 شخصاً ممن أسمتهم (عناصر إرهابية) في عملية نوعية، بينهم محكومون بالمؤبد. ونشرت أسماء وصور عدد من المعتقلين. كانت الصور صادمة للناس. تفاجئوا بوجوه غير التعذيب ملامحها، وظهر عليها آثار التعب والإرهاق الشديدين. انتشرت في اليوم التالي مباشرة في وسائل التواصل المجتمعي صور المتهمين مكتوب تحتها: قبل وبعد. كانت الصورة الأولى للمعتقل قبل اعتقاله، والثانية صورته المنشورة من قبل الداخلية. عقد المقارنة أفجع الناس الذين لم يصدقوا أن هؤلاء الـ(قبل) هم أنفسهم أؤلئك الـ(بعد).
ربما كانت أكثر الصور التي تألم لها الناس هي للمعتقل حسين أحمد راشد (32 عاماً) الملقّب بـ(السفروت)، فقد بدا في الصورة التي نشرتها الداخلية (بعد) لا يقوى على فتح عينيه الذابلتين من شدة التعذيب وقلة النوم، وقد انطبقت إحدى عينيه بشكل تلقائي وتضخّم أنفه وتورمت شفتاه، في حين أظهرته الصورة الأخرى (قبل) شاباً مفتول العضلات مفعماً بالحيوية والابتسام.
من هو حسين راشد وما حكايته؟
قد تصلح حكاية حسين لفيلم درامي مليء بالأحداث المثخنة بالجراح، لكنه لم ينحن. هو شاب لم يذق الراحة أو الهناء في حياته منذ طفولته. ورغم رهافة أخلاقه التي عرف بها وشهامته وإثرته للآخرين على نفسه، فإن حكايته أصعب من أن تختزل في تقرير صغير، إنها حكاية محفوفة بالألم في وطن يخنق أبناءه بقدر ما يتنفسونه.
اليتيم
لم تكن طفولة حسين عادية، ففي عمر الخمس سنوات فقد والدته، لم يكن يعي حينها معنى اليتم. أخواته الأكبر سنَا عملن على إحاطته برعاية تامة كي لا يشعر بفقد الأم. عاش طفولته وشبابه بين أخوات يغدقن عليه الحب والعطف، لذلك اتسمت شخصيته باللطف والتعاون والمحبة للجميع، وأصبح يميل إلى الجو العائلي الذي يمنحه الاستقرار والسكينة. تعلق كثيرا بأخته الكبرى التي كانت بمثابة الأم الحنون، ومع زواجها شعر باليتم الذي لم يشعر به من قبل. في ليلة زواجها بكى كما لم يفعل طيلة حياته، وكمن فقد والدته للمرة الثانية.
في الثالثة عشر من عمره كان يتماً آخر أكبر ينتظره. توفى والده ليصبح يتيم الأم والأب معاً. صار الأمر أكثر صعوبة على حسين. شعر بفراغ الأم والأب بشكل أكبر وتأثر بفقدهما بشكل ملحوظ. انعكس ذلك على سلوكه أصبح طفلا مشاكسًا كثير الحركة. لم يجد في المدرسة ما يستوعب ظرفه النفسي والشخصي، ولا من يتفهم سلوكه الطبيعي في سنّ حساسة كالتي يعيشها، خرج من التعليم المدرسي مبكرًا في المرحلة الإعدادية رغم حبه للمدرسة والتعلم. تقول أخته "كان متعلقاً جداً بالمدرسة عندما كان في المرحلة الابتدائية، شديد الحرص على توظيب ملابسه المدرسية وحقيبته قبل ذهابه إلى النوم".
السفروت
عرف بين الناس بـ"السفروت"، أصل التسميته ترجع إلى حرصه على الجلوس ضمن الجو العائلي الحميمي، وقد كان يحرص على الاجتماع مع عائلته وقت وجبات الطعام منذ صغره مرددًا " سُفرة، سُفرة" بمعنى هيا تجمعوا على السُفرة لنأكل معًا. أطلقت العائلة عليه اسم "سُفرة" لكثرة ترديده لها. تحولت فيما بعد إلى " سفروت" التي أصبحت كنيته عند كل من يعرفه من الناس.
الاستهداف الأول
منذ العام 2004 بدأ استهداف (سفروت)، اعتقل إثر حادثة "بار لتريسا" الواقع في منطقة قريبة من قرية السنابس. يومها قامت مجموعة من الشباب بالهجوم على وكر لبيع الخمور احتجاجاً وحدثت مواجهات، وهناك تلقى المعتقل الكفيف (علي سعد) طعنة في بطنه على يد مواطن أمريكي. كان (سفروت) هو من قام بانقاذ سعد ونقله إلى قسم الطوارئ بالمستشفى، وبدون أدنى تردد ترك رقم هاتف منزله بعدما رفض المستشفى استقبال سعد بدون رقم اتصال.
في سجن مركز الخميس تعرض حسين للتعذيب الشديد من قبل ضابط كان يعمد إلى إطفاء السجائر في يديه، وقد امتلأت يداه بحروق السجائر، كما صارت مليئة بالجروح العميقة وكأن سكينًا حادة قد شرّحتهما. لم يشتك (سفروت) لأخواته شيئا حينها، كان يخشى عليهن أن لا يحتملن ما يجري عليه، لكن بعد خروجه من السجن أخبرهن بما لاقاه من تعذيب قاس في المركز.
قضية الحجيرة
عندما أصبح حسين شابًا يافعا فطن أهمية التعليم وانعكاس ذلك على حياته، فقرّر إكمال تعليمه المدرسي. التحق بالتعليم المسائي واختار أن يعمل حارسًا ليليًا في حديقة عامة بمنطقة الديه ليؤمن قوت يومه ويضمن انتظامه في الدراسة، لكن آماله تحطمت عندما اعتقل مرة أخرى في العام 2007 على خلفية قضية ما تسمى بـ" الحجيرة".
الدماء المطشّرة على جدران غرفة الحراسة، خير شاهد على ما فعلته قوات النظام بحسين عندما جاءت إلى اعتقاله في مقر عمله بالحديقة العامة. لاقى خلال اعتقاله أشد أنواع التعذيب. عذب بالكهرباء وبالفلقة، كما مارسوا عليه تعذيبا نفسيا بتعريته بشكل كامل ووضع في السجن الانفرادي. بعد عدة أشهر من الاعتقال خرج في 2009 بعفو ملكي قبل أن يصدر في حقه حكم البراءة من التهم التي وجهت إليه.
السجن والتعذيب تركا أثرهما على نفسية سفروت. بعد خروجه من السجن أعد أهل القرية حفل تكريم له وبقية المعتقلين. في تلك الليلة حدث شيء ما زال عالقاً في ذهن أخته، تقول: بحكم علاقتي بحسين طلبت منه تغيير القميص الذي يرتديه. لكن تصرفاً غريباً صدر من حسين أثار تعجب الجميع. قام حسين بتمزيق القميص الذي كان يرتديه ثم لبس ثانٍ ومزقه ثم ثالث ومزقه أيضاً. وقف الجميع مشدوهاً أمام تصرف حسين الغريب وهو المعروف بهدوئه واتزانه واحترامه الشديد لأخوته. اعتذر حسين لاحقًا عن تصرفه وأخبرنا أن ما رآه من تعذيب في السجن جعله غير قادر على التحكم في انفعالاته".
لم يسلم حسين من استهداف الأمن له بعد خروجه من السجن، ظل بعض الضباط يلاحقونه كي يعمل مخبرًا. الأمر الذي رفضه تماما. لكن ملاحقتهم له سببت له ألم نفسي شديد، اضطره إلى تغيير شريحة هاتفه لمنعهم من الاتصال به أو ملاحقته، ومع ذلك لم يأمن. صار ينام خارج المنزل.
بعد 14 فبراير
شارك سفروت ككل الشباب في ثورة 14 فبراير وصار من المداومين على الحضور في دوار اللؤلؤة. لكنه ظل ينام خارج المنزل، لم يكن يسلم على نفسه من الاستهداف. بعد هدم الدوار ودخول قوات درع الجزيرة أصبح من المطلوبين. داهمت قوات الأمن منزل والده الكائن بقرية السنابس منذ الأيام الأولى بعد إعلان حالة الطوارئ. عمدت في اقتحامها الأول إلى تكسير جميع أبواب المنزل. لم يتم إصلاح الأبواب المكسورة منذ حينها. تركت أبواب المنزل مشرعة لمداهماتهم المستمرة طيلة السنوات الأربع الماضية.
لقمة ثريد
صارت المقبرة هي المكان الأنسب لسفروت (حسين) يأخذ فيها قسطًا من الراحة، بعض الأحيان يخلد إلى النوم فوق أسطح بعض المنازل التي كانت تحنو عليه وتأويه، أحيانا بين الأزقة، وعندما يشتاق إلى "سُفرة" أخواته يذهب إليهن بعد التأكد تماما من خلو المكان من المتربصين. في شهر رمضان الماضي اشتهى سفروت تناول وجبة الإفطار مع عائلته، وحين جلس إلى مائدة الشهر الكريم، لم يلبث يضع يده في طبقه المفضل "الثريد"، حتى كانت قوات النظام تحاصر المنطقة، ففر هاربًا فزعًا دونما طعام.
معطف شتاء
وفي موجة برد شديدة في أحد مواسم الشتاء، تمثلت الأخت صورة أخيها المشرّد: كيف يحمي جسده البرد؟ راحت تسأل نفسها. لم تحتمل التفكير طويلاً فخرجت من فورها وقامت بشراء معطف لأخيها. ثم خرجت هائمة على وجهها تبحث عنه. توسلت إلى الله أن تجده. راحت تبحث عنه في المقبرة وفي الأزقة حتى لاح لها. فرحت كثيراً بأن استجاب الله دعاءها. أصرّت على أخيها الذي كان جسده مفتوحاً على البرد، أن يرتدي المعطف أمامها. فعل كما طلبت أخته. لكنه فجأة خلعه وألبسه رفيقه الذي كان يرتجف من شدة البرد، لم تتفاجأ الأخت بما فعل أخيها، فهي تعرف أن ما لديه ليس له.
أتنفس وطني
كان سفروت حريصا على زيارة قبري والديه، والاهتمام بتزيين قبريهما بـ " المشموم"، وقد اختار أن يحتفل بعيد الأم هذا العام إلى جانب والديه فقام يومها بتنظيف قبرهما وزينهما بالمشموم. تفاجأت أخواته حين أتين لاحقاً إلى المقبرة ووجدن المشموم على قبري والديهما. عرفن فيما بعد أنه حسين البار بوالديه رغم أنه لم يرهما من العمر إلا قليلاً.
اتهم حسين في قضية تفجير الديه ومقتل الضابط الإماراتي "طارق الشحّي"، كما نسب إليه قضية تشكيل خلية ائتلاف 14 فبراير، حكم بالسجن المؤبد وإسقاط الجنسية.
خلال الأربع سنوات التي عاشها مطاردا، سنحت له الفرصة مرات للفرار من البحرين، لكنه لم يكن يقبل ذلك رغم ما ينتظر حياته من مخاطر. حدث ذات مرة أن تم تدبير خطة لخروجه من البلاد مع مجموعة من المطلوبين، وبعد أن تهيأ كل شيء، وفي اللحظة التي همّ فيها الجميع بالتحرك، أوقفهم حسين، وطلب إرجاعه قائلاً: "لا استطيع التنفس خارج وطني".
اختفى حسين عن الأنظار في الفترة الأخيرة ولم يعد يرى أخواته لخوفه الشديد من أن يسبب لهن الأذى، خاصة بعد مداهمة منزل إحدى أخواته بعد أن قام بزيارتها، وبعد حادثة الكمين في شارع النخيل والذي أشيع فيه خبر اعتقال مطارد كبير من قرية السنابس اختفى تماما ولم يعد يظهر لأي شخص من أفراد عائلته حتى تم اعتقاله بكمين في 13 أبريل الماضي من أحد المنازل بقرية كرباباد.
بعد الاعتقال
منذ لحظة اعتقال سفروت بدأ سلسلة العذاب التي غيرت من ملامح وجهه تماما. عمدت القوات إلى المرور به في عدة مزارع بزعم أنه كان يخفي الأسلحة فيها. وليتخلص من العذاب الذي فيه كان يشير لهم عند كل مزرعة يمرون عليها، انتهى به المطاف إلى المزرعة التي يعمل فيها أخيه راشد، وهناك تعرف راشد على أخيه حسين الذي كانت الدماء تغطي وجهه. صرخت القوات في راشد: " أين أمه لتراه؟" طأطأ راشد رأسه مجيبأ: "أمه متوفية"، أتاه الجواب سريعاً: " إذن هو سيلحقها".
بعد يومين من اعتقاله لجأت أخواته إلى مبنى التحقيقات الجنائية للبحث عنه، كان مثيرا للقلق صمتهم عندما بادرت أخته بالسؤال عنه، ساد صمت مطبق في المكان ولحظتها تيقنت أخته أن أخاها ليس بخير. تأكد الأمر لهم عندما بلغهم من معتقلين أن حسين تم الاستفراد به واختفى صوته ولا يعلم عنه شيئا سوى استنجاده مرددا " يا رب، يا رب"..
بعد مضي أربعة أيام على اعتقاله وفي يوم الجمعة المصادف 17 أبريل الماضي تفاجأت عائلة حسين بموكب كبير من القوات الأمنية تحيط بالمنزل. أخبرت القوات عائلة حسين أن لديها زيارة له في التحقيقات في اليوم التالي، وأنهم أتوا إلى البيت لأن لا رقم تواصل لديهم معهم. تعجبت العائلة من زعم الشرطة لكنهم كانوا في وضع قلق على أخيهم فلم يترددوا في الذهاب. في اليوم التالي أخبروهم هناك أن من قال لهم بأمر الزيارة كان يكذب عليهم وأن لا زيارة لهم.
اللقاء الأول
عاشت عائلة حسين أيام عصيبة جدا حتى تأكد خبر وصوله إلى سجن جو المركزي، حدد موعد لزيارته في 5 مايو/ آيار 2015، انتظرت العائلة اللقاء بشوق وخوف، فصورة أخيهم التي نشرتها الداخلية قبل أيام تنبئ بحجم التعذيب الذي تعرض له حسين وغير ملامح وجهه.
في يوم اللقاء، دخل حسين على عائلته مثل رجل عجوز، غير التعذيب ملامح وجهه، آثار الصعق الكهربائي لا زالت مطبوعة على معصميه، الضربات والكدمات تركزت في رقبته ورأسه، هزل جسمه واختفت عضلاته التي كان متميزا بها، عيناه تعكس بأنه تلقى عليها لكمات غيرت شكلها. لم يفصح حسين عما تعرض له، فهو لم يعتد أن يؤلم أخواته، لكنه قال بكلمات مقتضبة "شفت الموت سقوني إياه جرعة جرعة".