هكذا رأينا المعتقل علي صنقور: محمولا على الأيدي بحوض مكسور، والسبب.. نسيانه (معلقاً)
2015-04-19 - 4:11 م
مرآة البحرين (خاص): في القاعة المقابلة، اعتلى صوت صرخة مفجوعة تبعها بكاء مرير، انخلعت قلوبنا، رفعنا رؤوسنا فكانت الصدمة. إنه المعتقل علي صنقور محمولاً بين يدي زملائه، لم يكن قادراً حتى على جر رجليه، كان جسده متهالكاً ولا يستطيع الحركة أو المشي. لقد كُسر حوضه. هل تعرفون كيف؟
لقد نُسي معلّقاً في وكر التعذيب (مبنى 10). في هذا المبنى يعلّقون المعتقلين المغضوب عليهم في اليوم مرّات. يعلّقونهم في الباب أو في المروحة لفترة محددة من الوقت ثم يقومون بإنزالهم. لقد نسوا صنقور معلّقاً لساعات طويلة جداً. نعم هكذا ببساطة: نسوه.
أغمي على والدة صنقور من هول مفاجأتها. ضجت العائلة بالندب والبكاء. توقف الجميع أمام هذا المشهد. بكينا بحرقة وجميع من في القاعة. لم نعرف أينا يواسي الآخر. لكن حالة صنقور المفجعة جعلتنا ننصرف عن حال أبنائنا. لقد أخذ قلوبنا كلّها.
بهذا تفتتح عائلة أحد المعتقلين مشاهداتها المؤلمة، أثناء زيارتها لابنها في يوم 12 ابريل 2015. ورغم مأساوية الحال الذي وجدت عليه ابنها وجعلها تنوح ألماً ووجعاً، إلا أن مشهد إدخال صنقور فتّق القلوب بلا منازع.
تتحفظ العائلة على ذكر اسم ابنها خوفاً عليه من الانتقام. لكنها تشعر بواجبها في سرد ما شهدته في ذلك اليوم من حال المعتقلين: "لقد كان يوماً ثقيلاً، مشاهد المعتقلين الذي رأينا حالهم المفجع لا تغيب عن عيوننا".
في الطريق إلى الزيارة
لحظات صعبة وطويلة عاشتها أسرة المعتقل وهي تقطع المسافات الطويلة للوصول إلى سجن جو، اختلطت مشاعر الشوق مع الخوف لديهم فقد حانت لحظة رؤيتهم لابنهم بعد منع امتد لأكثر من شهر ونصف، تصل العائلة وما إن توقف سيارتها حتى تصادف جمعًا من العائلات خرجت لتوها من زيارة ابنائها، وجوهها الكئيبة ودموعها المتحادرة مدرارًا كفيلة بإدراك حجم المأساة التي عاشوها خلال زيارتهم. بعضهم منع من الزيارة والبعض الآخر لم يتوقع حجم التعذيب الذي نال من جسد ابنائهم.
يزداد خفقان قلب كل فرد من أفراد العائلة وهم يبحثون في القائمة عن اسم ابنهم. يكادون لا يصدقون أنهم سيرونه. وما أن يلوح اسمه حتى تعلو الفرحة الوجوه البائسة، نعم هو ابننا وبجانب اسمه (مبنى 10) ما يعني أنه يتواجد في هذا المبنى الذي صار إيقونة للتعذيب الخاص. تتجه العائلة إلى كابينة التفتيش المكتظة. ثم تجلس في قاعة الانتظار الذي يطول ويطول، وبعد عناء يأتي صوت المنادي بأسماء المعتقلين وأرقام كبائنهم. لم يكن من بينهم اسم ابنهم.
طال انتظار العائلة وتأخر موعد زيارتها أكثر من خمس ساعات، خمس دفعات من الزيارة مرّت أمامها، وما زالت تنتظر، كررت سؤالها عن سبب التأخير ولماذا لم يجلب ابنها فكان الجواب الوحيد هو" لا نعلم بأي قسم ابنكم"، أمام ناظر هذه العائلة كانت اللقاءات بين الأهالي والمعتقلين، الآهات والبكاء والنحيب هو المشهد السائد في المكان.
لا أريد الذهاب إلى جحيم الحمّام
أثناء انتظارها، كانت العائلة تتأمل المشاهد التي تحدث أمامها بانكسار شديد. لا تستطيع إسكات دموعها التي لم تتوقف. يكاد يكون جميع المعتقلين الذين يجلبون إلى الزيارة غير قادرين على المشي. أجسادهم مهشمة، جلودهم تلونت بعدد ألوان التعذيب الممارس عليهم، بعضهم لا يدرك ما حوله، غالبيتهم يعيشون حالة هستيرية من الخوف والرعب، وجميعهم (إلا من ندر) دموعهم تنساب بلا توقف، يختنق الجميع بعبرته ويبتلعها فهناك من يترصد لهم لينقض عليهم.
تنتبه العائلة بينما تنتظر لصراخ أحد المعتقلين عندما رأى والدته" أمي ، أمي تعالي انظري ما حدث لي" كان يبكي بحرقة شديدة، ارتمى بحضن والدته التي تجلدت صبرًا في محاولة لتهدئة ابنها، هذه الوالدة لم تستطع الجلوس فطوال مدة لقائها بابنها كانت تروح وتجيء محملة بالطعام لابنها من الدكان الموجود هناك. بدا واضحًا أن الجوع قد نال منه فوق مناله.
بعض الأهالي قاموا بشراء وجبات خفيفة لأبنائهم من الكافيتريا المخصصة هناك، إذ لا يسمح لهم إحضار طعام من البيت. كان التفاوت في ردود فعل المعتقلين غريباً. بعضهم راح يهجم على الطعام بشراهة المفجوع الذي لم يأكل منذ عام، تناول أحدهم كمية مضاعفة بخمس مرات عن الكمية التي اعتاد تناولها في العادة. لكن آخرين كانوا على العكس من ذلك، فقد امتنعوا عن تناول أي لقمة من الطعام، وكانوا يجيبون أهاليهم حين يسألون عن سبب عزوفهم: "الأكل يعني الحاجة لدخول الحمّام، والذهاب إلى الحمّام يعني جحيم آخر لا يطاق. لا أريد طعاماً.. لا أريد الذهاب إلى الحمام".
بيقتلون المحفوظ، بيقلتون الشمالي
عائلة المعتقل علي هارون الذي تم إحضاره من تايلاند عن طريق الانتربول الدولي، ظلت ساعات تنتظر وتلح على رؤية ابنها، كان واضحًا غياب والدته بينهم فقلبها حتمًا دلّها بأن ابنها لن يكون بخير، وبعد ساعات من الانتظار ساد الذهول، توجهت أعين الحضور نحو علي، أتى محمولاً هو الآخر مكسر الأضلاع، مهشم العظام، غيّر التعذيب ملامح جسده النحيل. يتمتم لعائلته وقلبه مفطور من شدّة ما يرى "بيقتلونا، بيقتلونا، بيقتلون الشيخ المحفوظ، بيقتلون محمد الشمالي". يؤكد لعائلته أن التعذيب الذي لقيه في التحقيقات الجنائية عندما جلب من تايلند لا يساوي شيئاً أمام ما يلاقيه الآن.
إخوة ستّة وأمّ ذائبة
في جانب آخر، ثمة أم تنتظر زيارة ابنائها الستة. نعم ستة مرة واحدة. كان وجهها يرسم أعماراً فوق عمرها. خطوط تجاعيد مشحونة لا بالزمن، بل بالألم. كادت روحها أن تزهق وهي تنتظر فلذاتها الذين استودعتهم رحمة الله. يدخل الأخوة الستة، وقبل أن يلتفتوا لوالدتهم يلتفت كل منهم إلى الآخر، بالكاد يتعرّف كل واحد منهم على الآخر، إخوة في سجن واحد لا يرى بعضهم بعضاً ولا يدري أحدهم ما حال أخيه، يبدؤون بعناق بعضهم والدموع تفيض من عيونهم المنتفخة. تطالعهم أمهم وتبكي حسرة قبل أن ينكب الجميع عليها باكين.
أب لا يعي وجود ابنته
طفلة بريئة تنتظر رؤية والدها. يدخل فتُصدم: ماما.. هل هذا بابا؟ تغيرت ملامح والدها كثيرًا عن الزيارة السابقة، صار أكبر عمرًا، غزا الشيب كامل شعره، نادته ( بابا، بابا) لكنه لم يكن ملتفتاً بحواسه نحوها، ولم يستقبلها استقبال الأب الحنون الذي كانت تنتظره، كان واضحًا عليه بأنه لم يكن في وعيه، ولا يدرك ما يدور حوْله، ولا سبب وجوده في هذا المكان. أجلسه الشرطي على الكرسي عنوة، ولا يُعلم إن كان قد استطاع البوح بما يعانيه لعائلته أم لا.
الرعب سيّد الكلام
لم ينفد صبر العائلة رغم االممارسات الاستفزازية التي واجهتها من المسؤولين هناك. كأنهم يعتزمون بعث اليأس في العائلة وجعلها تنصرف يائسة. لكن العائلة بقت متماسكة لم تنفعل ولم تنجر إلى فعل يودي بها إلى إلغاء الزيارة التي انتظروها طويلا. لمحت العائلة شخصًا يدخل، كان بادياً عليه أنه مسؤول رفيع، بادرته بشرح ما حدث معها طوال اليوم، بجرة هاتف، أحضر المعتقل.
صعقت العائلة حين رأت ابنها، زاد عمره عشرة أعوام، بدا شاحب الوجه، مصفر اللون، يداه ترتعشان، قواه منهاره لايستطيع المشي، كأن أضلاعه تكسرت بالكامل، يتكئ على أحد فخذيه لأنه لا يستطيع الجلوس معتدلاً. صوته كان خافتًا، دموعه تنحدر رغمًا عنه، يتلفت يمينا وشمالا، الخوف والرعب هما أول كلامه وآخره.