ساحة الشرفاء: لافتات الكراهية (5)
2011-11-03 - 9:37 ص
مرآة البحرين (خاص): في الحلقة السابقة، رأينا كيف تم التصعيد باتجاه حرب طائفية بدعم رسمي من قبل رئيس الوزراء، وشرعي من قبل الشيخ المحمود. وكيف عمل الأمن على حماية الجماعات المسلحة التي انتشرت عند مداخل المناطق السنية، قبل أن يتم استخدام (البلطجية) لمهاجمة الشيعة في مناطقهم. وشهدنا معاً توثيق عدد كبير من حالات الاعتداء بالأسلحة البيضاء والنارية خلال الفترة 10-15 مارس، يشترك المُعتدى عليهم في أنهم جميعهم من الشيعة.
على الطرف الآخر، لم يتم تسجيل حالات اعتداء جسدي من قبل محتج شيعي على آخر موالٍ سني، ولا هجوم من محتجين على محل تجاري أو مؤسسة أو مقر جمعية أو صحيفة خاصة بالموالين. فرغم كل خطابات الكراهية والتحريض والتزييف التي كانت تنفثها هذه الجهات، لم يتم رصد أية حالة اعتداء طائفي من طرف المحتجين الذين كانوا يصرون على مقابلة كل استفزاز طائفي بهتاف: إخوان سنّة وشيعة هذا الوطن ما نبيعه.
وفيما عدا الاشتباكات التي وقعت مع البلطجية (من غير أصول بحرينية)، عندما هاجم هؤلاء أهالي المناطق الشيعية وتسببوا في إصابات مختلفة، لم توثق حالات مواجهة من طرف المحتجين. لهذا لم يتمكن تجمع عبد اللطيف المحمود المتصدر لفتوى القتال، رغم جهوده الحثيثة في إيهام الشارع السني باستهدافه من قبل المحتجين، ورغم حملته التي قضى فيها أشهر، يعمل على ما أسماه "توثيق الشكاوى الخاصة بالمتضررين من الأحداث"، لم يتمكن من تسجيل انتهاكات تدين المحتجين من الشيعة ضد الموالين من السنّة، إلا ما وصفها مؤتمرهم الصحفي بحالات الاكتئاب النفسي والتبول اللاإرادي (1).
■ نهاية الدور الأول
عودة إلى ساحة (الشرفاء) في البسيتين، ففي الحلقات الماضية تعرفنا طبيعة الدور الذي كان مرصوداً لساحة الشرفاء أن تقوم به قبل تاريخ 16 مارس، حيث هاجمت قوات درع الجزيرة الدوار وقامت بإخلائه قبل إزالته نهائياً.
بعد إقرار قانون السلامة الوطنية وتصدر قوات درع الجزيرة العربية للمشهد الدموي، انتهت عملياً مهمة سيوف الكراهية، كانت مهمتها تتلخص أن تقود البلاد إلى فوضى طائفية عارمة، تبرر إقرار قانون السلامة الوطنية ودخول قوات درع الجزيرة. إظهار الفوضى أنها بداية حرب طائفية تسببت فيها الحركة الاحتجاجية حتى تظهر الدولة وكأنها مضطرة إلى التدخل الفوري والأمني، لمنع وقوع حرب أهلية. وهو ما حدث بالفعل. كان هذا الدور هو المطلوب من ساحات الكراهية في مرحلتها الأولى.
الجمعة 18 مارس/اذار 2011، وبينما كانت الجرافات تزيل دوار اللؤلؤة، يعلن وزير الخارجية في مؤتمر صحفي عن إشاعة المحتجين للفوضى والرعب: "مجموعات لم تعترف بالنظام السياسي والشرعي في مملكة البحرين قامت بإشاعة الفوضى والرعب في قلوب المواطنين الأبرياء وذلك بقطع الطريق وإيذاء المارة والاعتداء على الطلبة الأبرياء في المدارس وفي جامعة البحرين وإقامة الحواجز وحمل واستخدام مختلف أنواع الاسلحة والآلات الحادة ضد المواطنين ورجال الامن ما جعل الأمر صعبا لا يحتمل وبناء عليها أصدر جلالة الملك المرسوم رقم 18 للعام 2011 بقانون السلامة الوطنية وذلك لتوحيد الجهد في إعادة الأمن والأمان والاستقرار إلى مملكة البحرين بكل أنحائها" (2)
وزير الدفاع المشير خليفة بن أحمد يؤكد الفوضى والتخريب التي ينسبها إلى المحتجين: إنهم مجموعة من المخربين والخونة وما قاموا به من شر بحق وطنهم هو ثورة نحو الفوضى وانقلاب على الدولة بجميع مؤسساتها، فهي مؤامرة لقلب نظام الحكم في البحرين واعتداء سافر بالضرب والقتل بصورة وحشية على العزل من المواطنين والمقيمين في مملكة البحرين. (3)
الشيخ المحمود يؤكد عن عدائية المحتجين: هذه العدوانية تمثلت فى أشياء كثيرة أولها العداء الشخصى الذى أظهره هؤلاء المنتمون للمعارضة الشيعية لأهل السنة قاطبة فى جميع المراكز البحرينية فى الوزارات، ثم انتقلت إلى مرحلة أكثر عدائية عندما سيطروا على مجمع السلمانية الطبى وجعلوه مركزا من مراكز المعارضة لإدارة المخطط الذى يريدونه. (...) كانت الصدمة التى مر بها أهل السنة صدمة كبيرة عندما اكتشفوا عداء الشيعة الواضح لهم ودون مبرر بينما لم يصدم أهل الشيعة لأن هذا العداء كان موجوداً فى نفوسهم ناحيتنا وأظهروه فقط.(4)
وكمن لا دخل له يخبر عن الحرب الأهلية، "البحرين دخلت في أزمة كبيرة كادت أن تصل بها الى حرب أهلية" (5).
هكذا إذن تمّ تجهيز المقدمات المرصودة لتبرير المعالجة الهمجية التي ستأتي فيما بعد، إشاعة الفوضى والتخريب وترويع الآمنين والحرب الأهلية والعدائية والانقلاب على الحكم، إنها فعل الشيعة في أهل السنة. وأنه لا بد من التطهير والتنظيف والإزالة، المصطلحات الرسمية الممنهجة التي بدأ تداولها منذ تاريخ 16 مارس عبر بيان الداخلية.
لهذا كان لا بد لساحة الشرفاء أن تغير طبيعة دورها، لا مهمتها. المهمة ستبقى ثابته: توطين الكراهية. لكن الطرق ستختلف، كيف تحول دورها إذن بعد هذا التاريخ؟
■ الدور الثاني
خلال الاسبوع الأول من القمع الوحشي للحركة الاحتجاجية في الدوار التي انتهت بإزالته، واحتلال جيش درع الجزيرة لمستشفى السلمانية، وُضعت لافتة في ساحة البسيتين، موقعة باسم: ساحة الشرفاء/ البسيتين. تقول اللوحة، نبارك لشعب البحرين على:
مطالب ساحة الشرفاء |
✓ تطهير مستشفى السلمانية
✓ إقالة وزيري الصحة والإسكان (شيعيان الأصل)
✓ إزالة الدوار
✓ وننتظر المزيد والمزيد..
كانت هذه اللافتة، ملفتة على غير العادة، بل صادمة. تعوّد البحرينيون أن يروا لافتات الولاء والتبجيل والتعظيم لرموز الحكم في الشوارع العامة، تعودوا على لافتات التهنئة وربما التملق والترويج، تنشط أكثر عند المناسبات، لكن ما لم يسبق للشعب البحريني الذي عرف بالطيبة والتسامح والتعايش أن يرى في شوارعه لافتات كراهية. لافتات يتشفى فيها بعض الشعب على ما يصيب بعضه الآخر من تعرض للقتل والاعتقال والتنكيل والتهديد، أو يطالب فيها بعض الشعب بالنيل من البعض الآخر لأنه طالب بحقوق ديمقراطية مشروعة. أن تُنصب لافتة في شارع رئيسي عام، تبارك الهجوم الانتقامي من السلطة ضد محتجين سلميين من شركاء الوطن، فهذه سابقة دخيلة وغريبة، وأن تطالب هذه اللافتة بالمزيد والمزيد ضد المحتجين، فهو أمر صدم ليس فقط الشارع الشيعي الذي كان مقصوداً بالتعزير، بل الشارع السني المعتدل أيضاً.
لم يقف الأمر عند هذه اللافتة الصادمة، أيام قليلة أخرى، وستلحق بها لافتة أخرى، تحمل التوقيع ذاته، هذه المرة تتضمن مطالب. مطالب (الشرفاء) من الحكومة ضد (الخونة والانقلابيين). لا تتعجب حين تعلم أنه في حالتنا هذه، فإن من يطلق عليهم الخونة هم من يطالبون النظام بتفعيل مبدأ الشراكة المجتمعية وتمكين الشعب من انتخاب حكومته، أما الشرفاء فهم من يطالبون النظام أن لا يمكّن الشعب من انتخاب حكومته وأن يضرب بيد من حديد على كل من تسوّل له نفسه المطالبة بتمكين الشعب، فلا تتعجب من هذا القلب.
سترى لافتة من الحجم الكبير، تتصدر واجهة الشارع الرئيسي المقابل لساحة الشرفاء تقول: نطالب الحكومة بأقصى العقوبة. ثم يوضع في صدر اللوحة: لا للعفو، عن رؤوس الفتنة والفئة الضالة. وفي جانب اللوحة تتدلى صورة مشنقة. هل قلنا مشنقة؟ نعم مشنقة. وفي طرف اللوحة يجلس التوقيع: ساحة الشرفاء/ البسيتين.
بجانب هذه اللوحة، تجلس لوحة أخرى أصغر منها كتب عليها عبارة رئيس الوزراء المشهورة: لن نقول عفا الله عما سلف. وهي العبارة التي أشرعت النار على طائفة بأكملها، وشرّعت لكل من امتلأ قلبه بالكراهية أن يستند إليها في كل ما يفعل. وصارت لازمة على ألسنة إعلاميي السلطة وعبيدها ومواليها واتباعها، وفتحت أبواب التنكيل والاعتقال والتعذيب وقطع أرزاقها. صارت هذه العبارة شعار مرحلة التطهير. تطهير البلد من كل من احتج وطالب بتنحي رئيس الوزراء عن كرسيه الذي صار عليه أكثر من 40 عاماً. لن نقول عفا الله عما سلف: لم تكن (لا عفو) عن جريمة أتى بها المحتجون، بل عن خط أحمر تجاوزوه في نظام القبيلة.
وبينما كانت لوحات الشرفاء تنصب مشانقها وتطالب بالحكم بالمشنقة دون غيرها، كانت السجون تمتلئ بمئات المعتقلين الذين تمت مداهمة بيوتهم في أنصاف الليالي، معتقلون من كل الفئات العمرية والمهنية، أطباء ومعلمين ورياضيين وسياسيين وطلاب مدارس وجامعيين وغيرهم. هستيريا الانتقام وحدها كانت سيدة الموقف بلا منازع، قوات درع الجزيرة تعيث في الشوارع تدجيجاً، المناطق محاصرة ومكبلة بنقاط تفتيش تتعمد إذلال كل من يمرّ عليها من الشيعة ويتمّ نهب أموالهم وضربهم وتحقيرهم بالشتائم والإهانات واللعنات. ثم تأتي لوحات الكراهية لتضيف إلى هستيريا الانتقام، هستيريا كراهية أكثر، فكأن الوضع كان بحاجة إلى تحريض أكثر، وكأن هناك خوفاً من أن يقل سقف انتقام الدولة عن سقف كراهية السلف، كان لا بد من لوحات المشانق، لتوجيه الحكومة نحو ما قد يُنقص أحكامها عن سقف الإعدام.
إنها الفرصة التي طالما انتظرها السلفيون (لا أهل السنة)، الحاقدون علـى الشيعة لسبب طائفي، نشط ظهورهم وعلا صوتهم منذ 7 مارس، وجدوا لأنفسهم فرصة الخروج بسيوف الكراهية، قبلها لم يكونوا يجرؤون على البوح بنواياهم القتالية في مجتمع متعايش مثل البحرين. لم تعد هناك حاجة للاستعانة بقوى الجهاد الأفغاني من السعودية كما اقترح بعضهم من قبل (6)، فقد قامت الحكومة بالاستعانة بقوات درع الجزيرة التي أتت لتقوم بمهمة الإبادة ذاتها.
■ استئصال
أيام وتعلق لوحة أخرى تمعن في تأصيل الكراهية أكثر وأكثر، تتضمن صور 5 قيادات سياسية معارضة: حسن مشيمع وعبد الوهاب حسين ومحمد المقداد وإبراهيم شريف وعبد الجليل السنكيس، وصورة سادسة مموهة مكتوب عليها وآخرون. عنوان اللافتة: يجب استئصال البؤر المريضة من جسم الوطن. جاءت هذه اللافتة بعد أيام قليلة من اعتقالهم، وقبل أن يتم توجيه تهماً جنائية لهم، وقبل أن يتم التحقيق معهم بشأنها، وقبل أن يتم تقديمهم للمحاكمة.
هذه المرة اللافتة لم تحمل مباركة ولا شماتة ولا طلباً، بل فرضاً بالاستئصال النهائي والقاطع: "يجب". تأت هذه اللوحة لتعلم القضاء ما يجب عليه أن يفعل، أن يستأصل لا أن يحاكم بعدالة القانون. الاستئصال في اللغة هو قطع الأصل. وقطع أصل هؤلاء المرصودة صورهم يتم إما بالاعدام، أو التهجير، أو سحب الجنسية كما طالب النائب السلفي (جاسم السعيدي) حينها.
فرض الاستئصال من قبل الشرفاء سبق النطق بالتهم، وسبق التحقيق، وسبق المحاكمة. في منتدى مملكة البحرين الموالي للحكم، استنكر أحد المشاركين نشر الصور في الشوارع بهذه الطريقة: "أقول محد له حق يخلي أي صوره شخصيه بالشارع سواء سني او شيعي . والي نشر الصور آنه اقوله ترضى حد يخلي صور أبوك أو احد ينسب لك بالشارع كلش موب عدله..لا تثيرو الفتن الطائفيه.. احنه السنه وهم الشيعه كلنا من نفس الوطن.. الله يهدي الجميع" (7)، لكن هذا المعتدل لم يسلم من ازدراء واستفزاز المؤيدين لاستئصال الشيعة بالكامل.
خطاب الاستئصال |
ستلقى اللافتات ترحيباً حاراً سريعاً من قبل السلف الذين يضعون صور بن لادن لوازم تعريفاتهم. تكتب إحداهن: "أياليت كل منطقة سنية اتسوي مثلهم .او عندي اقتراح ليش رجال البسيتين ايحطون في كل منطقة مو مشكلة بنساعدهم على طبعها الان اللي في منطقتنا حاطين بس لوحة وحده بس لازم انكثر منها على مايقولون كثر الدق" (8)، سريعاً ما تلقفت المناطق السنية الأخرى فكرة لافتات الكراهية، فنشرتها بكثافة مرضية في كل من الرفاع ومدينة حمد تحديداً، وهي المناطق المعروفة بتكاثر السلف فيها.
الكراهية تعرف طريقها إلى الانتشار سريعاً، وتعرف الأبواب التي تطرقها جيداً، لكل شيء مخازن، ومخزن الكراهية قلوب وضعت الطائفة محل الوطن. ستنتشر ظاهرة اللافتات عند مداخل المناطق السنية والمختلطة. جميع اللافتات متشابهة حد التطابق وكأنها تصميم موحد يتم تعميمه. تتطابق اللوحات في سيوفها ومشانقها وأقصى عقوباتها واستئصالاتها. لا أحد يعرف من يضع هذه اللافتات من أهالي المنطقة. يستيقظ الأهالي صباحاً على لافتة عند مدخل منطقتهم تتقدمهم بالسيف المُعد لحموة الاستئصال. لا أحد يجرؤ على السؤال من وضع هذه اللافتة. لا أحد يجرؤ أن يقول إنني من هذه المنطقة وأرفض أن توضع باسم أهالي المنطقة. لا أحد يجرؤ في وقت كانت الهستيريا وحدها هي الحاكمة في كل المكان، والناس تنام ليلها متأهبة لمباغتة الفجر.
في الصدمة الأولى لن يستوعب الشارع المعارض حجم الكراهية التي ظهرت بغتة. ولن يستوعب كيف يمكن لشريكه في الوطن أن يحمل نحوه كل هذا القدر من الحقد والكراهية. لكنه سيفهم اللعبة سريعاً، وسيمتص الصدمة وسيكمل. نعم، لقد تمت إزالة لوحات الكراهية التي جعلت وجه البحرين كريهاً أمام كل العالم. تمت إزالتها بعد أشهر السلامة الوطنية، لكنها أزيلت بعد أن صورها الصحافيون الأجانب ونقلوها إلى كل العالم، وبعد أن استنكرها العالم واستنكر على الدولة السكوت عن كراهيتها. لكن هل كانت اللوحات هي كل ما ابتكرته ساحة الشرفاء أم لا تزال هذه الساحة تبتكر أشكال الكراهية بصنوف مختلفة كل يوم؟ الحلقة القادمة.
هوامش:
- مرآة البحرين:تجمع الوحدة يفشل في توثيق حوادث جدية تدين المحتجين: كل شكاوانا "نفسية"!.
- وزير الخارجية الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة، خلال مؤتمر صحافى عقده الجمعة ( 18 مارس/ آذار 2011).
- المشير القائد العام لقوة دفاع البحرين في لقاء أجرته معه صحيفة "الراي" الكويتية ونشرته وكالة أنباء البحرين (بنا).
- مقابلة في جريدة (المصري اليوم) مع عبد اللطيف المحمود تحت عنوان: أمين عام تجمع الوحدة الوطنية: شيعة البحرين يسعون لإنشاء دولة شيعية تابعة لإيران.
- برنامج مقابلة خاصة في تلفزيون العربية مع رئيس تجمع الوحدة الوطنية في البحرين
الشيخ عبد اللطيف آل محمود.- انظر ساحة الشرفاء: صليل سيوف الكراهية(2) من ساحة الشرفاء.
- منتديات مملكة البحرين.
- منتديات مملكة البحرين.