أنا الصفوي المجوسي الكافر: ذاكرتي محروقة وأريد الديموقراطية

عادل مرزوق - 2011-10-08 - 9:41 ص



عادل مرزوق*

فلنعد بالذاكرة للوراء، إلى أكثر وأشد أيام العقد التسعيني مرارة وقسوة. في ذلك الوقت، لم يكن الشباب المضحي  مع الشيخ عبدالأمير الجمري ورفاقه يمثل الأكثرية المطلقة في جمهور الدولة أو المعارضة على حد سواء،.كثيرون من كانوا يتسترون خلف عبارة/عباءة "دعونا نعيش". لكن، هل كانت هذه العبارة ومن يتكأ عليها مفصلية في أي حقبة من حقب التاريخ؟، بالتأكيد لا. كان أكثرية الفرنسيين – 80 % - على موقف مضاد من صحف ودعوات المقاومة الفرنسية إبان احتلال هتلر لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، كانوا يقولون العبارة ذاتها: "دعونا نعيش". والسؤال: من صنع فرنسا؟، من حقق لشعبها المجد والعزة؟، ومن خلد التاريخ بأحرف من نور؟ لقد خلد التاريخ أولئك الثوار الذين ضحوا بأرواحهم، الذين صنعوا الثورة، الذين حققو لشعبهم الحرية والكرامة.

اليوم، وقد أصبحت للأزمة السياسية في البحرين معان ودلالات أكبر مما كانت تحمله "الحركة المطلبية" في التسعينات. واليوم، وقد بلغت همجية السلطة، وبربريتها، وقمعها اليومي لهذه الحركة السلمية، ما لا يطاق، أو يحتمل، ضمن مشروع ابادة جماعية واضح ومفضوح، لا يبدو أن الطريق خلال المقبل من الأيام ستكون ممهدة لتسوية شكلية تماثل ما حدث في العام 2001. فلم يعد في أرصدة الناس ما يفي للمرور من ذاكرة هذه الجرائم، والدماء المسالة ظلماً وعدواناً، أمام عيون العالم أجمع.

ليست الدماء التي روت دوار اللؤلؤة وطرقات قرى البحرين وأزقتها، ليست الكرامة المهدرة في الوزارات والمؤسسات والشوارع والمراكز الأمنية، ليست الحقوق المسلوبة، ليست الأعراض المنتهكة للنساء في السجون والمراكز الأمنية، ليست كل تلك الجرائم تركة تنسى. أو مجرد حوادث عابرة أو تصرفات شخصية يستطيع أن يحسمها هذا الطرف أو ذاك على مائدة حوار تقدم فيها التنازلات وتجنى الأرباح المحتملة. وللتاريخ، ليس الحل بيد الوفاق ولا غيرها من التنظيمات السياسية داخل البحرين أو خارجها. فالخسارات التي تراكمت في بيوتات البحرينيين أعمق من أي حاكمية لتنظيم سياسي، أو لعبة سياسية، أو أي حسابات إقليمية أو دولية، لهذا الطرف أو ذاك.

هذه دماء شعب يقف اليوم على مفصل من مفاصل التاريخ بكل أنفة وعزة، هذه دماء شعب تجرع الصبر حتى فاض به الكيل، فلا حلول ترقيعية مقبولة، ولا مهادنة، ولا تنازل عن حق الناس في تقرير مصيرهم بأنفسهم في مصالحة وطنية لن تمر دون محاسبة من غاصت يداه في الجرائم، وقتل الأبرياء، وانتهاك الحرمات والأعراض. وكما أرادت الدولة لهذه الأزمة منذ بدايتها، فليكن مسرح الاحتمالات والحسابات والرهانات مفتوحاً كما تريد.

جاهل قبل أن يكون واهم، ولا يدرك حجم الخسارات والحرقة التي تعتصر النفوس، من يعتقد أن تسوية ما تستطيع أن تعود بالبحرين لما كانت عليه. أما ربط البحرين بباقي الملفات الإقليمية، خصوصاً بالجارتين الكبيرتين ايران والسعودية، أو حتى عبر اقترانها بالأزمة الراهنة في سوريا، فلن يستطيع أن يفرض على هذا الشعب القبول بتسوية هزيلة، قد يفرضها الراعي الأمريكي في آخر العام من باب: "فليبقى الحال على ما هو عليه"، أو "هذه، بتلك".

إن هرج لدولة وإعلامها في "أيرنة" هذه الثورة أو "لبننتها" لحساب ايران أو لبنان لن يجدي. والكذب اليومي في وسائل الإعلام وقلب الحقائق للفت الأنظار عن تفاصيل حرب الإبادة الناعمة والعقوبات الجماعية التي تمارسها السلطة لم يعد يساوي شيئاً أمام عزيمة هذا الشعب، المتشبث بمطالبه المشروعة في إنجاز دولته المدنية الحرة والديمقراطية. دولة الكرامة، ومكافحة التمييز، والتصدي للامتيازات الطائفية.

وأقولها مرة اخرى، ليست هذه الحركة الشعبية منجزاً "وفاقياً" فتكون الوفاق الشغل الشاغل للمؤسسة السياسية في السلطة أو إعلامها العاجز المتخبط. وليست منتوجاً لأي حركة سياسية أو أي دكان من دكاكين السياسة في البحرين فتعتقد أن مشيمع أو عبدالوهاب من يمثلون وقودها، وليست منجزنا - نحن الإعلاميين والصحافيين - فتتهمنا عبر أجهزتها الإعلامية بالعمالة لقوى الخارج أو حزب الله اللبناني أو أمريكا، لم يكن أحد من هؤلاء من أوقد شعلة الرابع عشر من فبراير. وعليه، ليس بيد أي أحد من هؤلاء أن يعلن اليوم نهايتها عبر تسوية ما تقدمها الدولة لأي طرف من الأطراف.

حركة 14 فبراير هي ثورة الشباب المقهور الموجوع، ثورة الساكنين في البيوت الآيلة للسقوط، ثورة القوائم التي انتظرت القوائم الإسكانية لعشرات السنين، ثورة الذين استهدفهم تقرير البندر بملايين الدنانير في أقذر مشروع إبادة جماعية باردة عرفه العصر الحديث، ثورة الموجوعين المحرومين المثقلين المتعبين المستهدفين من سياسات التمييز والإقصاء، ثورة الشباب الذي أعاد الحسابات، وأعاد توزيع الأوراق رغماً عن السلطة وعن دكاكين الجمعيات والتنظيمات السياسية والنخب السياسية والاجتماعية والإعلامية معاً، داخل البحرين وخارجها.

هل بالغت السلطة في القمع والأذى والتنكيل بأبناء هذا الشعب؟، هل أرهقت الأنفس من حجم الخسارات والدماء المسالة على الأرض دون رحمة؟ نعم، ولن نكابر فالجرح في كل بيت من بيوتاتنا ينزف دماً. لكنها لم تستطع أن تصنع لأزمتها حلاً، أو مخرجاً، بل أضافت لأوضاعها المتأزمة سياسياً واقتصادياً، ذاكرة وطنية محروقة، وشرعية سياسية مفقودة، ولقد أجاد الإعلام الرسمي ورموز القوى الإسلاموية المتطرفة تغذية هذه الأزمة وتضخيمها كل يوم. والأهم من كل ذلك، أنها وضعت أبناء البحرين أمام خيارين اثنين، لا ثالث لهما: "يكون" أو "لا يكون"، والشعوب هي قوة وامتداد وعزيمة لا تموت، لأنها الحقيقة المطلقة، لا الطارئة. لانها البقاء الدائم، لا المؤقت.

راهنت الدولة على طأفنة حركة 14 فبراير أولاً، وعلى تدويلها ثانياً. ونجحت بامتياز في الوصول لمبتغاها عبر استثمار آلتها الإعلامية التي لا تجيد غير ذلك، وعبر أولئك الذين سحق الدينار البحريني آخر ما تبقى في أنفسهم من وطنية ومحبة وسلام وكرامة. لكن، هل استطاعت تطويق حركة الشارع، أو تجميدها، أو الإجهاز عليها؟، هل استطاعت أن تستعيد أو تعيد "رتم" حياة الدولة الطبيعية المستقرة؟. لا. بل ازدادت حركة الشارع قوة ونبضاً بالحياة، ولا تزال غرفة العمليات في وزارة الداخلية تعمل على مدار الساعة بكل طاقتها لتطويق ما يشهده الشارع من أزمات وثبات على المطالب العادلة. ولا تزال المنظمات والهيئات الدولية والحكومات الديمقراطية حول العالم تصدر بيانات وتصريحات الإدانة والاستنكار لمؤسسة الحكم كل يوم. ولا تزال البلاد تزف شهداءها بالقلوب المتعطشة للحرية والديمقراطية إلى حيث يرقدون بسلام آمنين.

لا تزال الأنفس تواقة للحرية، سامية فوق التسميات والاتهامات والتلفيقات.أقولها للتاريخ: ليتخير إعلام السلطة من الأسماء ما أراد، فليسمي الناس: خونة/ مخربون/ ايرانيون/ شيعة/ كفار/ مجوس/ صفويون/ حزب الله اللبناني/ حزب الله البحريني/ حزب الشيطان/ حزب الدعوة. فلقد أحرق هذا الشعب ذاكرته، ولم يعد يكترث لتسمياتكم. يقرأ ويسمع العالم شعار "سلمية" بوضوح، ويرى بعينيه من يطلق الرصاص، ومن يقتل، ومن يعذب، ويتفهم المجتمع الدولي كله من لا يطلب أكثر من صندوق شفاف للاقتراع، قبالة من يبذل جهده للمطالبة بالديكتاتورية، ونصب مشانق الإعدام، وإطلاق الرصاص.

هل يسقط البعض في الاختبار؟ نعم. فللنفوس قدرتها على التحمل والصبر، لكن في ساعة الحرية، سيخلد التاريخ من لم تزحزحهم الأزمات، سيخلد الذين مروا من أوال بكل شموخ واعتزاز، من علي مشيمع إلى أحمد القطان. هؤلاء هم وقود الثورة، واقعها، مستقبلها. وحقيقتها، ولسنا نحن.

* كاتب بحريني.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus