شعوب لا تشبع وأنظمة لا تسمع

محمد نجم - 2011-09-11 - 1:38 م



محمد  نجم

على النقيض مما نظن فالشعوب بنت كلب ولا تشبع. وفي كل حكايات الربيع العربي والعالمي فالناس تثور بقدر ما تعطى من الحريات لا بقدر ما تحرم منها. في جميع الثورات بلا استثناء وجدنا الشعوب تتحرك بقدر ما يكون هناك هامش أوسع نسبيا من سابقه للحرية والمجتمع المدني والرأي والتعبير.
لذلك كم يبدو الحاكم غبيا وخارج الزمن وهو يقول لشعبه ألم أفعل لكم كذا وكذا. ألم أعطكم المزيد من الفسحة والحريات. ألم تروا منذ عهدي تزايد مساحة الشفافية و تداول القوة بين مؤسسات المجتمع.

والحق إن ذلك نعم. وما يقوله الحاكم صحيح. إلا أن غباءه يتمثل في أن هذه المساحة من القدرة التي تصبح في يد الناس هي في الحقيقة مبرر للثورة لا مبررا لعدمها. إن المزيد من الشفافية والحريات العامة سبب لطلب المزيد منها ولطلب التغيير السياسي.

نستطيع هنا ضرب كثير من الأمثلة على ذلك. فحين جاء غورباتشوف إلى الاتحاد السوفيتي بالبيروستريكا والغلاسنوست ومعناهما إعادة البناء والشفافية ظن للوهلة الأولى أن هذا كان يجنب النظام الشمولي نهايته من خلال إصلاحه لكن الحقيقة أن هذا عجل بنهاية النظام حين شعر الناس أن الحكاية يمكن إعادة كتابتها من جديد وبأبطال مختلفين.
 
إن النص البشري غريب حقا، فما أن يشعر الكاتب أن بإمكانه استخدام مفردات جديدة وحبكة جديدة حتى تشتعل الرغبة في الكتابة وليس العكس.
 
وحتى في أمثلة تونس ومصر والبحرين وسورية واليمن وليبيا، الحقيقة أن هذه الدول كانت قد بدأت تشهد في الفترة القريبة السابقة على ثوراتها تطورات واسعة ومتقدمة نسبيا إذا ما قورنت بالعهود السابقة عليها على مستوى الحريات العامة والشفافية وتشكيل منظمات المجتمع المدني.

وإذا ما أخذنا حمد الثاني وبشار ومحمد الخامس وعبد الله الثاني لأمكن القول أن هذه الدول الأربع منذ بداية القرن الحادي والعشرين وهي البحرين وسورية والمغرب والأردن قد شهدت بالفعل مع مجيء هؤلاء الشباب الأربعة ما يمكن تسميته بالربيع العربي الأول الذي سبق ربيعنا الحالي فقد دشن هؤلاء في بلدانهم حزمة من الإصلاحات نشطت على الأخص المجتمع المدني ومكنت في مجملها قوى المجتمع من أن يشعر بقوته لكنهم – على درجات – لم يدركوا بسبب اعتزازهم بإنجازهم وغباء ونفاق مستشاريهم أنهم لن يحافظوا على هذا التقدم إلا بالمزيد منه وأن الشعوب طماعة  بطبعها فما لم يواصل الإصلاح مسيرته بسرعة وقوة فسوف تتجاوز قوة المجتمع الدافعة وتيرة الإصلاح التي تتباطأ حتى تحدث الفجوة التي للأسف لا يمكن ملؤها إلا بالاحتجاجات والثورات والدماء، وهذه الأخيرة هي المادة الوحيدة في الكون التي تزيد الحفرة اتساعا كلما تدفقت فيها على غير العادة الفيزيائية للمادة عموما.
 
وفيما يظل يردد الحكام المذهولون استغرابهم من نكران الجميل الذي تقوم به شعوبهم ويصور لهم مادحوهم أن ما قدمتموه من إصلاحات كان يجب أن يشكر ويسجد له من قبل قوى المعارضة فإن الحقيقة التي لا يدركها هؤلاء الحكام إلا متأخرين للأسف هي أن الشعوب تشكرهم بطريقتنها وهي المطالبة بالمزيد من تسريع وتوسيع الإصلاحات وإلا فقطار البلاد قد يمضي إلى مصائر غير معلومة.
 
وفي مصر وتونس أيضا يقر الكثير من المراقبين أنهما في الفترة السابقة على ثورتيهما كان المجتمع المدني في الحالة المصرية والنقابات في الحالة التونسية قد أصبحا قوة لا يستهان بها في الشارع المسيس كما أن الحرية الواسعة نسبيا للصحافة في مصر – والتي كانت توافق نظرية حسني مبارك خلهم يقولوا ما يريدون و نفعل ما نريد – كانت بالعكس فرصة لطبخ الثورة على نار هادئة بحيث يقدم طبقها عندما يجهز تماما. فقد كشفت هذه الحرية النسبية حجم الإفلاس الأخلاقي الذي وصلت إليه الطبقة الحاكمة في مصر من نهب المال العام والاعتداء على الثروة الوطنية وشراء الذمم والأصوات.
 
وفي تونس وحيث تحدث جولات دورية لما يعرف بالمفاوضات الاجتماعية بين النظام والنقابات كشفت هذه العملية عن حجم الفارق بين الثراء الإمبراطوري للطبقة الحاكمة والفقر المدقع لغالبية التونسيين مضافا إليه هذا الشعور بالاختناق بسبب بوليسية الدولة الرهيبة حيث المخبرون خلف كل حجر.
 
وفي ليبيا أيضا وبرغم قمعية النظام الشديدة إلا أن وجود سيف الإسلام كمصلح داخلي محتمل مكن من تليين القبضة الحديدية قليلا في المجتمع ومن ظهور محاولات لنقد النظام علنا في الصحف تضرب بسيف سيفا وتقول ما تريد لتنال من هيبة العقيد ونظامه متسترة بالدعوة إلى الإصلاح والتغيير.
 
قبل نحو أزيد من سنة من اندلاع الربيع العربي أي في ديسمبر 2009 كتب أحدهم في الوقت البحرينية مقالا كادت أن تغلق على إثره قبل إغلاقها لاحقا لأسباب مالية وإدارية، تساءل فيه ما إذا كان المشروع الإصلاحي لحمد الثاني قد فقد قوته الدافعة وإلهامه للبحرينيين الذين ضحوا من أجله قبل مجيء حمد الثاني ورحبوا به وحملوه على الأكتاف يوم مجيئه في القرن الجديد وترك الكاتب سؤاله مفتوحا.
 
وبدلا من أن يقرأ النظام هذا المقال كجرس إنذار مبكر حصلت الجريدة على تهديدات جدية بإغلاقها ما لم تعتذر عن "خطيئة" محرر المقال، لكن اليوم هاهي شعوب الربيع العربي تقول لحكامها الذين كانوا شبابا فشاخوا قبل أوانهم وتركوا مشروعاتهم نهبا للتآكل بفعل الإهمال والتراخي. شكرا لكم فإصلاحاتكم الجنينية كانت دافعنا للمزيد منها، لقد قدمتم ما تستطيعون فاتركونا نكمل مهمتكم.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus