احتكاكات الملك
سيرين أحمد - 2011-08-29 - 2:45 م
سيرين أحمد
الروائية الانجليزية ماري آن إيفانس (جورج إليوت).
ما أن تداول الناس خبر إلقاء الملك لخطاب مساء يوم أمس الأحد 28أغسطس، حتى بدأت التكهنات وغرقت الناس في وابل من التوقعات والتفاؤلات. توقيت الخطاب في العشر الأواخر من شهر رمضان الكريم، قبل ليلتين من يوم العيد، وفي وضع هو الأحرج للعائلة المالكة في تاريخ البحرين، كل هذا كان يوحي أن ثمة ما هو مفاجئ أو جديد أو مفرح يُنتظر من هذا الخطاب. هل ستدخلنا شيء من فرحة العيد بعد كل هذه الأشهر السوداوية الكئيبة؟ الرسائل النصية عبر أجهزة الاتصال المختلفة تنقل توقعاتها: عودة فورية لجميع المفصولين دون استثناء ودون شروط، الإفراج عن جميع المساجين، توسيع صلاحيات المجلس النيابي، وكانت أقوى التوقعات وأخطرها وأكثرها تداولاً أن الملك سيعلن في خطابه تنحيته لعمه عن رئاسة الوزراء، وسيعلن الحكومة المنتخبة. لم تكف الرسائل، معظمها تتهيأ للفرح، لكن بعضها كان أكثر تحفظاً، وبعض ثالث متشائم متوجس.
مباشرة بعد انتهاء الخطاب، كان الوجوم المطبق هو الحالة شبه المشتركة، قبل أن تبدأ تعابير الخيبة تعبر عن نفسها بأشكال مختلفة، وتتحول فيما بعد إلى سخرية ممزوجة بالإحباط اليائس. ما الجديد الذي يحمله الخطاب؟ ليس سوى تكرار لما سبق. عودة المفصولين تكرار يعيد نفسه منذ أول لقاء له مع السيد بسيوني، الذي أعلنه في مؤتمر صحفي في (30 يونيو/ حزيران 2011)، تبعه مرسوم ملكي لم تعبأ بتنفيذه أي من مؤسسات الدولة بقطاعيها الخاص والعام، لا تزال هذه الجهات تتفاخر بفصل المزيد، ولاتزال مستمرة في مجالس فصلها المسماة بالمجالس التأديبية. أما عن تحويل محاكمات المدنيين إلى المحاكم المدنية فقد سبق وأن صدر مرسوم ملكي في 29 يونيو الماضي يقضي بنقل جميع القضايا في المحاكم العسكرية إلى المحاكم المدنية العادية، فيما لا تزال المحاكم العسكرية تُرفع كل يوم، وتحاكم المدنيين بصلافة العسكر.
خطاب الملك لم ينجز تهدئة، ولم ينجز تغييراً، ولا ينجز تعديلاً، ولا قراراً بحكومة منتخبة، ولا برلماناً كامل الصلاحيات، ولا تنحية لرئيس الوزراء، ولا عزلاً لأحد، ولا إقالة لوزراء تأزيم حتى، بل لم ينجز حتى إفراجاً عن معتقلين، ولا عودة فورية وغير مشروطة لجميع المفصولين، لم ينجز غير التكرار الإنشائي. التكرار لأوامر سابقة لم تنفذ، والتكرار باسم وحدة شعبية تعمل جميع الأجهزة الاعلامية الرسمية على نقضها بكل مالها من عدة وعتاد وأقلام، والتكرار باسم تعايش مذهبي أفرطته ماكينات الإعلام والأمن والجيش، والتكرار لممارسة دور الأب الذي لا يقبل أن يتأذى أحد من أبناء شعبه فيما التطهير الطائفي يجوس في كل مفاصل الدولة وكل شوارعها ومؤسساتها وبيوتها. التكرار يُنقص الكلام، ويولّد احتكاكاً، والاحتكاك يولد حرارة. الاحتكاك يزداد في الأجواء المشحونة بالتوتر والإحباط والغضب والشعور بالاضطهاد، والحرارة تنفجر.
كيف أنجز خطاب الملك احتكاكاً وحرارة بدلاً من أن ينجز هدوءاً؟
خطاب الملك قفز على أسباب الأزمة، قفز على تكرارها الذي دائما ما يشعل الأزمات، ويولد الاحتكاكات بين الشعب ونظام الحكم، ويولد حرارة الاحتجاجات التي تهدأ قليلاً لتعود كثيراً. خطاب الملك قفز على هذه الأسباب ليعد بإصلاح محدود، لا لأسبابها، بل لتداعياتها فقط، وكأنه يحصر الأزمة فيما صارت إليه من تداعيات.
لم يقارب خطاب الملك المطالب والأسباب التي ثار من أجلها ما لا يقل عن نصف الشعب، واكتفى بمقاربة عودة المفصولين ومحاكمة المدنيين والصفح عمن أساؤوا لشخصه ورجال الدولة بالكلام. خطاب الملك لم يقف عند مطالب حركة 14 فبراير، لم يقف عند قمع الدولة لها، لم يقف عند إصرار الشارع على مطالبه رغم كل القمع الذي جوبه به، لم يقف عند أي من هذا، وبقي يكرر ويكرر فيما يتعلق بالتداعيات.
هكذا أنجز خطاب الملك خيبة أكثر، وإحباطا أكثر، واحتكاكا أكثر، وحرارة أكثر، نتج عنها إعلان ائتلاف شباب ثورة 14 فبراير عن إطلاق التظاهرات الغاضبة في جميع المناطق والمدن رفضاً للخطاب. عمت التظاهرات سريعاً في عدد كبير من قرى البحرين وشوارعها، قوبلت كالعادة بحرارة العنف المفرط بالرصاص المطاطي والانشطاري والغازات المسيلة للدموع والغازات المجهولة الخانقة، ولا يزال الشارع ينتظر الملك في خطاب قرار، لا في خطاب تكرار. خطاب يتقدم بالوطن، لا خطاب يحتك بجراحاته المشتعلة.