المقابلة الأخيرة، ما تبقى من حسين الأمير: عطر الأمير وعيون تتفتح للمرة الأولى

2011-08-26 - 2:54 م


لم يخطر ببالي وأنا أتصل قبل 14 فبراير بفترة قصيرة بالشاعرة سوسن دهنيم، أن القدر يضع بين يدي قصة بهذا الحجم، وإني سأوثق تجربة إنسان نادر ومتميز في كل شيء، وأن الجميع سيرغبون في معرفة شيء عنه بعد انتشار خبر وفاته كانتشار النار في الهشيم، تفاجأت أن لدي كل شيء، كل القصة!.
كنت  أمر بسيارتي في قرية سماهيج كما أتذكر،  حينها تحدثت مع سوسن، أخبرتها أني أريد أن أجري مقابلة مع زوجها حسين الأمير، بروحها المرحة وافقت دون تردد، أعطتني رقم هاتفه الذي مازلت أحتفظ به: 33122281، أجريت المقابلة، طرت مع حسين في عوالمه الساحرة، تأكدت أنه يرى الكثير، وأن روحه  أدهشتني كأنها روح ملاك شفاف ذي أجنحة بيضاء، وأن إرادته بصلابة الجبال، وأنه زوج محب، ووالد عطوف، وشاب ناجح تماماً.
لا شك أن حسين فتح عينيه الآن، رأى كل شيء، عرف كل شيء، أحاط بما لم نحط به، ليتك تخبرنا كيف حطت بك الغمامة البيضاء هناك، ماذا رأيت، وكيف هو المصير؟

لزوجته المحبة كلمات لا بد منها: إنه القدر ياسوسن دائما يفجعنا بالأشياء الأفخم والأروع في حياتنا، وأن أجمل فصول الرواية دائما هو الفصل الأكثر قصراً، ولكن عزاءنا أن كل ذلك يبقى في قلوبنا التي لا تنسى، وذاكرتنا التي تسجل طعم الحب لتتذوقه كلما جفت الروح وهاجت الأشواق، كأني به يوصيني لأقول لك: كوني بخير ياسوسن.

حسين خلف-  14 أغسطس 2011.

نص المقابلة التي تنشر للمرة الأولى.
            
في العام 1975 تمت ولادته ولم يستطع أن يفتح عيناه، لم يعرف لماذا، لكنه كان يسمع أصواتاً حوله، عرف أن أمه وأباه حوله، وأن له إخوة وأخوات، كَبُر وسأل عائلته عن سبب الظلام الذي يلفه، وأنه يشعر بأنه شخص غير طبيعي، فأجابوه: إنك كفيف البصر… أعمى!

قصته تشبه قصة الممثل آلبتشينو في فيلمه الشهير (عطر امرأة)، الذي حاز فيه آلبتشينو على جائزة الأوسكار لأدائه دور كفيف البصر، كان هناك عطر امرأة وهنا عطر الأمير!، أو قل هي قصة بحرينية شبيهة لقصة الأديب العربي الشهير طه حسين!

هو حسين الأمير، صاحب الإرادة الأقوى، والأمضى، ماذا فعل حسين الأمير في حياته؟، يقول الأمير في لقائي الخاص به "عندما وعيت على إعاقتي البصرية، عرفت أنني لا أستطيع اللعب، وأن الأطفال ينظرون لي نظرة مختلفة… اكتشفت الامر".

يضيف"كان بعض الاطفال يحاولون رؤية عينيَّ وكيف شكلهما، بعضهم كان يرمي عليّ الحجارة، كنت أجري وراءهم، بعض الأحيان أنجح في صد الهجوم، وأحياناً كثيرة لا أنجح فيها، فكنت أعود منكسراً، وكانت أمي تقول لي: قل لهم إن الأعمى هو أعمى القلب".
يتذكر"كنت عاطفيًاً، كنت أتألم لكني لم أتوقف عن الخروج".

وماذا حدث بعد ذلك؟، يوضح حسين "بعد فترة مارست فضيلة الصمت والسكوت، وقررت عدم الرد على هذه الأعمال، وشيئًا فشيئًا بدأ التهجم عليّ ينحسر، كبرت وكنت متفوقاً دراسيًا، درست في معهد النور للمكفوفين الذي أصبح اسمه الآن المعهد البحريني السعودي للمكفوفين، في السنتين الأوليتين كنا نسكن في المعهد، ونعود للمنزل أيام الإجازة، درست الابتدائية والإعدادية، عدت للمنزل، ارتحت في المعهد لأني زاملت معاقين مثلي من كل دول مجلس التعاون كنت أحب المعهد كمكان".

يردف حسين "عدت للمنزل وواجهت المجتمع، كان السكوت أفضل الحلول، اكتشفت مبكراً أن لديّ قدرات معينة ومواهب متعددة، كموهبة العزف، فمنذ أن كان عمري سبع سنين عزفت على  آلة الأورغ، أيضاً اكتشفت أن لديّ قدرة علي التفكير المُميز والمناقشة، كان لعبي قليلًا، كنت أجلس وأفكر معظم الأحيان".

حسين قرر مرافقة من هم أكبر منه، يقول "جلست مع أناس أكبر مني سنّاً، ولم أتابع مسلسلات الأطفال، صارت حياتي جادة، لدرجة أني في المعهد طلبت من الإدارة السماح لي بالجلوس في الساحة المخصصة للكبار، لم أجلس مع من هم في مثل سني، شعرت أنني يجب ان أنضج بسرعة".

كيف نضج حسين؟، يجيب "بدأت أقرأ كثيرًا  في الكتب المطبوعة على طريقة البرايل الخاصة بالمكفوفين، قرأت روايات لطه حسين، ولتوفيق الحكيم، أتذكر أنها ثرية وشكلت مخزوناً، رفضت قراءة قصص الأطفال بناء على طلب المعلمين في المعهد، كنت  أغافلهم وأعود لقراءة الروايات، خضت نقاشات مع من هم أكبر مني سناّ، بدأت متابعة المسلسلات والأفلام عن طريق السماع، وأستفيد من كيفية التعامل بين الممثلين الذين يؤدون أدوار الأم والأب والمحامين والأطباء والأصدقاء، بدأت أُكوّن مفاهيمي عن الحياة الخاصة بي، استفدت من إذاعة البحرين وإذاعة الكويت خصوصاً برنامج نافذة على التاريخ".
يتابع "بعدها اتجهت لمتابعة البرامج السياسية في إذاعة لندن بعد أن أصبح عمري اثني عشر عامًا".

بيدي أكتب… وأعزف
بدأ حسين الأمير في كتابة مذكراته الشخصية منذ أن أصبح عمره سبع سنين، من أين أتته الفكرة؟، يجيب حسين "أخذت هذه الفكرة من مسلسل مصري، واصلت كتابة مذكراتي لمدة سبع سنوات وتوقفت بعدها".

وتعلمه للعزف قصة أخرى، يسرد " بالنسبة للعزف كنت أحاول العزف بنفسي، تعودت كثيرًا على تقليد من يعرفون، في المعهد كان أساتذة المعهد يساعدوننا".
وللأم دور يصفه حسين "كانت أمي تحرص على تعلمنا فقد تابعتنا بجدّ لرغبتها في أن نكون متعلمين" أنت ومن ياحسين؟، يجيب "أنا كفيف كليّاً، ولديّ أخ آخر ضعيف البصر جداً، وكانت أختي كذلك لكنها تحسن بصرها أكثر إثر عملية أجرتها في ألمانيا".

وعن محاولات العلاج،  يقول "أخذوني مع إخوتي للعراق وإلى إيران قبل حرب الخليج الأولى للعلاج، وبعدها ذهبنا للهند في العام 1982، عايننا دكتور ألماني، وكانت أختي هي الوحيدة الممكن علاجها بيننا".

وعن بدايات نسج  الصداقات، يوضح حسين "في الثانوية بدأت أحصل على أصدقاء مع أناس عاديين مبصرين، هناك في مدرسة عيسي الثانوية، انصدمت بالواقع فقد كان عدد الطلاب كبيرًا، تعودت شيئًا فشيئًَا، بدأت أُكوّن علاقات مع الطلبة، مع أن بعضهم كان يعتقد أنني كائن غريب يستخدم أجهزة غريبة، بدأت أشرح لهم  طبيعة الأجهزة التي أستخدمها، حصلت على صديق عزيز بقيت صداقتي معه منذ الثانوية حتى الآن، ساعدني على التنقل وغير ذلك".

الجامعة والحب
 
لم يستمر مشوار حسين الدراسي  "خرجت من المدرسة الثانوية بعد انفصال والديّ عن بعضهما، حاولت الحصول على عمل لكني لم أنجح، فعدت ووواصلت الدراسة في السعودية، أكملت الثانوية، وعدت للبحرين، دخلت جامعة البحرين في العام 1995، اخترت تخصص اللغة العربية، بدأت كتابة الشعر منذ المرحلة الإعدادية وواصلت الكتابة حتى الجامعة".

يضيف "هناك في الجامعة اكتشفت طرق تكوين العلاقات، أزلت الحواجز، بدأت أفهم أنني لا يجب أن (أزعل) إذا قالوا لي أنت كفيف، كوّنت علاقات واسعة، أصبحت معروفًا في الجامعة، مارست نشاطًا أدبيًا وموسقيًا، كنا نخوض نقاشات عديدة تكونت لديّ ثقافة كبيرة، عملت بقوة وجهد، وتخرجت في العام 2000 من الجامعة بشهادة البكالوريوس في اللغة العربية".

أبرز مفاجأة  يطلقها حسين "كوّنت علاقة حب في الجامعة مع زميلتي الشاعرة سوسن دهنيم، وتزوجنا عام 2002، بعد قصة حب مدوّية" وقد رصد برنامج أحمر بالخط العريض قصة حسين وسوسن على شاشة  ال LBC اللبنانية.(1)

عامل البدالة
بدأ حسين العمل منذ أن كان في الجامعة، يصف تلك المرحلة "عملت كعازف على الأورغ مع نادي الموسيقى في الجامعة، وفي حفلات خاصة وشكلّ ذلك لي دخلاً ماديًا، بعد التخرج حصلت على أول وظيفة كموظف بدالة في ستاندر شارتر بنك ولذا فقد تركت العزف".
 
يضيف "شاركت في لجان تحكيم مهرجانات الأناشيد الدينية لخبرتي الموسيقية، ومنذ العام 2002حتى الآن أنا عضو في هذه اللجنة".
عمل حسين الأمير في البنك لمدة أربع سنوات، وبعدها تم تعيينه معلمًا في المعهد الذي درس فيه، المعهد البحريني السعودي للمكفوفين، هو يعمل حالياً  كمعلم للكمبيوتر  في المعهد منذ نحو ست سنوات.

لدى حسين ولدٌ اسمه قيس، وابنة سمّاها: رَند، وهذا الاسم يطلق على شجر طيب الرائحة. يقول حسين "هاجس العمى ما زال موجوداً لديّ، لقد دخلنا عالم الانترنت، وأنا اتواصل مع الناس على موقع الفيس بوك، وأقرأ الصحف يوميا، عبر برنامج كمبيوتري اسمه: قارىء الشاشة، حالياً أقرأ أحدث الكتب". يؤكد "التقنية ساعدتني كثيراً".
رغم كل شيء يقول حسين "لا أشعر بأنني حققت النجاح الذي أطمح له، أشعر أحياناً بتأخر عن أبناء جيلي غير المكفوفين، لكن لو قارنت نفسي بالمكفوفين سأكون ناجحاً"،  يستمر في النشاط "أتابع الندوات والمحاضرات وهذا يحتاج لتعاون شخص معي ليوصلني ويعتني بحركتي".

يشعر حسين بحب كبير وتقدير لزوجته سوسن دهنيم "زوجتي عملت لي الكثير وما زالت، يكفي الاستقرار النفسي والعاطفي الذي أعيشه، لقد ساعدتني في القراءة كثيرًا،  تصو أنها  قامت بإعادة كتابة بعض الكتب لي كلمة كلمة على برنامج الوورد، وذلك حتى أتمكن من قراءتها عن طريق برنامج قارىء الشاشة. إنها تساعدني وتوصلني الى أي مكان بحسب استطاعتها، اهتماماتنا مشتركة. ونحن نتناقش باستمرار".

حسين الأمير عضو مؤسس في الملتقى الاهلي الثقافي، وهو حالياً رئيس العلاقات العامة في جمعية الصداقة للمكفوفين، وقد قدم محاضرات في الجمعية البحرينية لدعم التعليم والتدريب في موضوع كيفية الحصول على عمل.

رغم كل شيء، يؤكد حسين "أسعى بجهد لتطوير نفسي، ولم أفقد الأمل يوماً، ربما سأستطيع الرؤية يومًا ….وإذا لم أستطع ستستمر الحياة". هذه هي القصة.
 أيها الأمير لقد جاء ذلك اليوم، وأنت الآن تستطيع الرؤية أكثر منّا جميعاً، لم تكن سوى صاحب بصيرة، بحريني حتى آخر قطرة ظلم، نقي السريرة، مبدع وطيّب، مررت كنسيم شجر الرند، وتركت وراءك عطراً خاصاً، هو عطر الأمير. أستأذنك ياشقيق بأن أضع وردتي الأخيرة فوق قبرك، وأذرف دمعة الفراق.


  1. شهادة سوسن دهنيم - أحمر بالخط العريض:
     

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus