» رأي
في سيرة المعتقل: وين فيصل هيات؟! الحلقة4 الأخيرة
فيصل هيات - 2011-08-26 - 6:22 ص
فيصل هيات
في الحلقة السابقة، أخبرتكم عن الضرب المبرح الذي تلقيته في ليلتي الأخيرة في مركز شرطة النعيم، كان بطله الرجل المدني (أحفظ تفاصيل وجهه تماماً)، الذي يرتدي ثياباً عربية، يتعنى لي كل يوم، ليعطيني وجبة من الضرب والتعذيب والسب والشتم، ثم يغادر. كانت وجبة الليلة الأخيرة هستيرية، وكأنه يشعر بالغضب لأن سيفقد استمتاعه اليومي بي. لكن ما لم أخبركم به، أن هذا اليوم، وهو 19 إبريل، كان يوم عيد ميلادي. كنت أنتظر أن يأتي حاملاً بشارة الإفراج، لكنه أتى حاملاً خبر نقلي للحوض الجاف.
هو عيد ميلادي السادس والثلاثين: هل سأحتفل به وسط عائلتي وأطفالي كما هو كل عام؟ انتظرته كل يوم، أحمل أملاً أن غداً ربما يحمل إفراجاً. وفي صباح ذلك اليوم، كان قد مر على اعتقالي أسبوعين، من بين أصعب الأوقات التي عشتها، تساءلت في داخلي: هل يذكر أحبتي أن عيد ميلاي اليوم؟..هل يتذكروني الآن؟
الليلة نفسها، تم إحضار عددٍ من الرياضيين من لاعبي كرة اليد "أحتفظ باسمائهم"، دخلوا العنبر منهارين بسبب تعرضهم للضرب على أقدامهم وأيديهم في وضعية "الروبيانة"، بعد حوالي ساعة من الوقت، تمت عملية نقلي مع عدد من المعتقلين وافترقنا عنهم، كنت أشعر ببعض الارتياح لما حسبته خلاصا من مركز النعيم، لكن ظنوني انهارت في اللحظة الأولى لوصولي سجن الحوض الجاف.
سجن الحوض الجاف
ركبنا حافلة النقل، تلقينا أوامر صارمة بعدم النبس بأي كلمة طوال مدة النقل، وصلنا الحوض الجاف، ما إن وضعت قدمي الأولى على الأرض مع المعتقلين الآخرين من الحافلة، حتى سأل أحد رجال الأمن بصوت مرتفع: "وين فيصل هيات؟"، رفعت يدي وأنا أندب في داخلي حظي العاثر، لم أكد أنزل يدي حتى بدأت الضربات تنهال علي من كل ناحية، تارة بقبضات الأيدي، أخرى بالأرجل وتارة ثالثة بكعب السلاح الذي يحمله أحد رجال الأمن. كان جميع المعتقلين معي متعجبين من الاستقبال الخاص بي، وكنت أنا أسأل نفسي: لماذا أنا بالذات؟ لماذا كل هذا؟
أخذونا بعدها إلى داخل السجن، تحديداً العنبر رقم 2، الزنزانة رقم 8. ولكي أضعكم معي في الصورة أكثر، فإن سجن الحوض الجاف مكون من عدد من المباني (العنابر) يبلغ عددها 12. العنبر هو مبنى مستطيل الشكل يحتوي على عدد 12 من الغرف المتقابلة، منها 9 زنزانات، يفصل بينهما ممر طويل. في بداية الممر غرفتين لرجال الأمن وفي نهاية الممر دورات مياه ومسابح ومغاسل، ثم غرفة السياج المعروفة ب (الفِنْس)، ثم غرفة مخصصة لتوزيع الأكل وغرفة للصلاة تم تحويلها فيما بعد إلى زنزانة بعد تزايد عدد الموقوفين. الفنس مكان مفتوح محاط بالسياج خصوصاً من ناحية السقف، وهو يفتح للموقوفين ليتعرضوا لأشعة الشمس. وبطبيعة الحال يستطيع الموقوفون في العنبر الواحد التحرك بين الزنازين.
الزنزانة الواحدة مهيأة ل12 موقوفا، لكن في بعض الأحيان يصل عدد الموقوفين في الغرفة الواحدة إلى 18. على سبيل المثال كانت الزنزانة رقم 8 التي كنت بها، يصل عدد الموقوفين بها إلى 18 أحياناً. الأعداد الزائدة توزع عليهم (فرَش) توضع جنباً إلى جنب على الأرض ليناموا عليها.
من فيصل هيات؟
دخلت الزنزانة مع الآخرين، لكن لم يتح لي أن أجلس مثل الآخرين، سرعان ما أسمع صوت مزلاج باب الزنزانة ينفتح بعنف، ثم السؤال الذي سيصير لازمة معروفة في سجن الحوض الجاف: "وين فيصل هيات؟"، أرفع يدي، يخلع رجل الأمن حذاءه العسكري وينهال علي بالضرب أمام الجميع، ثم يخرج مع بقية رجال الأمن، كانت تلك تشريفة الوصول كما يسميها المعتقلون، لكنها تشريفة خاصة بي أنا بالذات!
هل هذا كل شيء؟ هل سأنتهي هنا وتستقر بي الأمور؟ مع تغير نوبة العمل الأولى، ينفتح مزلاج باب الزنزانة مرة ثانية بعنف، مسئول العنبر يعيد السؤال اللازمة: أنت فيصل هيات؟ ثم يكمل: هل أنت بحريني؟ لابد أنك إيراني!! يوجه كلامه لي. لا أرد. دقائق ويحضر رجل أمن آخر، يتضح من لكنته أنه سوري الأصل، يحمل في يده "كيبل"، يستهدفني مباشرة قائلا: "أيها الخائن سوف أعرفك معنى الصحافة"، ثم يلكمني في وجهي أمام المعتقلين، قبل أن يغادر. بعد قرابة ساعة، يعود لأخذي إلى إحدى غرف رجال الأمن، وينهال على جسدي بالضرب بالكيبل بمساعدة رجل أمن آخر، كان ضربا مبرحا تركز على ظهري مع فواصل من السب، بقيت أتلوى تحت سياطهما، قبل أن يتدخل مسئول العنبر ويطالبهما بالتوقف، ثم يأمرني بالعودة إلى الزنزانة.
أعود إلى الزنزانة، ألقي بنفسي على السرير، لم أكد ألتقط أنفاسي، المزلاج ثانية، السؤال مجدداً: وين فيصل هيات؟ طالعتُ بنظرة من ينعى نفسه، أُخذت إلى اثنين من رجال الأمن اليمنيين، ومعهم آخر "بلوشي" اسمه مراد، كانت أمامه حاوية قمامة كبيرة، الحاوية الخاصة بالعنبر، يأمرني بتنظيفها: "هذا مستواك، سوف تقوم يوميا بتنظيف حاوية القمامة". نظرت إليها، بداخلها، كانت كبيرة وممتلئة بالقاذورات المتراكمة على جدرانها. شعرت بإذلال حقير ومهانة وضيعة، لكني سكت ولم أنبس بكلمة. أخذت أدوات التنظيف وبدأت، اضطررت إلى الدخول فيها بكلي وتنظيفها، يحدث هذا وسط دهشة الموقوفين الذين كانوا يتساءلون عن سر هذا الاستهداف الشخصي!!! قمت بتنظيف الحاوية وأنا أكاد أختنق من رائحتها وأشعر باشمئزاز لا يوصف، ثم اضطررت لتنظيف الأرضية المحاذية للمغسلة بسبب فيضان المجاري، أُمرت بعدها بتنظيف دورات المياه وتنظيف ممر العنبر كاملا، كل هذا من أجل إذلالي وتوجيه إهانات مباشرة لي. هكذا قضيت الساعات الأولى في معتقل الحوض الجاف، وأمام هذا الاستهداف، تعاطف المعتقلون معي، وقاموا بتغطيتي في مسألة تنظيف دورات المياه في العديد من المناسبات حين كان مسئول العنبر يسألهم عني!
مزلاج الباب..
مع الوقت، صارت حركة مزلاج الباب تكفي لأن تجعلني أقفز من مكاني، كان المزلاج يتحرك في رأسي مع كل حركة عنيفة لفتح الباب، صارت حركة المزلاج بالنسبة لي تعني: وين فيصل هيات؟ صار فتح الباب يفتح في داخلي ضربات الخوف والتحفز للتعذيب والإهانة. لم أكن ناقماً على المزلاج، فهو ضحية العنف مثلي، هو والباب شركاء في التعرض للانتهاك والتعذيب، لو نطق الباب لكان نطقه نشيجاً مؤلماً. أصبحت متحفزاً دائماً. لا أنام حتى عندما يهمس الأصحاب، مزلاج الباب دخل في رأسي وصار يصوي بداخلي طوال الوقت. أصبت بما يسمى في العامية (روع). أفزع لأي حركة مهما كانت بسيطة. أنهض مرعوباً. الأصحاب عانوا من خفة صحوي عند الإغفاء. لا نوم. مجرد إغفاء.
يوم حلق شعر رؤوسنا، كان يوما آخر، أجبرنا على الخضوع لماكينة الحلاق، وللجزّ. تعامل الحلاق معنا بطريقة جز صوف الأغنام. كنت أشعر بالإذلال: لماذا يتم حلق شعر رأسي؟ أنا موقوف احتياطياً ولست سجيناً؟ لا أريد أطفالي أن يروني وأنا بهذا الشكل، سينهارون عندما يروني في شكل مجرم سجين. رفضت أن أستسلم لآلة الجزّ، هربت عنها، اختبأت في الزنزانة، طاردتني، لم تنفع مبرراتي ولا إصراري على الرفض، أتمت آلة الحلاقة عملها بكل برود، وبكل آلية منزوعة الشعور.
قلوب واحدة
في الأيام التالية، بدأت تدريجيا في الذوبان مع بقية المعتقلين، وضعت وسط العشرات منهم، حظيت بشرف أخوة العديد منهم، لم يكن هذا معتقلاً للفوضويين، بيننا أساتذة ومحاضرون وأطباء وممرضون. تعلمت روح المجموع. لا أنسى مجموعة من الأخوة كانوا يغطون علي وقت التنظيف. استهدافي من قبل رجال الأمن كان يقابله احتواء من قبل زملاء التوقيف، كلما زاد أولئك في الاستهداف زاد هؤلاء في الاحتواء. يطلب منهم مسؤول العنبر أن ينادوني للتنظيف معهم، وحين يغادر يطلبون مني الجلوس جانباً، وحين يأتي مرة أخرى يعطوني إحدى أدوات التنظيف. لم يكن أحدنا يعرف الآخر قبل أن تجمعنا جدران التوقيف، صيرتنا هذ الجدران حضناً لبعضنا البعض، أصبحنا نتقاسم كل شيء، تشاركنا في كل شيء، الأكل الصلاة النوم وختمات القرآن. تقاسمنا الهم، خففنا عن بعض دعونا صلينا لبعضنا البعض. صار كل منا يعرف طبع الآخر وطبيعته، ليس أنسب من هذا المكان لتعرف ما لن تعرفه في الخارج. عندما يُطلب أحدنا خارج العنبر، كان الجميع يلتصق بالقرآن وكتب الأدعية لطلب الفرج له والعودة سالماً، كنا نحترق على بعضنا البعض ونبكي فرحاً عندما يفرج عن أحدنا.
أحد الأخوة من المعتقلين الشباب طُلب للتحقيق خارج الحوض الجاف، اختفى عنا لمدة 5 أيام. كان قريباً جداً مني، حزنت كثيراً لغيابه. وضعتُ على فراشه قرآن فتحته على سورة الحديد، حاجياته كانت لا تزال موجودة، بقينا ندعو له بالعودة، وكلنا متأكدون أنه لم يفرج عنه. في فجر اليوم الخامس، كنت أصلي وأدعو له، وإذا به يدخل مع أحد رجال الأمن، نهضت له في قفزة سريعة، حضنته وبكينا معاً نحن الاثنين: أين أخذوك ومزقوا قلوبنا معك؟ عاد من مركز شرطة القضيبية، بآثار تعذيب واضحة على ظهره.
حكم صفوي
الاثنين 25 إبريل، الثالثة مساء، تم استدعائي مجددا من قبل رجل الأمن السوري، اقتادني إلى مكاتب رجال الأمن، وضع عصابة على عيني، قيّد يدي، طلب مني الانتظار، بعد ساعة، وصلت حافلة صغيرة من نوع "ميني باص"، أركبوني فيها، وتم الإلقاء بي أسفل مقاعدها وتم اقتيادي إلى جهة مجهولة.
هناك مباشرة، عاد مسلسل البصق والسب مجددا، لم أعرف أين أنا، لكن رائحة المكان تذكرني بمركز شرطة النعيم. بعد ساعة من الانتظار في إحدى الغرف مقيدا ومعصوب العينيين، عرفت أنني فعلا في مركز النعيم، حيث أحضر لي رجل أمن طعام العشاء بعد دخول الساعة الخامسة تقريبا.
بعدها تم استدعائي من غرفة التوقيف، وقام أحد رجال الأمن بوضع عصابة مضاعفة على عيني، وأخذني إلى إحدى الغرف، دخلت وأنا في أمس الحاجة إلى إجابة على سؤال يتحرك في داخلي: "وماذا بعد؟"، ما إن دخلت الغرفة، حتى واجهني سؤال: "عرفتني يا فيصل؟"، وقتها كنت أعاني من ضعف الذاكرة بسبب الضرب المبرح الذي تلقيته على رأسي، وهو أمر نسيت إخباركم به قبلاً، إذ إنني صاحب ذاكرة قوية بالأصل، والأرقام لها حضورها القوي في ذاكرتي، أعتقد أني كنت أفتخر بمخزون الذاكرة عندي. لكن الضرب العنيف الذي تلقيته في المعتقل على رأسي، كان له أثر كبير على ذاكرتي الرقمية، تعَرضت للعطب فترة طويلة. ذات يوم طلبت من معتقل ينتظر الإفراج، أن يتصل بزوجتي كي يطمئنها علي، حاولت تذكر رقم هاتف زوجتى، بعد محاولات عديدة كتبت للزميل رقما خاطئا.
أعود لمركز النعيم، وسؤال: هل عرفتني يا فيصل، لم أتبين شخصية صاحب الصوت، رغم أني حاولت جاهداً تمييزه. أمر صاحب الصوت رجال الأمن بإزالة العصابة عن عيني، وبعد وقت ليس قصير، بدأت أتعرف على صاحب الصوت، كان مسئولا أمنيا رفيعا "أحتفظ باسمه"، طلب مني الجلوس، ثم شرع يتشفى بحالتي، وهو يشعر أني ضعيف ذليل أمام بطش سلطة العسكر.
دخل في الموضوع مباشرة بقوله: "عبالكم البحرين مثل تونس ومصر، قلتون خلنا نصير أبطال، لقد ارتكبت يا فيصل خطأً كبيرا، كنا نحبك ونتابعك في التلفزيون، والآن عليك أن تدفع ثمن أخطائك". أجبته أني لم أشارك في مسيرة الرياضيين، وأن مشاركتي في مسيرة الصحفيين جاءت بعد يوم واحد من خطاب ولي العهد في تلفزيون البحرين الذي أكد فيه على حق المواطنين في الاعتصام السلمي، لكنه تجاهل كلامي، قائلا: "كلكم تقولون هذا الكلام، تريدون إيران، تريدون حكم صفوي، لقد أخطأت في حق فلان الفلان (المسؤول الرفيع السابق)". بعد أخذ ورد، وعد بمساعدتي للإفراج عني، لكن كلامه لم يكن سوى محاولة واضحة منه للتشفي والاستهزاء!
تمت إعادتي مجددا إلى غرفة التوقيف، وبعد ساعة حضرت نفس الحافلة لإعادتي إلى معتقل الحوض الجاف، تنفست الصعداء فقد كنت خائفاً من بقائي في مركز شرطة النعيم، مع احتمال وصول أفراد من الجيش وتكرار نفس سيناريو التلذذ بتعذيبي الذي عشته على مدى 13 يوما في بداية اعتقالي.
عدت إلى الحوض الجاف حوالي الساعة الثامنة والنصف، وبعد ذلك ذبت بين عشرات المعتقلين، وتحولت إلى رقما عاديا كغيره من الأرقام.
يوم رأيتني في المرآة..
ماذا كانت مكافأتي؟ إنها علبة عصيييييير. لن تتخيلوا كيف استقبلت ورفقاء زنزانتي هذه العلبة. العلبة التي لا تعني لنا شيئاً في الأيام العادية، كانت كافية هناك لنتناولها ضمن طقس احتفالي خاص وكأنها كنز ثمين. هناك لا نشرب سوى الشاي المليئ بالكافور والماء. دخلت الزنزانة أحملها مثل رياضي يحمل كأس فوز، كنت صائماً يومها في بداية شهر رجب، وضعت العلبة في وجه المكيف لتأخذ قسطاً من التبريد، وحين حل المساء اقتسمتها مع بعض الرفقاء، تناوبنا على شربها غير مصدقين أننا نشرب عصيراً، تناولناها رشفة رشفة، وبتأن، كمن لا يريد لها أن تنفد.
سارونة
ابنتي الكبرى سارة، تبلغ من العمر 15 عاماً، كانت الأكثر إلحاحا على مخيلتي وأنا في المعتقل، كنت قلقا عليها بالذات، فعلاقتنا لم تكن عادية، كنا دائما قريبين من بعض وأقرب إلى الصديقين، فتاة ذكية ومثقفة وصاحبة رأي، قلت لها بداية العام الدراسي، وهي تتهيأ لشهادة المرحلة الإعدادية: أريدك أن تحصلي على نسبة مشرفة هذا العام، نذهب إلى الصحف في نهاية العام، أضع يدي في يدك ونلتقط صور المتفوقين. اتفقنا على هذا، ووعدتني أن تبذل مجهودا استثنائيا في الدراسة لكي تحصل على الامتياز المشرف.
كنت خلال فترة اعتقالي قلق عليها هي بالذات، أعرف تعلقها بي وتأثير غيابي عليها، وأعرف أن مرحلتها العمرية تجعل الأمور أكثر تعقيداً.
بعد أن أخلي سبيلي، وجدت على صفحتي في الفيس بوك، ضمن رسائل الاصدقاء المتمنين لي الخروج سالماً، كانت هناك حزمة من الرسائل المعلقة التي وضعتها سارة لي فترة وجودي في المعتقل، تقول فيها: "باقي ليي 3 امتحانات وتبدي إجازتي الصيفية .. بس قبل ما اقوولك أي شي أمبي (أريد) أقول آسفة اولا .. آسفة لأني ما راح أجيب ممتاز، أدري النتائج للحين ما طلعت، وللحين ما كملت امتحانات أصلا بس فرصتي الوحيدة بأني اجيب ممتاز كانت بالمنتصف، ومستواي هالفصل نزل بطريقة مو معقولة.. أحاول اقنع روحي اني أقدر ارتفع لكن هاي جذب.. هاي مستحيل في هالمرحلة، كلما افتح الكتاب، و اي كتاب مو قصدي كتاب معين، تتشكل وتتهيأ لي صورتك، او صوتك وانته (وأنت) تناديني "سارونه".. صارلي أكثر من شهرين وانته ما ناديتني سارونه.. أرجوك سامحني لانك ما راح تروح تصور وياي حق الجريدة"..
جمدت أمام كلماتها، كانت أثقل من أن أحتملها، دخلت في نوبة بكاء حادة، كنت أتخيل حالها ودموعها وهي تكتب كل حرف من هذه الحروف، أي معاناة عشتها يا سارونتي في غياب أبيك؟ ومن المسؤول عن إبعاد أبيك عنك لا لأنه فعل شيء، بل لأنه عبر عن رأي.
مركز الحورة
في أواخر شهر مايو، زارنا المقدم عيسى القطان وقد تعامل معنا برقي ولطف كبير، ووعد جميع الرياضيين بنقلهم إلى مركز الحورة مع أفراد الطاقم الطبي الموجودين معنا في العنبر. بعد 12 يوما من زيارة المقدم عيسى القطان، وتحديدا في يوم الجمعة الموافق 10 يونيو، تم نقل جميع المعتقلين ضمن الملفالرياضي مع طبيبين إلى مركز الحورة فعلا، باستثنائي والحكم المتقاعد عبدالحسين حبيب، وكان ذلك مثار دهشتي وقلقي أيضا، إلا أن الدهشة والقلق تبددا في اليوم التالي بنقلنا مع الآخرين يوم السبت الموافق 11 يونيو. المقدم عيسى القطان، فتح لنا أيضاً المجال للاتصال بأهالينا، ثم أشرف على الترتيب لزيارات ثلاث حصلت عليها خلال وجودي في مركز الحورة، علما بأني قمتباتصالات محدودة لأهلي خلال وجودي في معتقل الحوض الجاف، دون أن أتمكن من لقائهم لأكثر من شهرين ونصف، وكانت بعض الاتصالات الهاتفية التي حصلت عليهاعبارة عن مكافأة خاصة لي من قبل مسئول العنبر لقيامي بمساعدته في بعض الأعمال الورقية (تسجيل أسماء الموقوفين وجهات عملهم)، وكذلك (تسجيل أسماء المعتقلين وتحديد ما إذا كانوا يعانون من أمراض مزمنة كالسكري والسكلر أو غيرها).
قبل أيام قليلة من الإفراج عنا، فوجئنا صباحاً بزيارة غير متوقعة، الزيارة كانت من المسؤول الرفيع المستوى الذي لم أسمع غير اسمه طوال مدة تعذيبي وتوقيفي. كنت للتو قد أفقت من نومي وغادرت سريري، أحمل فراشي على كتفي الأيمن وفوطتي على كتفي الأيسر. تفاجأت به داخلاً يصافح الرياضيين الموقوفين واحداً واحداً وبوجه مبالغ في الابتسامة والترحيب. وصل نحوي، مد يده ليصافحني، كان وجهي ممسوح المعالم، لم أبذل مجهوداً للتخلص مما في يدي، ودون أن أتعمد أي شيء أو أي رد فعل، وجدتني أقول له: سأذهب لأفرش أسناني، ومضيت.
جلس بعدها معنا جميعاً، أخبرنا أنه سيتم الإفراج عنا خلال أيام، وأنه سيتم العمل على إسقاط التهم الموجهة ضدنا. علمنا فيما بعد بحكاية تهديد الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بتجميد نشاط البحرين لكرة القدم في ظل استمرار اعتقال الرياضيين على خلفية أنشطة سياسية.
سماء بلا خطوط
في مركز الحورة، بقيت ما يقارب 18يوما، قبل أن يتم الإفراج عني مع الساعات الأولى من فجر يوم الأربعاء الموافق 29 يونيو مع بقية الرياضيي، على أن أنتظر موعدا جديدا للمحاكمة التي كان مقررا لها تاريخ 11 يوليو، لكنها تأجلت إلى موعد غير معلوم بسبب إلغاء محكمة السلامة الوطنية بمرسوم ملكي.
خرجت لأقابل السماء أخيراً، كان أول شيء أردت أن أراه بعد خروجي من المعتقل هو سماء صافية بلا خطوط. طوال 84 يوماً لم أر السماء إلا عبر خطوط القضبان، أسميتها هناك السماء المخططة. يوم خروجي من مركز شرطة الحورة للإفراج، طلبت من جميع من جاء لاستقبالي من الأهل والأصدقاء أن يمنحوني لحظة واحدة فقط، رفعت بصري نحو السماء، رأيتها أخيراً متحررة من خطوط القضبان، علمت أنها تحررت مثلي، وأنها عادت لتملأ فضائي المفتوح، لم أدر بنفسي، بعفوية صبيانية قفزت في الهواء، وصرخت وعيني لم تغادرها: أخيرا أيتها السماء نحن معاً، دون قضبان ودون خطوط.