» رأي
فيصل هيات في سيرة المعتقل:سأمووووت، الحلقة 3
فيصل هيات - 2011-08-19 - 2:51 م
نهاري الأول
كان الليل يمضي بطيئا في غرفة التوقيف، والنوم لا يأتي وسط صوت صرخات المعتقلين الذين ينالهم التعذيب في الغرف المجاورة. في صباح الجمعة، أحضر لي أحد رجال الأمن ورقة مكتوب عليها (استمارة الكشف الطبي)، معنونة بتهمة التجمهر والتحريض على كراهية النظام. أصابتني التهمة الثانية بهلع كبير. التحريض؟ أنا محرض؟ رفضت التوقيع. أمرني أحد المسوولين بالانصياع التام لأوامر رجال الأمن وعدم رفض أي شيء، ووسط تطمينات بعض الشباب المعتقلين معي في نفس غرفة التوقيف، قمت بالتوقيع على الاستمارة، أخبرني من معي في التوقيف أنها مجرد استمارة للسماح بالكشف الطبي. كنت معصوب العينيين طوال والوقت، ولا أزال أعاني من آلام مبرحة في يدي وباطن قدمي جراء ضرب الليل، لم أكن قادرا على تحريكهما أو رفعهما عن الأرض.
بعد أذان الظهر، طلبت من أحد رجال الأمن أن يحدد لي اتجاه القبلة، فأشار إلى جهة معاكسة للقبلة، وهي مسألة تبينتها مع إدخال معتقل جديد إلى غرفة التوقيف!!! صليت على وجل. دقائق وأتى من يطلبني مجددا، وتم اقتيادي مقيدا معصوب العينيين إلى غرفة التعذيب. ما إن دخلت حتى انهال علي 4-5 أشخاص بالضرب المبرح، ميزت عددهم من أصواتهم، كانوا يضربونني بكل ما يقع تحت أيديهم: الهوز، وكيبل الكهرباء، واللكمات على مختلف أجزاء جسدي ورفس الأحذية، الجميع كان يضرب في وقت واحد، ليس هناك نفس بين الضربة والضربة التي تليها، بل ضربات مجتمعة تشعر معها أن لا مجال لديك حتى أن تتنفس، الجميع كان يشتم ويسب ويلعن وينال من عقيدتي الدينية.
من يطلع برّا؟
كنت أصرخ بقوة لشدة الضربات، أستجديهم التوقف عن ضربي: سأمووووت..أرجوكم لا أستطيع تحمل المزيد. وكانت أجابتهم جاهزة: هنا ستموت فعلا، فلا تستعجل على قدرك. أمروني بترديد الشعار المكتوب على اللافتة التي كنت أحملها في مسيرة الصحفيين، قلت: "صحافة حرة حرة" وسكت. زادوني ضربا أكثر وقالوا: ها أكمل، ماذا بعد صحافة حرة حرة؟، لم أجب، أخذوا يضربوني أكثر، صرخت معترفاً: يا (....) اطلع برّه. نطقت اسم المسؤول الرفيع الذي أتحفظ على ذكره حالياً. زادوا في ضربي بوحشية أكثر وقالوا لي: ستعرف الآن من الذي يطلع برّا.
لا أعرف كم استغرقتُ من الوقت في غرفة التعذيب. أعادوني بعدها إلى غرفة التوقيف، ألقيت جسدي المنهار، غير مصدق ما يحدث لي، مستشعرا أنني في أتون نفق مظلم لا يبدو من خلاله أي أثر للضوء. تم تقديم وجبة الغداء، ولم أتمكن من تناول أي شيء، لأني كنت في حالة من الهلع والرعب مما أنا فيه، ومما أسمعه من صرخات المعتقلين في الغرف المجاورة.
بعد حوالي نصف ساعة طلبوني مجددا، كنت منهار تماماً، قدماي غير قادرتين على حمل جسدي، وجسدي غير قادر أن يدفع قدمي للحركة، اقتادني أحد رجال الأمن إلى الغرفة ذاتها، إنها غرفة التعذيب، صرت أعرفها من مسافة الطريق، من عدد الخطوات، هكذا كنت أستشعر وصولي اليها، وأقول في نفسي: يا إلهي، أعود إليك مرة أخرى ؟!!
ما إن وطأتها قدماي مرة أخرى حتى انهالوا علي باللكم مجدداً، الضرب بالهوز تارة وبقبضات الأيدي تارة وبالأرجل تارة أخرى، كان الجلادون حريصون على عدم إيذاء وجهي، لأنه المكان الأبرز والأفضح، على الوجه كنت أتلقى صفعات قوية بالأيدي، لا بالقبضات، لكن لكمة طائشة أصابت أنفي، أدت إلى تعرضي إلى نزيف حاد أجبرهم على التوقف وإعادتي إلى غرفة التوقيف.
تحرش جنسي
في طريق إعادتي إلى غرفة التوقيف، عبر ممرات من الغرف، تعرضت لتحرش جنسي صريح من قبل أحد رجال الأمن، حيث قام بإنزال بنطالي والتصريح برغبته الجامحة في الاعتداء علي جنسيا (!!!). كدت أقع من طولي حين سمعت ما قاله، دخلت في نوبة هستيرية من البكاء ورحت أستجديه: "أنا أب ولي أولاد، أرجوك لا تفعل ذلك، عذبني كما شئت لكن أرجوك أستحلفك بأعز ما تملك لا تفعل ذلك". حصل ذلك بعد أن تجاوزنا غرفة التوقيف، تبينت فيما بعد أننا كنا في باحة المركز أمام المدخل، وأن الحركة كان مقصوداً منها إذلالي بشكل متعمد أمام بعض من حضر خصيصا للتشفي برؤيتي معتقلا ذليلا بلا كرامة ولا احترام لإنسانيتي التي أهدرت وسط ضحكات رجال الأمن. بعدها رفع صاحب نفس الصوت بنطالي، وواجهني بالجدار، وبدأ هو ومعه آخرون في تحسس أجزاء من جسمي، مع حرصه على لصق الجانب الأمامي من جسده بمؤخرة جسدي.
رأس أسيادي
رجل أمن من أصل باكستاني أعادني إلى غرفة التوقيف مجدد، أسندت نفسي إلى الجدار فيما يشبه الانهيار التام، كنت بحاجة لأن ألتقط أنفاسي، لكن لم أسلم وأنا في هذا الوضع المزري من تلقي وابل من السب والشتم والبصق علي من قبل رجال الأمن، كانوا حديثي العمر، إضافة إلى رجل بلباس مدني كان يتوعدني بين طلة وأخرى: أنا بخليك تصير (ريال)، علشان ما تحط راسك براس أسيادك خصوصا فلان.."ذكر اسم المسؤول الرفيع".
بعد كل هذه الساعات من التعذيب الجسدي والنفسي، كنت في أمس الحاجة للدخول إلى دورة المياه، وكنت مترددا في ذلك لشدة الخوف والرعب والتنكيل الذي واجهته، لكني ملكت الجرأة أخيرا وطلبت أخذي إلى هناك، حيث قام رجل أمن يمني الأصل بأخذي وسط صفعات تلقيتها على رأسي ورقبتي مِن كل مَن مررت صوبه في الطريق.
أعادني رجل الأمن إلى غرفة التوقيف، ثم بعد دقائق تم اقتيادي مع آخرين إلى العنبر الداخلي للمركز، وهناك شاهدت بدلات خاصة بالممرضين غارقة في الدم، ومعتقل أصبح صديقي فيما بعد واسمه حسين عياد من أهالي منطقة الحجر، كان منظره مفزعا للغاية، حيث اختفت معالم وجهه تماما واصطبغت بعدة ألوان (بنفسجي، أسود، أزرق، أصفر) وكان غير قادر على الحركة بسبب التعذيب الوحشي الذي ناله في مركز القضيبية وهو ما تبين لاحقا حين بدأ في سرد قصة اعتقاله بعد أيام.
كنت في أمس الحاجة إلى الراحة يوم شاق وطويل ومليئ بأصناف الضرب والتعذيب، ألقيت جسدي المنهك على أحد الأسرة، دون أن أتمكن من النوم بسبب الأصوات المتعالية القادمة من غرف التعذيب، وبسبب طبيعة العنبر حيث لا يمكن لعين أن تغمض بسبب صوت مزلاج الباب وهو يصطدم بالباب الحديدي. قضيت الليلة الثانية وسط تأوهات جسدي. هل مر على يوم واحد فقط؟ كنت أسأل نفسي، كأني في هذا الحجيم منذ أمد؟
|
في صباح اليوم التالي (السبت 9 إبريل 2011)، ناداني أحد رجال الأمن، قام بعصب عيني وتقييد يدي مرة أخرى، واقتادني إلى النائب العسكري، حيث طلب مني نزع ملابسي لمشاهدة أثار التعذيب، ثم وجه لي سؤالا عن علاقتي بمسيرة الرياضيين، نفيت. كان أكثر ما أثار حيرتي هو تعريضي لاستجواب وأنا معصوب العينيين، فيما كان شخص آخر يقوم بإلقاء الكلمات النابية والشتائم على مسمع من النائب العسكري: يا ولد المتعة، يا خاين، يا مجوسي، يا صفوي، يا إيراني، ...الخ.
خرجت من غرفة التحقيق مع النائب العسكري، دقائق معدودة لا تزيد على خمس دقائق، تم بعدها اقتيادي إلى العنبر مجددا وسط صفعات ولكمات ورفسات جميع من صادفني في الطريق مع مواصلة السب والشتم والبصق، وهي بالمناسبة ما يتعرض له جميع المعتقلين دون استثناء، وكأنهم يتفاخرون أمام بعضهم البعض أنهم يشاركون في نيل (شرف) إذلالنا وتعذيبنا في كل وضع وفي كل وقت وفي كل مكان، كان أحدهم يلطمك وهو ماضٍ في طريقه، وآخر يرفسك، وثالث يبصق عليك، ورابع يضربك بقبضته، وخامس يشتمك، كل هذا وهم يتضاحكون.
ومثل العادة مع أي معتقل يعود إلى العنبر، تحلق حولي المعتقلون لمعرفة ما جرى، أخبرتهم بما حدث مع النائب العسكري، وبعدها بدأ طلب المعتقلين واحدا بعد الآخر للتحقيق.انقضى اليوم الثاني، دون أن أتمكن من معرفة الذنب الذي أستحق عليه كل هذه الكراهية، دون اتصال بأهلي، أو المحامي أو أي حق يمكن أن يضمن لي معاملة عادلة وسط قانون الغاب الذي يسمىى "قانون السلامة الوطنية".
بتصير ريال!
مع اليوم الثالث، بدأت تتزايد زيارات أفراد من قوة الدفاع داخل العنبر إليّ شخصياً دون باقي المعتقلين، في اليوم الأول، دخل رجل يرتدي زيا عربيا (ثوب وغترة)، كان وجهه مكشوفاً، قال لي أمام بعض المعتقلين في الزنزانة رقم "2" : " بتصير ريال (رجل) هني، بعرفك شلون تصير ريال، علشان تعرف من هو (ذكر اسم المسؤول إياه). انتهى من كلامه ثم خرج وسط دهشتي الشديدة، من هذا الرجل وماذا يريد مني!!!!
في هذا اليوم سمح لي بدخول الحمام والاستحمام لأول مرة، لم تكن لدي ملابس، لذا كنت قمت بالاستحمام ثم عدت لارتداء ملابسي نفسها، لم يكن هذا حالي وحدي، بل الكثير من المعتقلين. في اليوم الرابع سمح لي الاتصال بزوجتى لمدة دقيقة ونصف، كانت جملتي الوحيدة: أنا بخير، لا تقلقوا علي. وعبارة زوجتي الوحيدة: فيصل يجب زين تأكل. لا أعرف كيف وصل إليها أنني لم أكن أتناول الطعام. علمت زوجتى من خلال الاتصال أني بمركز النعيم، فبادرت مباشرة بإحضار ملابس لي، أخبرني رجل أمن كان طيباً معنا، أن زوجتى أحضرت لي ملابس، عندما أحضروا لي الحقيبة تخيلت زوجتى وهي تضع الملابس في الحقيبة وبأي حال، تأثرت كثيراً وبكيت.
بدأ مسلسل الرجل المدني (صاحب الثوب والغترة)، يطلبني كل يوم، للاعتداء علي مع رجل أمن آخر، بعد أن يتم اقتيادي خارج العنبر، بقيت على هذا الحال بصورة يومية، مع دخول عنصر جديد في حملة الإرهاب الموجهة لي شخصيا، وهم عناصر الجيش، كانوا يطلبوني في ساعات متأخرة من الليل، ليمارسوا طقوس تعذيب إضافية، حيث كانوا يطلبوني مقيدا ومعصوب العينيين، ليعتدوا علي بالضرب على مؤخرتي ومؤخرة ساقي ورأسي، كانوا حريصين على عدم ضربي على الوجه كما أسلفت لكي لا يتركوا أثرا، وبعد قرابة ساعة من الزمن يعيدوني إلى العنبر منهكا، خائر القوى!
قبل الحوض الجاف
أحد الأيام دخل ضابط يبدو أنه ذو رتبة عالية ومقام كبير، لكنه أزال رتبه من فوق كتفه، وكذلك اسمه من على صدره، كان مكشوف الوجه على خلاف رجال الأمن من مدنيين وعسكريين الذين كانوا يسيرون خلفه، أمام جميع من كان معي في العنبر من موقوفين، سألني حول صورتي التي عرضت في التلفزيون وهو في حالة غضب هستيرية: "عبالك أنت بطل؟ رافع يدك تبي تسقط النظام؟". أجبته بأني لم أشارك في مسيرة الرياضيين، وصورتي التي عرضت في البرنامج الرياضي إياه، كانت من مشاركتي في مسيرة الصحافيين، وأني لم أهتف لإسقاط النظام، كنت أهتف لحرية الصحافة وللأخوة بين السنة والشيعة، لكنه صفعني على وجهي مرددا: "لا تكذب، قالوا لي لا تضربه على وجهه!!"، ثم أمر أحد رجال الأمن بتعذيبي داخل الزنزانة أمام بقية المعتقلين، دفعني رجل الأمن المقنع على الأرض ثم بدأ بدهسي بحذائه على كافة أنحاء جسدي، شعرت أنه يريد سحقي على الأرض، وأنا أتلوى أمام الجميع بمن فيهم المعتقلين، كانوا متعجبين لماذا أنا بالذات أحصل على كل هذا القدر من الضرب وتعمّد الإذلال؟ ثم زجرني طالبا مني الوقوف أمام الحائط، قبل أن يخرج مع بقية رجال الأمن، ليلتف حولي زملاء العنبر يطلبوا مني الجلوس، لكني بقيت واقفاً، قلت لهم أشعر بإعياء شديد، وبعد حين ألقيت بجسدي على الفراش باحثا عن نفسي وسط كل هذا الإرباك والخوف!
تواصل معي النظام ذاته: الرجل المدني يحضر يومياً للاعتداء والإهانة لمدة تسعة أيام تقريبا، كنت وقتها أكملت في مركز شرطة النعيم حوالي 13 يوما من الاحتجاز، وفي اليوم الأخير قبل نقلي إلى معتقل الحوض الجاف، حضر الرجل المدني بثوبه وغترته، ووضع العصابة على عيني وقيدني كالمعتاد، ثم أخذني إلى غرفة مجاورة، وانهال علي بالضرب، ثم قام بصب مادة سائلة على رأسي، وأمسكني من رأسي ليضرب به كل الأبواب التي صادفتنا. إلى أن قرب رأسي من حاوية صغيرة تنبعث منها رائحة البنزين. سألني: ماهذا؟ قلت: بنزين. قال سأحرقك بهذا البنزين، ثم أوقفني قبالة الجدار واقترب من أذني وقال لي: "سوف نقوم بقطع يدك ولسانك أنت ورزاقو الخايس"، وكان يقصد مدير المنتخبات الوطنية اللاعب الدولي السابق عبدالرزاق محمد، شعرت وقتها وهو يزيد من وحشيته ومحاولاته في إرهابي أنه يومي الأخير في هذا المكان، إما للنقل أو الإفراج، ومع ساعات الفجر الأولى، تبين صدق حدسي، تم نقلي مع آخرين إلى معتقل الحوض الجاف.