» رأي
السلمية التي حيّرت النظام
محمد نجم - 2011-07-07 - 10:25 ص
محمد نجم*
لم يُحرج النظام البحريني من شيء كما أُحرج من سلمية الثورة المغدورة. وينزعج النظام وبلطجيته أشد الانزعاج حين يصف أحد الثورة بالسلمية، وهو ما يعكس حنق النظام على نفسه ويأسه من نجاح محاولاته العديدة المدعومة بفرق الزار السلفية والليبراليوية لخلق اقتتال أهلي طائفي، لأن السلمية في شعب البحرين بطائفتيه ليست طارئة بل أصيلة ونابعة من تاريخ عريق لهذا الوطن.
إن حضارة ديلمون التي ينيف عمرها على ثلاثة آلاف عام لم يعثر فيها على ما عرف عن الحضارات الأخرى من العنف وشهية الغزو والإبادات التي كانت جزءا من حضارات ما قبل التاريخ. وإن المتتبع لأختام ديلمون سوف يدهشه أن هذه الأختام تخلو إلى حد كبير من صور الحروب والأسلحة التي تزين جداريات الحضارات القديمة الأخرى كالآشورية والسومرية وليس انتهاء بدخول هذا البلد الوديع في الإسلام سلميا ولم يوجف عليه بخيل أو ركاب.
وحتى الطقوس الدينية في البحرين تختلف عن نظيراتها في بعض بقاع العالم الإسلامي المماثلة مذهبيا. ففي البحرين ومنذ زمن يستبدل منظمو الطقوس في المناسبات الدينية عادة شج الرؤوس بالتبرع بالدم عبر حملات واسعة، حتى كان الدم الناتج عن حملات التبرع يفيض على قدرة بنك الدم على تخزينه بل وحققت البحرين إنجازا بموسوعة جينيس بتحقيق أعلى رقم لحملة فحص ضغط الدم، وجرى ذلك في خيمة الفنان التشكيلي المعروف عباس الموسوي التي ينصبها سنوياً وسط مدينة المنامة، في عشرة محرم احتفاء بسلمية ثورة الإمام الحسين وجمالها الإنساني الذي يعكسه عبر لوحاته التشكيلية وفعاليات الخمية الثقافية، لقد سجلت حملة قياس ضغط الدم رقماً عالميا، برعاية رسمية ومشاركة من كل الطوائف. أما في مناسبات المواليد فتدور موائد الطعام على الأحياء على يد شباب متطوعين يقفون على النواصي يدعون لهذه الموائد المتنقلة كل عابر سبيل سواء كان بحرينيا من أي طيف أو أجنبيا وهو تعبير عن رسالة هذا الشعب الإنسانية وطيبته التي تجاوزت كل الحدود.
ويروي أحد ضيوف البحرين الشاميين من المفكرين العرب أثناء مؤتمر الأحزاب القومية في البحرين عام 2007 بدهشة كيف أن السيارة التي يستقلها صدمت عن طريق الخطأ سيارة أخرى أمامهم يستقلها بحرينيون، فما كان منهم إلا أن خرجوا من السيارة يطمئنون علينا نحن الذين أخطأنا بحقهم ويعلق قائلا لا يمكن أن يحدث هذا في بلد عربي آخر.
وليست السلمية مقتصرة على طائفة دون أخرى في البحرين، فالحقيقة إنه إذا كان الشيعة سلميين فالسنة مسالمين والمسالم أكثر سلمية من السلمي، لأن السلمي هو شخص يضبط حركته ليوجهها إراديا في اتجاه السلمية ليصون حركته المطلبية من التشويه والانحراف، أما المسالم فهو شخص ليس لديه طبيعيا حتى الاستعداد للعنف أصلا وهو ما جعل النظام يزج بمخبريه في أوساط تجمعات البسيتين والفاتح ودوار الساعة بالرفاع ليؤلبوا الناس عنوة على ارتكاب العنف والتخريب ضد المقار والأشخاص المحسوبين على المعارضة أملا في خلق مذبحة طائفية تجعله حكما مزعوما بين طائفتين لكنه فشل في ذلك إلى حد كبير.
وعصر انطلاق مسيرة المعارضة إلى ديوان الحكم بالرفاع بتاريخ 11 مارس 2011 فيما سمي بجمعة السقوط وحين كانت إذاعة البحرين تبث مباشرة ما تريد منه رسالة تحريض بين الطوائف اتصل أحد سكنة الرفاع ليقول إنه مستغرب لماذا تقفل الشوارع ما يعطل خروجه لزوجته التي تنتظره في مكان آخر ويعلق على بلطجية النظام قائلا إنني أرى في الرفاع وجوها غريبة تحمل العصي والقضبان والسيوف ولا يبدو من بينها من هم من أهل الرفاع بل وجوههم غريبة. وهو ما صرح به بالفعل بعض أهل الرفاع للقادمين في المسيرة بقولهم نحن لا نريد مواجهتكم ونعتقد أن النظام يريد زجنا في معركة لا نريدها.
و برغم كل دجل تليفزيون "الغائلة العربية" لم يستطع إعلام "فواز غوبلز" أن يعثر على صورة واحدة فقط خلال المسيرات الألفية المتجهة من وإلى دار الحكومة أو قصر الحكم أو مقر التحقيقات الجنائية يبدو فيها مثلا متظاهر واحد من بين عشرات الآلاف يرشق صورة لرموز النظام المصفوفة على امتداد الشوارع وهو ما شهدناه في حواضر عربية أخرى من حرق ورشق لصور رموز الأنظمة الدكتاتورية.
بل لم تستطع الفضائيات المناصرة للحكم والإعلام الرسمي حتى هذه اللحظة بث تسجيل واحد لأي من قيادات الثورة من معتدلهم إلى متشددهم ومن إسلاميهم إلى علمانيهم تبدو فيه دعوة إلى العنف والقتل والمواجهة بينما حفلت خطب زعماء الحزب الحاكم "تجمع الوحدة الوطنية" وشيوخ السلفية الحكومية بعشرات الدعوات الصريحة للاستئصال والقتل والتنكيل.
كل هذه السلمية حيرت النظام إلى أبعد الحدود فوجد نفسه مضطرا إلى افتعال المواجهات الطائفية بين الناس. وعلى خطى العادلي وزير الداخلية المصري السابق المسئول عن فتنة الأقباط والمسلمين راح الإعلام يفبرك في التليفزيون أكاذيب عن تدمير المحتجين لمساجد لطائفة معينة. واتهم النظام المعارضة بقطع لسان مؤذن بنغالي. ولما نفت السفارة البنغالية أن أحد رعاياها تعرض لاعتداء عاد النظام وقال هو باكستاني ثم قال هو مؤذن هاو وليس موظف في الأوقاف ولما طالب الناس معرفته قيل لقد مات متأثرا بإصابته.
كما اتهم النظام المحتجين بالاعتداء على عمال أجانب لكن رسول منظمة العمل الدولية للبحرين السيد (ريدر) اجتمع مع كل سفراء الدول الآسيوية التي تصدر العمالة للبحرين، فنفوا كلهم بوضوح وجود أي اعتداء على عمالهم بل قالوا له إن عمالهم متعايشون بدون أية مشكلات مع هذا الشعب، فيما صمتت السلطات عن قتلها لحارس هندي الجنسية لشركة ألبان أوال هو ابراهام برصاص الأمن بتاريخ 14 مارس وتركه ينزف حتى الموت.
كما راح النظام يكذب بلا حدود حتى صرحت وزيرة "عقوق الإنسان" فاطمة البلوشي باتهام الأطباء بأنهم خزنوا أسلحة في مركز السلمانية الطبي، فيما كان أحد الشرطة اليمنيين يسخر من ذلك سرا ويصرح لبعض العاملين في المستشفى بأنه يستغرب قيام مفرزة من عشرة أشخاص من الأمن بمرافقة أحد الدكاترة المتهمين بنزع صفائح سقف المستشفى بحثا عن سلاح مزعوم، قائلا لا أعلم لم يفعلون هذا فلا يوجد شيء يبرر ذلك أصلا.
إن أكبر فشل مني به النظام هو فشل استراتيجية (نفي السلمية) فالحقيقة التي لا تحجبها البروباغندا هو أن سلمية هذه الثورة بلغت حدا من الوضوح تبدو معه أكاذيب النظام عن "الانقلاب المسلح" ضربا من الخيال المريض الذي يهلوس به مرضى المصحات النفسية ويكررونه على أنفسهم أملا في إقناع ذواتهم فضلا عن إقناع الآخرين.
*كاتب بحريني
لم يُحرج النظام البحريني من شيء كما أُحرج من سلمية الثورة المغدورة. وينزعج النظام وبلطجيته أشد الانزعاج حين يصف أحد الثورة بالسلمية، وهو ما يعكس حنق النظام على نفسه ويأسه من نجاح محاولاته العديدة المدعومة بفرق الزار السلفية والليبراليوية لخلق اقتتال أهلي طائفي، لأن السلمية في شعب البحرين بطائفتيه ليست طارئة بل أصيلة ونابعة من تاريخ عريق لهذا الوطن.
إن حضارة ديلمون التي ينيف عمرها على ثلاثة آلاف عام لم يعثر فيها على ما عرف عن الحضارات الأخرى من العنف وشهية الغزو والإبادات التي كانت جزءا من حضارات ما قبل التاريخ. وإن المتتبع لأختام ديلمون سوف يدهشه أن هذه الأختام تخلو إلى حد كبير من صور الحروب والأسلحة التي تزين جداريات الحضارات القديمة الأخرى كالآشورية والسومرية وليس انتهاء بدخول هذا البلد الوديع في الإسلام سلميا ولم يوجف عليه بخيل أو ركاب.
وحتى الطقوس الدينية في البحرين تختلف عن نظيراتها في بعض بقاع العالم الإسلامي المماثلة مذهبيا. ففي البحرين ومنذ زمن يستبدل منظمو الطقوس في المناسبات الدينية عادة شج الرؤوس بالتبرع بالدم عبر حملات واسعة، حتى كان الدم الناتج عن حملات التبرع يفيض على قدرة بنك الدم على تخزينه بل وحققت البحرين إنجازا بموسوعة جينيس بتحقيق أعلى رقم لحملة فحص ضغط الدم، وجرى ذلك في خيمة الفنان التشكيلي المعروف عباس الموسوي التي ينصبها سنوياً وسط مدينة المنامة، في عشرة محرم احتفاء بسلمية ثورة الإمام الحسين وجمالها الإنساني الذي يعكسه عبر لوحاته التشكيلية وفعاليات الخمية الثقافية، لقد سجلت حملة قياس ضغط الدم رقماً عالميا، برعاية رسمية ومشاركة من كل الطوائف. أما في مناسبات المواليد فتدور موائد الطعام على الأحياء على يد شباب متطوعين يقفون على النواصي يدعون لهذه الموائد المتنقلة كل عابر سبيل سواء كان بحرينيا من أي طيف أو أجنبيا وهو تعبير عن رسالة هذا الشعب الإنسانية وطيبته التي تجاوزت كل الحدود.
ويروي أحد ضيوف البحرين الشاميين من المفكرين العرب أثناء مؤتمر الأحزاب القومية في البحرين عام 2007 بدهشة كيف أن السيارة التي يستقلها صدمت عن طريق الخطأ سيارة أخرى أمامهم يستقلها بحرينيون، فما كان منهم إلا أن خرجوا من السيارة يطمئنون علينا نحن الذين أخطأنا بحقهم ويعلق قائلا لا يمكن أن يحدث هذا في بلد عربي آخر.
وليست السلمية مقتصرة على طائفة دون أخرى في البحرين، فالحقيقة إنه إذا كان الشيعة سلميين فالسنة مسالمين والمسالم أكثر سلمية من السلمي، لأن السلمي هو شخص يضبط حركته ليوجهها إراديا في اتجاه السلمية ليصون حركته المطلبية من التشويه والانحراف، أما المسالم فهو شخص ليس لديه طبيعيا حتى الاستعداد للعنف أصلا وهو ما جعل النظام يزج بمخبريه في أوساط تجمعات البسيتين والفاتح ودوار الساعة بالرفاع ليؤلبوا الناس عنوة على ارتكاب العنف والتخريب ضد المقار والأشخاص المحسوبين على المعارضة أملا في خلق مذبحة طائفية تجعله حكما مزعوما بين طائفتين لكنه فشل في ذلك إلى حد كبير.
وعصر انطلاق مسيرة المعارضة إلى ديوان الحكم بالرفاع بتاريخ 11 مارس 2011 فيما سمي بجمعة السقوط وحين كانت إذاعة البحرين تبث مباشرة ما تريد منه رسالة تحريض بين الطوائف اتصل أحد سكنة الرفاع ليقول إنه مستغرب لماذا تقفل الشوارع ما يعطل خروجه لزوجته التي تنتظره في مكان آخر ويعلق على بلطجية النظام قائلا إنني أرى في الرفاع وجوها غريبة تحمل العصي والقضبان والسيوف ولا يبدو من بينها من هم من أهل الرفاع بل وجوههم غريبة. وهو ما صرح به بالفعل بعض أهل الرفاع للقادمين في المسيرة بقولهم نحن لا نريد مواجهتكم ونعتقد أن النظام يريد زجنا في معركة لا نريدها.
و برغم كل دجل تليفزيون "الغائلة العربية" لم يستطع إعلام "فواز غوبلز" أن يعثر على صورة واحدة فقط خلال المسيرات الألفية المتجهة من وإلى دار الحكومة أو قصر الحكم أو مقر التحقيقات الجنائية يبدو فيها مثلا متظاهر واحد من بين عشرات الآلاف يرشق صورة لرموز النظام المصفوفة على امتداد الشوارع وهو ما شهدناه في حواضر عربية أخرى من حرق ورشق لصور رموز الأنظمة الدكتاتورية.
بل لم تستطع الفضائيات المناصرة للحكم والإعلام الرسمي حتى هذه اللحظة بث تسجيل واحد لأي من قيادات الثورة من معتدلهم إلى متشددهم ومن إسلاميهم إلى علمانيهم تبدو فيه دعوة إلى العنف والقتل والمواجهة بينما حفلت خطب زعماء الحزب الحاكم "تجمع الوحدة الوطنية" وشيوخ السلفية الحكومية بعشرات الدعوات الصريحة للاستئصال والقتل والتنكيل.
كل هذه السلمية حيرت النظام إلى أبعد الحدود فوجد نفسه مضطرا إلى افتعال المواجهات الطائفية بين الناس. وعلى خطى العادلي وزير الداخلية المصري السابق المسئول عن فتنة الأقباط والمسلمين راح الإعلام يفبرك في التليفزيون أكاذيب عن تدمير المحتجين لمساجد لطائفة معينة. واتهم النظام المعارضة بقطع لسان مؤذن بنغالي. ولما نفت السفارة البنغالية أن أحد رعاياها تعرض لاعتداء عاد النظام وقال هو باكستاني ثم قال هو مؤذن هاو وليس موظف في الأوقاف ولما طالب الناس معرفته قيل لقد مات متأثرا بإصابته.
كما اتهم النظام المحتجين بالاعتداء على عمال أجانب لكن رسول منظمة العمل الدولية للبحرين السيد (ريدر) اجتمع مع كل سفراء الدول الآسيوية التي تصدر العمالة للبحرين، فنفوا كلهم بوضوح وجود أي اعتداء على عمالهم بل قالوا له إن عمالهم متعايشون بدون أية مشكلات مع هذا الشعب، فيما صمتت السلطات عن قتلها لحارس هندي الجنسية لشركة ألبان أوال هو ابراهام برصاص الأمن بتاريخ 14 مارس وتركه ينزف حتى الموت.
كما راح النظام يكذب بلا حدود حتى صرحت وزيرة "عقوق الإنسان" فاطمة البلوشي باتهام الأطباء بأنهم خزنوا أسلحة في مركز السلمانية الطبي، فيما كان أحد الشرطة اليمنيين يسخر من ذلك سرا ويصرح لبعض العاملين في المستشفى بأنه يستغرب قيام مفرزة من عشرة أشخاص من الأمن بمرافقة أحد الدكاترة المتهمين بنزع صفائح سقف المستشفى بحثا عن سلاح مزعوم، قائلا لا أعلم لم يفعلون هذا فلا يوجد شيء يبرر ذلك أصلا.
إن أكبر فشل مني به النظام هو فشل استراتيجية (نفي السلمية) فالحقيقة التي لا تحجبها البروباغندا هو أن سلمية هذه الثورة بلغت حدا من الوضوح تبدو معه أكاذيب النظام عن "الانقلاب المسلح" ضربا من الخيال المريض الذي يهلوس به مرضى المصحات النفسية ويكررونه على أنفسهم أملا في إقناع ذواتهم فضلا عن إقناع الآخرين.
*كاتب بحريني