مشروع "سفينة النجاة"... ومعول "البرابرة"

2013-11-16 - 5:43 م

مرآة البحرين (خاص): فجر الثلاثاء 13 نوفمبر/تشرين الثاني المصادف التاسع من محرم، اقتحمت قوات الأمن منطقة "الجفير" (شرق العاصمة المنامة)، ونصبت نقاط تفتيش ثم هرعت بتنفيذ عملية عسكرية عاجلة!

العملية "العسكرية"، التي جرت باستخدام الجرافات الثقيلة المعدة للهدم (كرين)، مع تغطية أمنية كثيفة (15 جيب وسيارات مدنية على رأسهم ضابطان)، استمرت حتى الساعة السادسة صباحاً، وكانت تحطيم النصب الفني العاشورائي (سفينة النجاة)!

بعد أن تحوّلت السفينة إلى ركام،  سحقت قوات الأمن بقايا النصب بمركباتها، لتحطم ما تبقى من أخشابها التي تحمل آيات قرآنية وأحاديث شريفة.

النظام المارق

كان المشهد يذكّر بعملية هدم المساجد الشيعية فترة قانون الطوارئ، العار الذي لا زال يلطّخ وجه النظام، ويذكّر العالم كم كان مارقا!

في ذلك الوقت، كانت الدبابات... نعم الدبابات! تغلق مداخل بعض المناطق، لتغطية عملية عسكرية تجري في الداخل، لم تكن سوى "هدم مسجد"!

حتى قبل أن يأتي تقرير لجنة تقصي الحقائق، بلغت فضيحة النظام في هدم المساجد ودور العبادة الشيعية مداها عالميا، بعد أن قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما من على منبر الأمم المتحدة إن "مساجد الشيعة في البحرين يجب أن لا تهدم". وحين جاء التقرير، قال رئيس اللجنة البروفيسور شريف بسيوني في خطابه أمام الملك:

"تعرضت عدد من دور العبادة للهدم في أعقاب أحداث فبراير ومارس  2011، وقد قامت اللجنة بتوقيع الكشف على ثلاثين من دور العبادة وتبين أن خمسة منها  فقط كانت مستوفية للشروط القانونية والإدارية اللازمة، ولكن ذلك لم يمنع اللجنة من  أن تنظر بقدر من القلق إلى توقيت الهدم … فقد كان على حكومة البحرين أن تأخذ ذلك  في الاعتبار عند تحديد توقيت الهدم وأسلوبه لأن عدم مراعاة ذلك تسبب في أن يُنظر  إلى حالات الهدم باعتبارها عقابًا جماعيًا لأنها طُبقت على أبنية شيعية في الأساس،  ومن ثم تسببت في زيادة التوتر بين الحكومة والسكان الشيعة".

لكن هذا النظام الطائفي، قد أخذته العزة بالإثم! لم يكن ليعتذر، ويعيد بناء ما هدمه من مساجد ومآتم (الدور التي يحتفل فيه بذكرى عاشوراء)، بل سرق بعض أراضيها، وهدم بعض المساجد التي أعاد بناءها المواطنون، وحول أحدها إلى حديقة، وأخيرا فرّغ حقده وتشّفيه في نصب فني عظيم أقامه مبدعون داخل قريتهم، احتفاء بثورة عاشوراء!

"مرآة البحرين"، التقت مدير مشروع "سفينة النجاة"، الشاب "حسن المعلم"، وذلك لتوثيق المشروع من بداية الفكرة وحتى عملية الهدم.

سفينة النجاة

سفينة 4

منذ 10 سنوات وقرية "الجفير"، تدأب على الاحتفاء بعاشوراء بطريقة مميزة ومبتكرة، في هذا العام أراد أهل "الجفير" أن يتميزوا بعمل فني رائع يجسد الثورة الحسينية وأهدافها، بحسب ما يفيد مدير المشروع، حسن المعلم.

"بعد أشهر من البحث وتلقي الأفكار، تقرر تصميم سفينة النجاة، أريد لهذا العمل أن يكون متميزا وجديدا يحمل رسالة واضحة بأن من يرتقي سفينة الحسين وأهداف ثورته ضد الظلم ينجو، ومن يتخلف يغرق".

ميزانية سفينة النجاة كانت 2300 دينار بحريني، رصدت من قبل لجنة أهل البيت المستقلة، والمتكفلة بتنفيذ المشاريع الحسينية في "الجفير". تعتمد اللجنة على الدفع الشهري لرسوم الاشتراك من أعضائها، وعلى ما يصلها من تبرعات من أهل الجفير.

اختير للسفينة موقع كبير ومفتوح في وسط القرية، وهو ملك خاص لإحدى العوائل التي أعطت اللجنة الإذن باستخدامه، وهو نفس الموقع الذي تضمن مشاريع اللجنة السابقة. اختير هذا الموقع ليكون بعيدا عن الطريق العام، حتى لا يشكل أي إرباك للحركة أو الساكنين، ولا يؤثر على حركة المرور.

امتد العمل قرابة الشهرين، وكانت النتيجة عملا فنيا ضخما. وفي 5 نوفمبر/تشرين الثاني، اليوم الأول من محرم، افتتح النصب وتهافت كثيرون لزيارته مبدين إعجابا كبيرا بروعة التصميم والفكرة. كان العمل مذهلا ومتقنا بشكل مثير.

خطّ على محيط السفينة حديثان، يمثلان شعارها، الأول حديث مشهور للنبي محمد (ص) "مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق" والثاني حديث للإمام الصادق "كلنا سفن نجاة، لكن سفينة جدي الحسين أوسع، وفي لجج البحار أسرع".

تم بناء السفينة من الخشب العادي، واحتوى النصب على أمواج أسفل السفينة في حين تظهر على سطحها رسومات رمزية لمراسم عاشوراء. وتحتوي السفينة كذلك على شراعين يرمزان إلى ضريحي الحسين والعباس (ع)، كما تتوسطها خمسة مجاديف ترمز إلى "أصحاب الكساء".

35 عاملا، مصمم، ومدير مشروع

سفينة 2

مر المشروع بعدة مراحل، وأدير بشكل حرفي ومبهر. فبعد مناقشة الأفكار المطروحة، واختيار فكرة "سفينة النجاة"، وضعت التصاميم والرسومات، ثم بدأ العمل بإدارة رئيس اللجنة حسن المعلم ونائبه حسين جعفر اللذين يمتلكان خبرة سابقة في عدة مشاريع فنية خاصة بعاشوراء.

"الإشراف الفني على المشروع كان بيد الأستاذ جاسم المقابي، الذي يملك موهبة في الرسم والإبداع الفني، وهو مهندس هيكل السفينة ومن قام بتصميمها، كما أنه المشرف على رسم الشخصيات التي وضعت على سطحها" يقول مدير المشروع. 

"بقية الكوادر كانوا مجموعة من الشباب يملك بعضهم خبرة سابقة ويملك آخرون القوة والحيوية الشبابية، وقد اشتركوا جميعاً في هدف واحد وهو الحسين عليه السلام وقضية الحسين".

أكثر من 35 متطوعا بين نجار وصبّاغ ورسّام وخطّاط ومصمم أبرزوا السفينة كعمل متميز ضخم بالرغم من إمكانياتهم المتواضعة، أنجز العمل في الوقت المطلوب لكنه كان يتواصل في الليل والنهار.

معول البرابرة

سفينة 3

حرص منظمو وأعضاء لجنة تصميم السفينة على إخطار المسؤولين بمشروع العمل الفني الذي ينوون تنفيذه في قريتهم، فأخطروا العضو البلدي حسين القرقور، وهو بدوره أوصل الموضوع لمحافظ العاصمة.

لكن أيا من هذه الإجراءات، لم تشفع لأهالي الجفير أن لا يروا جهدهم الجبار، وعملهم الراقي، يتحطم في أقل من ساعتين، وبالقوة العسكرية.

كانت لحظات مؤلمة جدا، وردة فعل الأهالي خرجت بشكل عفوي مليئة بالغضب والاستنكار. خرج أهالي الجفير إلى الشارع محتجين على هذا العمل البربري، وقابلتهم قوات الأمن بالقمع هم أيضا، لتندلع  المناوشات والمواجهات حتى التاسعة صباحا.

لم يتلق أهل القرية أي إشعار بإزالة النصب، بل تفاجأ الجميع وبعد 9 أيام من افتتاح السفينة بنزول القوات فجرا لتحطيمها. لم تأبه القوات البربرية للآيات القرآنية التي كانت أخشاب السفينة تحتويها، وسحقتها متعمدة بالسيارات.

أعاد تحطيم السفينة للأذهان ما قامت به قوات النظام بمعية الجيش، فترة السلامة الوطنية، من هدم للمساجد والمآتم الشيعية، والتعدي على قدسيتها، المشاهد التي ظهر فيها القرآن الكريم محروقا ومرميا في الشارع، رغم أنه ليس قرآن "الشيعة" فقط!

لماذا سفينة النجاة؟

يحضر السياق السياسي دوما في أفق عاشوراء، فعلى مدى التاريخ كانت عاشوراء البحرين تستفز النظام.

رغم ذلك، يؤكد مدير المشورع إنه لم يكن هناك أي رابط مباشر بين السفينة والعمل السياسي في البحرين، كانت السفينة عملا دينيا مرتبطا بذكرى عاشوراء. كان الأمين العام لجمعية "الوفاق" الشيخ علي سلمان قد وصف تحطيم النصب العاشورائي بأنه "حرب على الحسين".

سفينة

هي ليست المرة الأولى التي تتجرأ فيها قوات النظام على أعمال عاشوراء الفنية في الجفير، فقد قامت فترة السلامة الوطنية بتكسير عملها الفني لعام 2011، والذي كان عبارة عن أكبر لوحة مكتوبة لشعار "لبيك يا حسين"، لكن أهالي الجفير عاودوا تصميمها مرة أخرى، ولأنها كانت عملا مميزا فقد دخلت ضمن معروضات مدينة الزائرين بكربلاء والتي سيتم افتتاحها نهاية العام الجاري تزامنا مع ذكرى أربعينية الإمام الحسين.

وهو كذلك ليس الاعتداء الأول، على شعائر الطائفة الشيعية، التي تشكل غالبية تيار المعارضة في البحرين. فقد قامت قوات الأمن بالاعتداء على مظاهر عاشوراء، هذا العام، وفي العامين الماضيين، وذلك لربط خطاب عاشوراء البحرين بالثورة السياسية المشتعلة ضد النظام منذ عام 2011.

هدمت قوات النظام مضائف حسينية، واقتلعت لافتات وبنرات دينية تخص المناسبة، وقمعت مواكب العزاء، واعتقلت المنشدين وخطباء المنابر، واستدعت مواطنين للتحقيق على خلفية تعليقهم أعلام عاشوراء على منازلهم، وأخيرا، و على عادتها البربرية، حطّمت نصبا فنيا الغرض منه الاحتفاء بالذكرى الدينية المقدسة لدى الطائفة الشيعية.

التحدي

بكل تحدّ، يؤكد مدير المشروع، الشاب حسن المعلّم، لـ"مرآة البحرين"، إنهم عازمين على إعادة بناء السفينة العام القادم.

بعد يوم، مر أهالي الجفير بموكب العزاء على موقع السفينة المحطمة، وضعوا الشموع فيه، وعلقوا صورتها، في إشارة إلى أنها ستعود يوما.

ستستمر عاشوراء جزءا من تاريخ البحرينيين، وإبداعهم وثقافتهم وعقيدتهم، وكذلك، نضالهم من أجل الحرية.

 

هامش:

 


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus