قاعة المحكمة: رهبة الحكم لا رهبة العدل

2011-06-11 - 6:40 ص






مرآة البحرين (خاص): "محكمة" كانت هي المرة الأولى التي أسمع فيها هذه الكلمة في الحقيقة. قبلها، شاهدتها في الأفلام العربية والمسلسلات فقط. كان الصوت قوياً وصارماً على نحو هز كل القاعة، وقلوبنا الوجلة.
 
■    في قاعة الاستقبال
عند مدخل القضاء العسكري، طلب منا رجال الأمن باحترام، ترك حاجياتنا في السيارة وحمل هوياتنا فقط. استجبنا. دخلتُ برهبةِ من يدخل مكان مستحيل. هل كنت أتصور أن أرى هذا المكان من الداخل يوماً؟ كل ما صفته عسكري، كان بالنسبة لي، كما غيري، مكاناً نطالعه من بعيد، لا أحد يجرؤ على الاقتراب منه. لكن منذ صارت الدبابات والمدرعات تقطع شوارعنا جنباً إلى جنب مع سياراتنا، فقدنا الشعور بالمستحيل.

دخلنا المبنى، مررنا خلال جهاز فاحص. على اليمين كانت غرفة صغيرة خاصة بانتظار النساء. ثم أخرى خاصة بالرجال. غرفة النساء مساحتها لا تتجاوز 3 * 4.5  من الأمتار. كانت ممتلئة في الوقت الذي لا يزال أهالي المعتقلين يتوافدون بلا توقف. عند باب الغرفة طاولة تجلس إليها عسكريتين تقومان باستلام الهويات وتسجيل البيانات الخاصة بالنساء. طلب منا خلع كل شيء بدءاً من ساعة اليد والحلي وحتى حلق الإذن الصغيرة، وُضعت في أكياس خاصة حفظت بأسمائنا لحين الخروج، كان هذا عند جهة النساء فقط، لكن لم يكن الأمر ذاته، عند جهة الرجال.

اكتظاظ المكان الصغير بالعدد الكبير من الأهالي، كان يُحدث بعض الفوضى الطبيعية. لم يكن هناك شيء أكثر من طبيعي. بشكل عام كان العسكريون يتعاملون مع الأهالي باحترام ولطف. في داخلي رحت أشيد بهذه المعاملة. تساءلت: هل هي معاملة يفرضها الاحترام من داخلهم، أم تفرضها الأوامر التي صدرت لهم بهذا الخصوص؟ ليس لدي جواب، لكن في كل الأحوال كنت أجدها معاملة إيجابية وإنسانية.

المفاجئ، أن ضابطاً عسكرياً شاباً خرج، وراح يصرخ في الأهالي بطريقة فجة وبصوت ضج بالمكان. ثم راح يهدد ويتوعد بعدم السماح للأهالي بالدخول. بقى يزمجر وسط تعجب الجميع من هذا الهياج غير المبرر. كانت الوجوه واجمة ومستنكرة. أظنني شاهدت وجوه بعض العسكريين يعتليها الشعور نفسه. الهياج لم يكن له ما يستدعيه. بل العكس، كان عليه أن يعتذر للأهالي عن ضيق المكان الذي حُشرت أنفاسهم فيه، بدلاً من أن يزيدهم انحشاراً. 

■    في الغرفة الصغيرة

خلف طابور مكتظ، وقفت أنتظر دوري ليتم تفتيشي. عند باب الغرفة عشرات المنتظرات. وفي الداخل عشرات أخريات يملأن الغرفة. عسكريتان تقومان بالتفتيش من الداخل. الأولى بجهاز الكتروني يمرر على كامل الجسم، ثم تكرر الثانية العمل نفسه باستخدام يدها فقط. كان علينا بعدها الوقوف ملتصقين حد انحباس النفس في هذه الغرفة الصغيرة. بقينا وقوفاً ننتظر مدة لا تقل عن 45 دقيقة. العسكريتان تطلبان منا التراصص أكثر، من أجل دخول باقي النساء. كان المكان يلفظ أنفاسه، ونحن، والعسكريات أيضاً. وللحق، فإنه رغم العدد الكبير الذي انحشر في ضيق المكان، فإن العسكريات، احتفظن بمعاملة لطيفة معنا، قدر الإمكان.
النساء في الغرفة وجلات ومرتبكات. دموع بعضهن لا تتوقف. هي الجلسة الأولى لكثير من المعتقلين. هي المرة الأولى التي يصل إلى أهلهم خبر عنهم بعد أكثر من شهرين. قبل المحكمة بأقل من 24 ساعة جاء الاتصال: غدا محاكمة (.....) أحضروا محامياً وتعالوا للقضاء العسكري. عدد من الأهالي لم يكن موجوداً حين تمت قراءة أسماء معتقليهم. هل كانوا يعلمون عن محاكمة أبنائهم اليوم؟ لا أحد يعرف.
فتاة حضرت مع والديها. أخوها المعتقل يبلغ من العمر 17 عاماً. تتحدث مع الواقفة القريبة منها: نحن عراقيون ولسنا بحرينيين. لا دخل لنا بالسياسة ولا الأحداث. كل ماحدث أن أحد أصدقائه أخذه مرة معه للدوار. وهذه هي تهمته التي يحاكم عليها الآن. لم يغفر له صغر سنّه وحداثته"

■    في القاعة الكبرى
أخيراً جاء وقت الدخول إلى قاعة المحكمة. في البداية سُمح بدخول امرأة ورجل عن كل متهم. على أن يتم السماح للباقي بالدخول في حال اتسع المكان. في غرفة النساء تقرأ العسكرية الأسماء. تُخرِج واحدة عن كل اسم. ثم تقول للباقيات: سنسمح لكن بالدخول إذا سمح لنا المكان في القاعة. إحدى الامهات، بعد أن سمعت اسم ابنها، وبعد أن خرجت زوجته، تقدمت نحو العسكرية، ترجوها بصوت متهدج بالدموع: "أنا أم. لم أر ابني من شهرين ولم أسمع صوته، أريد أن أدخل لأراه". تجيبها العسكرية التي بدا عليها التأثر: "لا أستطيع. واحدة فقط الآن. لكنك سترينه وستجلسين معه بعد المحكمة في كل الأحوال". تسحبها النساء بحنان عن جهة الباب. تحتضنتها أم أخرى ويبكين معاً بصوت مخنوق. بعد قليل تأتي بشارة، ثمة مكان في قاعة المحكمة الكبرى. تقفز الأم نحو الباب، وتتبعها الباقيات.

قاعة المحكمة الكبرى، تتصدرها الآية الشريفة "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل". للمكان رهبة الحكم لا رهبة العدل. بعض النساء لم يحتملن قسوة المكان الذي صدرت منه قبل أيام أحكاماً وصلت حد الإعدام. غادرن القاعة سريعاً.

نجلس بانتظار بدء الجلسة، وسط تهديد أن لا يصدر منا صوتاً ولا همساً ولا حركة، وإلا سيكون مصيرنا خارج القاعة. وجوه العسكريين داخل القاعة تختلف عن خارجها. نظراتهم فظة ووجوههم لا تعرف الابتسام حين تطالع ناحيتنا. لكنها تبتسم وتتمازح حين تلتفت جهة بعضهم البعض.

فور جلوسنا تلقينا التهديد الأول من أحد العساكر: "لا أريد أي ضحك أو حركة أثناء الجلسة مفهوم؟" قلت في نفسي: "لو كنت تعرف مقدار الحزن الذي في قلوبنا، ما تحدثت عن الضحك". كانت دموع بعض النساء غير قادرة على منع نفسها من الانسكاب معظم الوقت. دقائق وجاءنا تهديد آخر من أخرى ترتدي ثياباً مدنية: "أي وحدة بطلع أي صوت بنطردها برع، تالي مو تقولون طردناكم؟". جلسنا مثل محنطين. كنت أشعر بالمهانة وفي فمي ماء، بقينا ما يقرب 15 دقيقة قبل أن يدخل القاضي العسكري ويصرخ الحاجب: محكمة. يقف الجميع.

■    محكمة
ينادى على القضية الأولى. المتهم عيسى مال الله. يدخل القاعة وهو غير قادر على المشي. يستند على كل ما هو قريب من يده ليستعين به على صلب ظهره. آثار التعذيب تبدو واضحة عليه. لا يعبأ القاضي بما يراه بادياً على هيئته وصحته. كأنه لا يرى، أو لا يريد أن يرى. يباشر سؤاله: "أنت متهم بتهمة الشروع في القتل. هل لديك محام أم تريد المحكمة أن توكل لك محام؟". كان هذا سؤال القاضي الوحيد. بعدها تؤجل القضية إلى 15 يونيو. يُخرج المتهم. لا يظهر أن أحداً من أهله كانوا هناك، ولم يكن قد تم تعيين محام له. ولا نعرف ما إذا تم الاتصال بأهله لأخبارهم قبلها أم لا.

الجلسات الأخرى تتوالى. معظم المتهمين يتم إدخالهم على شكل مجموعات. أغلبهم يبدون بصحة جيدة. لكن البعض غير قادر على صلب ظهره والمشي.

قضية أخرى، يدخل 10 من المتهمين. التهمة احتجاز آسيوي وتعذيبه والتسبب بعاهة مستديمة له بقطع جزء صغير من لسانه بتحريض من محمد حبيب المقداد. الجميع ينكرون التهمة ويقولون أمام القاضي أنهم غير مذنبين. المقداد يضيف: غير مذنب ومفترى عليّ.
بعض الدفاع يحاول الإشارة إلى التعذيب الذي يشتكي منه موكله. القاضي لا يسمح. دفاع آخر يطلب إحضار المجنى عليه من أجل أخذ شهادته. القاضي يجيب أن المجني عليه في حالة عجز تام.
أتساءل في ذهني: العاهة المستديمة أستطيع أن أفهمها، لكن العجز العام كيف أفسره والحادث قد وقع منذ أكثر من 3 شهور؟
يواصل الدفاع طلبه من النيابة بإحضار كشف من الهجرة والجوازات يبين حركة المجني عليه خارج البحرين. القاضي يجيب أنه موجود في البحرين. الدفاع يصر على طلبه مشيراً أنه يرى أن هذا يخدم سير القضية. تؤجل القضية للأسبوع التالي.

■    رفعت الجلسة
مجموعات أخرى من المتهمين يدخلون في قضايا مختلفة. معظمهم لم يوكل له محام له بسبب الاتصال بأهله قبل المحكمة بساعات فقط. يأمر القاضي السماح للمعتقلين بالاتصال بأهاليهم من أجل توكيل محامين. يأذن بجلوس الأهل إلى أبنائهم بعد المحاكمة. تؤجل القضايا جميعها للأسبوع التالي. يضع القاضي قبعته على رأسه. يقوم خارجاً، يصرخ الحاجب مرة أخرى: محكمة.

بعدها يؤخذ الأهالي مرة أخرى لغرف الانتظار ذاتها. الاكتظاظ ذاته. العسكريون اللطفاء ذاتهم. الضابط المتهدّد ذاته. يُنادى باسم المعتقل. تدخل عائلته إلى قاعة المحكمة مرة أخرى. كل عائلة على مقعد خاص. يتم السماح للمعتقلين بالدخول واحداً واحداً. وجوه الأهالي تشهق فرحاً. قاعة المحكمة التي كانت قبل لحظات واجمة كالموت تدب فيها الحياة. تصير مكاناً أنيساً بالعناق والدموع، قبل أن يبدأ بوح الانتهاكات، والاعترافات التي يوقعها أصحابها على بياض ورق التعذيب، وفي سواد التاريخ.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus