الشفاء من الجنون أولاً، الحوار ثانياً

نادر المتروك - 2011-06-11 - 6:22 ص




نادر المتروك



     منْ يدّعي أنه بلا أخطاء، يقولون، فارموه بحجر. وإذا كانت الأقوال المأثورة لا تُعارَض، فإنّ أوضاعنا العمياء تتيحُ لنا أن نرمي الجميعَ بالحجارة. ولأنني إنسان "لا عنفي"، فأقترح استبدال الحجارة بعيادة نفسيّة.

     انسدادُ الأفق، وانغلاقُ الخيارات، والطّوافُ المقدَّس حول الكارثة، يعني أنّ الجميع في هذه البلاد يحتاج إلى علاج نفسي عاجل. أنا شخصياً أحتاجُ إليه، وأنتظرُ الفرصة للانتظام في جلساتٍ من هذا النّوع. خلال الأشهر الأخيرة، اكتشفتُ أنّ أكثر الأشياء وضوحاً، هي عند آخرين غير موجودة أصلاً، وليس لها أساس من الصّحة. عددٌ كبير من المفاهيم البديهيّة يتناولها غيري باعتبارها أوهاماً أو كلمات فارغة وفبركات. أكثر طلاّبي في قوائمي الإلكترونية يتجادلون في أشياء لا أستوعبها. يقول لي أحدهم: "لا تزعل أستاذ، فكثيرا ما يفوق الطالبُ أستاذه". أعتزّ بهذه المواساة، لكنني عند المراجعة، أجدُ أن شيئاً هاما بتّ أفتقده، شيئاً له علاقة بالمقارنة بين الأشياء واكتشاف الفوارق بينها. ازدادت حسّاسيتي الذهنيّة في اقتناص أبسط الاختلافات، لم أعد – كما كنتُ سابقا – ألمحُ المشتركات "وهي طائرة"، أو أحفرُ في الأرض لإخراجها.
 
     لقد حلّ الجنون، أيها النّاس! روائحه أشمّها كلّ صباح حينما أقرأ مُرغَمَا الصّحف. جنونٌ يأكل جنونا، وعقلاء يتراكضون زرافات زرافات إلى بؤرة الجنون الكبرى. وإلا، كيف، لنظام وأزلامه أن يتحدّثوا عن حوار وهدوء، والتطهير مازال قائما؟ ما معنى الحوار؟ أيّ حوار هذا الذي يمكن تسويقه وإعلامُ النظام لا يكفّ عن التخوين؟ مع منْ يريد الحوار؟ ماذا يريد منه؟ كلمة بسيطة مثل "حوار"، انشقّت واشْتُقت منها معان وكلمات تمتدّ من قصور الرّفاع العامرة، ومرورا بالنيابة العسكرية هناك، ولا تقف عند حدود السّفارة الأميريكية وجارتها "الوفاق". العاهلُ يريدُ حواراً، ووليّ العهد يريد حواراً، والحكومة العسكريّة لرئيس الوزراء تريد حواراً أيضاً. تجمّعُ الوحدة الوطنيّة يريدُ حواراً، جمعيات الديمقراطيين يريدون حواراً، الوفاق تريدُ حواراً، تحالفُ من أجل الجمهورية يريد حواراً. شباب 14 فبراير يريدون حواراً. أهل السياسة، وأهل الاقتصاد، وأهل السياحة، وأهل الرياضة.. كلهم يريدون حوارا. هل رأيتم شيئاً عليه إجماعٌ بهذا الحجم، ورغم ذلك لا رائحة له ولا طعم؟ هل ثمّة عاقل يستطيعُ الإجابة؟
     أعرفُ كثيرين يعجزون. كاتبٌ عربي محنّك ومعروفٌ بتسطير التحليلات اللاّمعة وتفسير أعقْد تخبّطات الأنظمة وجنونها؛ أُصيب بالهلوسة وهو يحاولُ فكّ لغز الحوار الذي يدور هذه الأيام في البحرين. لقد جنّنَ النظامُ كلّ العقلاء الذين أعرفهم. فأيّ كارثة حلّت علينا؟

     هناك عطَب أخلاقي يعانيه النّظامُ، وينبغي علينا مراعاته، والمُسارعة لاستيعابه قبل أن يجتاحنا جميعا، جلاّدين وضحايا. ارتكب النّظامُ تجاوزات فظيعة ومتواصلة. ما يحزّه أكثر، ويقطعُ أواصرَ عقله وروحه؛ هو  أنّه ما عاد باستطاعته وحيداً إخراج نفسه من جنونها، وعلاجها من آثار التّيه والعَته والبَله. لقد جرحَ بيديه بقايا كرامته "الصّامتة". فماذا يفعل؟ 

     إنّها السّيكولوجيا: آخرُ خُلاصات الفهم المتبقّية. فاقِدُ الكرامة لا يُبصِر شيئاً. يُوغِلُ، فقط، في إهدار الكرامة: كرامته هو أولاً، ثم يحاولُ العبث في كرامة غيره. يبحثُ عن كرامةٍ متخيّلة، وينسبها لنفسه، ليُواصل معها سلوكه المرضي؛ الإهدار. يُهدِرُ النظامُ كلّ شيء حوله قد يُنجيه. يدفعُ نفسه لخسارة كلّ طوْق يُرْمَى إليه: هل رأيتم كيف أنّه خَسرَ استضافة الفورملا ون أوّل مرة، ثم حين أُعيدتْ إليه مجدّدا بأعجوبة، مسكَ بها بشدّة، بشدّة، بشدّة.. حتى فلتتْ منه في غمضة عين؟! إنّه سلوكٌ إهداريّ بامتياز! وهو، لعمري، سلوكُ المجانين الكبار!  

     يجنّ نظامنا أكثر فأكثر عندما يجدُ خصْمه (شعبه) يزدادُ كرامةً. يعدُّ ذلك  هزيمة أخلاقيّة لا تُحتَمل. في هذه الحال، يجنحُ النّظامُ إلى ممارسةِ شيءٍ آخر. الانتقامُ من الذّات، وهو سلوكٌ تكميلي للإهدار. يتجمّلُ في أوّلُ الحال. هو لا يكذب، ولكنّه يتجمّل. سيكونُ تجمُّله (= كذبه) في البداية مقبولاً. أي: لا أحد يأخذ به، ولا أحد يتوقّف عنده طويلا. يعْبرُ سريعاً. سيبدو، عندئذ، طبيعياً جداً. عندما يتكرّر – والتّكرار مؤشّر مرضي – سيكون الانتقامُ من الذّات قد تبلور بالفعل. لا أحدَ يفضحُ نفسه على الهواء مباشرة وأمام العالم، إلا منْ يريدُ لنفسه شرّا مستطيرا. يغرقُ في السّوء، ويجدُ راحته في الغرق أطول وقت ممكن. وإلا، فماذا يعني أنْ تصرّ – بجنون مثير - على إعلامي مثل سعيد الحمد ليُقدِّم  روايتك على الملأ؟ إنك بهذا لا تريد شيئاً غير أن تجعل العالم يضحكُ عليك، ويقول فيك: انظروا.. انظروا.. إنه مجنونٌ كبير.. كبيرٌ جدا، كبيرٌ بحجم مملكة!

     الحلُّ ليس في لافتة الحوار وإعادة الهدوء! الحلُّ هو إيقاف "حفلة الزّار" – بتعبير شيخ علي سلمان – وتوفير المهدّئات والعلاجات اللازمة على أولئك المجانين الذين يتراقصون عراةً وسْط الشّاشات.
 الحوارُ ليس كلاماً متبادَلاً.
هو ليس استماعاً للآراء.
الحوارُ نيّة لإنهاء الأزمة. رغبةٌ في تجفيف ينابيعها.
اعترافٌ بالأخطاء، وتجاوُزٌ للسياسات القديمة.
الحوارُ استعدادٌ لتداول الحقيقة، والإقرارُ بعدم احتكارها.
الحوارُ تقدّمٌ باتجاه الآخر، واحتضان له.
الحوارُ ليس طاولةً مستديرة، أو غير مستديرة. بل مقاعدٌ مريحة وآمنة للجميع.
الحوارُ إصغاءٌ، لا كلام. الحوارُ نظافةٌ في العيون، وليس انطلاقا للألسن والخطابات.
الحوارُ فُسحة للإبلاغ عن التّوبة، والعزْم على التّرك، وعدم العودة إلى الذّنب.
لأنّ السّلطة، بكلِّ مستوياتها وأجنحتها، لا تملكُ شيئاً ممّا سبق فإنّ أحاديثها عن الحوار ليس سوى شدّ خطابي. شدّ عصابي حاد..

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus