عبدالله هاشم: ذيل المارد
2011-06-03 - 1:11 م
مرآة البحرين (خاص): مثلُ البالونات المنتفخة بالهواء؛ أسرعُ وأضعفُ ملامسةٍ يُفقدها الحركة ويُحوِّلها إلى شيءٍ آخر. على هذه الصّورة يبدو حال الموالين المتحوّلين.
لا تخلو الجماعات والشّعوب من ظواهر المتحوّلين والمتحوّلات، لكنّها في البحرين تأخذ ألواناً تمتزج بسلوكيّات متوترة، تدعو للتّحليل النّفساني. لا تُمثّل موالاة النّظام قدْحاً بذاتها، تماماً كما أنّ المعارضة ليست شرفاً في كلّ الأحوال، غير أنّ سيرة الموالاة في حكاية 14 فبراير تختلف عن قصص الموالاة الأخرى. تخلّى الموالون عن تاريخهم ومواقفهم السّابقة جذرياً، ووضعوا أنفسهم في خدمة خطابٍ واحد مُصْمت، أساسُه الالتحام بسياسة القمع الحكومي، وجامعُه إتّهام معتصمي الدّوار بالارتهان الخارجي والولاء الصّفوي، ومُحرّكه شدٌّ طائفيّ غير مسبوق في تاريخ البحرين القديم والحديث.
الشيخ عبد اللطيف المحمود، الشيخ حسن الحسيني، المحامي فريد غازي، الكاتب الصحافي محمد العثمان.. وأسماءٌ أخرى كثيرة سجّلت حضورها المؤسف في هذه الحكاية، ومن ميادين واتجاهات مختلفة، محامون وصحافيون ورجال دين وأدباء وغيرهم.. كانوا دعاة وحدة، وأقلاما للوطنيّة، ورجالات تدعو للسّلم المجتمعي.. كلّهم انقلبوا على سجلّهم السّابق، وتوحّدوا على جمل جديدة: الخونة، الصّفويون، عملاء إيران وحزب الله، وعبيد ولي الفقيه. وبين هذه الشّعارات، كان كلّ اسم يجتهدُ في تنويع الإثارة، وزيادة الحشّد المذهبي.
كلّ منهم يريد الانتهاء إلى خلاصةٍ قاسية مفادها: أن التعايش مع المكوّن الآخر لن يكون ممكناً بعد اليوم، إلا في حال تمّ تنفيذ تطهير شامل، وأنّ زمن "العفو" و"الحوار" قد ولّى بلا رجعة. إخوانيون وسلفيون، تكفيريون وليبراليون، تقليديون وحداثيون.. توحّدوا على ذلك، فكانت حكاية التحوّل التي نروي بعض قصاصاتها.
مازَج عبد الله هاشم بين عمله في المحاماة وعلاقاته المشبوهة بأجهزة الأمن، حدثَ ذلك في أوْج انتفاضة التّسعينات.
كانت ملفات القضايا الأمنيّة التي يستلمها من أهالي المعتقلين، تمكث قليلاً على مكتبه ثم تُطبع منها نسخا محدودة، وتُرسل إلى سيارة تابعة للأمن تقف بالانتظار أسفل مكتبه. تروي امرأة أوْكلت هاشماً للدّفاع عن زوجها المعتقل آنذاك كيف "أنّها كانت تُعتقل أكثر من مرّة حينما تنتهي من لقائها "غير المعلن" مع هاشم لأجل متابعة ملف زوجها"، وتقول إنّها بدأت تشكّ بالأمر عندما "لاحظت أنّ قوى أمن بلباس مدني كانوا يقفون بجوار مكتبه" في أغلب الأوقات، ولم يكن يُبادِر لتنبيه أحد لذلك.
سرعان ما تقوّت الرّوايات عندما أكّدت إحدى الضّحايا أنّها تعرّضت للابتزاز من قِبل رجال الأمن، مستخدمين معلومات خاصة كشفتها للمحامي هاشم في الفترة نفسها لأغراض الدّفاع.
تحوّلات هاشم كانت دراماتيكيّة، فمنْ عَرَضَ نفسه باعتباره رمزاً للحقوق الوطنيّة ومدافعاً عن ضحايا الانتفاضة، انقلب على نفسه أكثر من مرّة وفي أكثر من مقلب مُعاكس.
الجسْر نحو الضّفاف الأخرى كان خطاباً حماسيّاً غير موزون يوم إعلان الدّستور الجديد في 14 فبراير 2002م. فجّر الأسماعَ في قاعة النّادي الأهلي مُعلناً، وكأنه قائد ميداني يُصدِر الإشارة الأولى، بأنّ "السّلندرات" – وهي أداة احتجاج تميّزت بها بعض اتجاهات انتفاضة التسعينات- ستبدأ في الانطلاق ما لم يتمّ التّراجع عن التّعديلات الدستورية المخالفة للاتفاقات.
لم يجد الخطاب العنفي أي صدى، وشيئاً فشيئاً توارى هاشم عن الأنظار، حيث لم يجد له مكاناً مناسباً، ليظهر فجأة في اصطاف جديد باسم "حركة العدالة"، عبّر عن خطاب مزيج من السّلفيّة والإحيائيّة الصّداميّة (نسبة إلى صدام حسين). وفي هذه المرحلة، بدأ يشنُّ حرباً مفتوحة على تاريخه السّابق ومن غير أن يشعر، مُحضّراً نفسه للدّخول في الانتخابات. دون جدوى.
يريدك هاشم أن تشعر بالتناقض وكأنه جسد حيّ يُفضّل القبول به. يقولُ الشيءَ واضحاً، ثم يأتيك بنقيضه بوضوح مساوٍ. بعد الهجوم الأوّل على دوّار اللؤلؤة، الخميس 17 فبراير 2011م؛ تواجد هاشم في مستشفى السّلمانية، وجرى بينه وبين شباب الثّورة حوارٌ مباشر. بدا هاشم في موْضع الوسط، أي ذاك الذي يرى شيئاً آتياً في الأفق ويستعجلُ اقتناصه، فيميلُ نحو الثّورة وسقوفها العالية.
تلك اللّيلة أعطى غطاء قانونياً لمواجهة "القوّة" التي اقتحمت الدّوار فجراً. أخبره الشّباب أنّ السّيوف والأسلحة كانت ملفّقة. يعودُ ليؤكد، و"إنْ.. هناك خلل في توازن القوّة، والقانون يجيزُ الدّفاع عن النّفس". أفرغَ عاطفته الملوّنة. "أبناء شعبي يُقتلون.. ولا أستطيع الوقوف"، موضّحاً سبب مجيئه إلى المستشفى. أوْسعَ المكانَ شغفاً بقنْص الوِداد. "أنتم قوّة الشّارع.. أنتم الثّوار. ارفعوا السّقف كما تريدون، ألهجوا الشّارع، ولكن اتركوا مجالاً للحوار".
تتداخلُ فيه الظنونُ والهواجس. يُذكّرُ الشّباب أننا "قطعة في خاصرة السّعوديّة"، وأنابيب النّفط بين يديها، ولا سلطان لنا عليها، والدّولة تحتاج إلى رجال يقومون بأمرها. إنه "إسقاط النّظام"؛ الشّعار الذي يُحاصر هاشماً، ويريدُ له بعض مراوغة. وسْط الأصوات المتداخلة، يرمي هاشم صوته لعلّ مسكيناً يلتقطه: "مستعدّ لرفع دعوى ضد وزير الدّاخلية.. دعوا أهل الشهداء يأتوا ويقدّموا توكيلا لي".
يُسدَل السّتار. يُؤجّل العَرض الجديد إلى تاريخ 17 مايو. المكان: ساحة الشّرفاء في منطقة البسيتين (المحرّق).
هذه المرّة، يظهر هاشم وسط المسْرح. يُمْسك بالمنصّة. إنه الآن بطلٌ بين جمهور آخر. جمهور ينتظرُ خطبة مختلفة. حادثة دهس شرطة في النّويدرات، وترقّب استئنافيّة الإعدام؛ تُعطي هاشماً فُسحة مختلفة من الكلام. "يجب أن نعي خطورة ما يدور حولنا"؛ يوجّه إنذاراً مفتوحاً. بعدها يُسبغُ على ال"نحن" التي ينطق باسمها سيْلاً من الأوصاف التمثيليّة: "نحن شركاء. نحن أصحاب الرّأي الفصل. نحن الفيْصل. نحن حجرُ الزّاوية. نحن طرفٌ أساس في اللّعبة".
بينما يفتخرُ بمجموعات البلطجية التي حملت السّيوف وأغلقت المُدن؛ تلتقطُ مجموعة من المحتشدين الإشارة بسرعة. تتوجّه إلى محلاّت تجارية تابعة لرجل أعمال معروف، وتفعل فيها الخراب. ترتفع أصوات التأييد؛ ويتبرّع من جديد ويعطيهم هاشم الغطاء القانوني المطلوب:"نحن أهل القانون.. ونحن أهل السّلم وإذا قمنا، فنقوم بالحقّ".
وجود هاشم في التجمّع المعروف بالوحدة الوطنيّة؛ ينبيء عن طبيعة هذا الاصطفاف وهويّته. الوطنيّ الذي أصبح يهوى صدّام، ويجد نفسه في الشّعار السّلفي، انتشى وانتشت به السّلطة في اللّحظة الذّهبيّة. أرادت السّلطة أن تُظهِر الاعتصام الشّعبي في دوّار اللؤلؤة على أنّه خطّة طائفيّة، صفويّة، ترتبط بالعدو الإيراني، فأسرعت إلى إصدار الأوامر بأن يجتمع كلّ الطّيف الآخر على هذه الهويّة، ويبدأ التجمّع من مكانٍ يؤكّد على المعنى الاصطفافي للهوية: جامع الفاتح، بما أنّه رمز لعائلة آل خليفة، ودار عبادة للطائفة السّنية الكريمة.
وهكذا كان. لقد أبدع هاشم في تأكيد هذه الهويّة المزدوجة مراراً، وبلا شُعور يُذكر باضطراب الشّخصية. قال: "أربعون سنة كنّا في موتٍ سريري". ويكفي ذلك. أُلحِق عبد الله هاشم بالتجمّع الذي يُراد له، كالمارد النّائم، أن يستيقظ ويفضّ الغبار عنه. إنّه – هاشم - ذيلُ المارد. الذّيلُ الذي لا يسكن في مكان أو على حال، ولكن لا يضرُّ قطْعه والتّخلّص منه.