وأخجل من دمع أمي..
2011-05-30 - 11:18 ص
"وأعشَقُ عمرِي لأني إذا مُتُّ، أخجل من دمع أُمي"..
محمود درويش
مرآة البحرين (خاص): يروى، أن امرأة دخلت على تيمور لنك، القوة التي نشدت تدمير العالم بأسره. دخلت عليه حافية القدمين ممزقة الثياب. قالت له دون أن ترجف يدها: "أعرني سمعك، فمهما قدّر لك أن تفعل، لن تعدو أن تكون رجلاً. أما أنا فأم. أنت تخدم الموت، وأنا أخدم الحياة، وقد أثمت في حقي، ومن أجل ذلك جئت أسألك التكفير عن جريمتك. أخبروني أن شعارك هو "في العدل تكمن القوة"، ولست أصدق هذا، يتعين عليك أن تكون عادلاً معي، لأنني أم".
كانت القوة التي تتحدث بها هذه الأم كافية ليظن كل من في المجلس أنها مجنونة، ولينصت لها تيمور لنك. سألها عن حكايتها وسردت له كيف خُطف ابنها من قبل قراصنة (بايزيد) بعد أن قتلوا والدها وزوجها، وكيف بقت تبحث عنه أربع سنوات كاملة، قبل أن تسمع أن تيمور، قد قهر (بايزيد)، واستولى على جميع ممتلكاته. طلبت منه بلهجة يختلط فيها الرجاء بالأمر: "يجب أن تعرف أين ولدي. يجب أن ترده لي. فأنا أمه، وأنا أحبه". كان خطاب الأم كافياً ليقلب موازين تيمور لنك، وليذعن بكل جبروته لقلبها، ويأمر بالبحث عن ولدها.
هي الأم، خلقت لتخدم الحياة، الحياة فقط. تخدمها بيقين الحب. اليقين الذي لا يغادرها حتى في أحلك ساعات التهتك والانهيار، حين يكون الأمر متعلقاً بابنها. حكايات الأمهات، لا تشبه حكايات السياسة في شيء. فالأم لا تعرف مثل الحب، والسياسة لا تجهل مثل الحب. الأم لا تعرف مثل التضحية بنفسها، والسياسة تضحية بالآخرين.
الأم هنا في بلدي، لا تشبه إلا تلك الأم. الابن المغيب في السجن. المختطف من حضن الحب. المجهول المكان والمصير. تنتظر. من تقصد غير الله؟ :"رده لي، فأنا أمه، وأنا أحبه". هكذا تفتح أم محمود كلماتها على الله، ومعها قلبها. بيقين الحب تقول: "قلبي يخبرني أن الله سيعيده لي سالماً". لا يفتر لسان (أم محمود) عن ترديد هذه الكلمات. مضى على غيابه عنها ما يقارب الشهرين، اعتقل من البيت فجراً. غُمم رأسه برداء النوم الذي كان يرتديه، وشدت يداه من الخلف بالكلبشات، وأُركب سيارة الأمن، ومنذ حينها لم تسمع عنه خبراً واحداً. لم تتسلم حتى اتصال واحد يطمئنها عن مكان تواجده أو صحته. سألوا عنه في مراكز الشرطة القريبة أكثر من مرة. في كل مرة يكون الجواب: اتركو لنا رقم هاتفكم وسنخبركم إذا ما توفرنا على معلومات. حتى الآن لا جواب. لكنها في يقين عودته.
ليلة الجمعة من كل أسبوع يلتم شمل العائلة، تقول لأخوته: "بحول الله سيكون معنا الأسبوع القادم"، يمر الأسبوع ولا يأتي. لكنها لا تيأس. باليقين نفسه تعيد قولها الأسبوع الذي يليه، أسبوع يمر، يلحقه آخر، وهي تعيد القول نفسه، باليقين نفسه. ينكسر القول مرة على مرة، تتغير نبرة الصوت والحزن الذي يخرج عن قرارة القلب، لكن اليقين لا ينكسر، وحول الله يبقى هو حولها الوحيد الذي تعوّل عليه.
الصلاة والدعاء هو كل مالدى أم محمود، والصبر والانتظار والأمل. تتابع الأخبار والتطورات التي لم يكن لها بها شأن يوماً. تتأمل انفراجاً يعيد لها وللأمهات أبناءهم المغيبين في السجون. كلما سمعت نبأ إفراج عدد من المعتقلين، وضعت يدها على صدرها وراحت تترقب هاتفاً يرد لها خبرا، يحقق يقينها.
بيقين عودته لها سالماً، خصّصت أم محمود في بيتها مكاناً لاستقبال من سيأتون لمباركتها بعودته، جهزته بأثاث جديد يليق باستقبال محمود والمهنئين. أعدت المكان ليوم تستعيد فيه قلبها المخطوف. انتهت من توظيب المكان وتهيئته. وأقفلت عليه باب الفرح. كي لا يشاغب حزنها ما وراء الباب الموصد. ثم راحت تنتظر، هي والمكان هذه المرة. المكان واقف ينتظر الحدث الذي يجعل منه شيئاً يستحق الفرح، من يهبه حرارة التهاني والقبلات، وهي تنتظر ما يرد لها قلبها المختطف. هو ساكن كالموت، وهي مضطربة كالحياة. لا زالت تنتظر نهاية كل أسبوع أن يكون محمود في حضنها، وما زالت تقول لأخوته كل أسبوع: "سيكون معنا الأسبوع القادم". وتنتظر.